شعار قسم مدونات

قهوة برائحة منكوبة

blogs coffee 2
البلاد التي تمتد على زاوية الخريطة باللون الأخضر أصبحت جافة تماماً كقطعة يابسة لم تخضر يوماً ما، البن، البخور، الفواكه والسمك، كل تلك الخيرات التي كانت تحبل بها السعيدة في مواسمها القديمة أصبحت أشبه بخيال لا يزورنا إلا لمماً..

العجوز الذي يسير على عكازة مشروخة لا يكف عن التحديق في الأفق رغم انه لم يعد يبصر شيئاً، يتحدث عن الفأرة البيضاء التي هدمت السد القديم فتفرق كل أحفاد سبأ إلى مختلف البقاع التي أصبحت موطناً جديداً لهم.

التاريخ لا يموت. قال العجوز ذلك وصمت طويلاً قبل أن يشرع في همهماته التي لم تعد نفهمها سوى الرياح والاشجار، لم يعد أحد ممن حوله يشاركونه الرأي في أن الخراب لم يبدأ اللحظة بل بدأ في لحظة سابقة، كانت بعيدة بعيدة عن الذاكرة التي تعيش بها الأجيال اليوم.
 

لم يكن سقوط الحكم من ذي يزن هو النهاية بل كان البداية لتاريخ طويل من الحروب والدماء، الرسي الذي جاء ببشرته البيضاء ولحيته الكثيفة كرس خرافته حول الدم المقدس حتى يصنف البشر مجدداً ليس بناءً على اللون كما هو معتاد بل على أساس الحق الإلهي الذي لن يشك في أمره احد من سكان هذه الأرض الدينة.


عندما ترك علي صالح دراجته أمام بوابة أحد المعسكرات وقرر أن يأخذ المهمة الانتحارية كان ينوي سراً أن ينحر كل شيء في سبيل الملك

من عبادة الشمس إلى عبادة الملوك، إلى عبادة الحروب، إلى عبادة الأقوى مرت خبرات هذه الأجيال المتعاقبة، لذا كانت حجة نصرة آل البيت حجة مقنعة لمن اعتادت نفسه البذل في سبيل قضية قد لا تعنيه، الأمر يتعلق باستلاب العقول كما كان يحدث في كل الحضارات، مط العجوز شفتيه وأشار إلى مقبرة قريبة: هنا يرقد الثلايا..
وأشار إلى الأفق البعيد: وهناك يرقد الزبيري..
وهناك يرقد الحمدي..
وهناك يرقد آخرون نسي التاريخ اسمهم لكن الريح لم تفعل، لا زالت تزورهم كل لحظة تخبرهم بان موسم الحرب لم ينتهي بعد.
 

عندما ترك علي صالح دراجته أمام بوابة أحد المعسكرات وقرر أن يأخذ المهمة الانتحارية كان ينوي سراً أن ينحر كل شيء في سبيل الملك..
لم يكن من عادة الملوك الذين جاؤوا من وسط الشعب أن يكونوا لؤماء بهذا القدر، زمّ شفته: لكن صالح كان ذلك اللئيم الذي لم يتوقع مجيئه كل اليمنيون من أزل التاريخ، جاء في موسم الصيف لاهباً كقطرة عرق لا تروي اي شيء سوى ظهر صاحبها..
جاء لتختنق سنابل البن إلى الأبد..

جاء ليصبح اليمنيون أكبر شرذمة في خارطتهم، يحمل كل منهم لقبه وخارطة حية ويظنه وطناً، ولم يكف صالح للحظة عن الترويج لتلك الرغبات المتناحرة ليكون ملك الثعابين بامتياز..
بعد ثلاثة عقود من جفاف الخير، لم تطل بلقيس جديدة، ولم يخرج ذي يزن جديد، فكل اليمنيون أصبحوا اشبه بسنابلهم المحنطة، حتى الحلم أصبح ثقيلاً على ملامحهم السمراء، لان الكابوس أصبح واقعاً يجثم على أرض السعيدة، وكان لزاماً عليهم أن يتكيفوا معه..

أشتهي كوب بن، قال العجوز لحفيده الذي لا يمل من سماع كلمات جده المتقاطعة، لكنه مؤخراً بدأ يشك في أن جده يدخل مرحلة الخرف دون أن يشعر، ورغم ذلك بقي لديه يقين قاطع بان مرحلة التخريف لن تسلب جده القفز فوق كل حواجز الحاضر والعودة إلى صفحة التاريخ، التاريخ الذي لا ينسى كل فصل ويعود كما جاء من قبل، لكن ياليت قومي يعلمون كما يكررها جده مراراً وتكراراً.
قفز الفتى ليحضر القهوة التي يعشقها جده..

سأل الجد حفيده: قل لي يا يزن هل كنت معهم عندما حملوا أقلامهم ووقفوا عن دورا الإيمان يمان والحكمة يمانية أمام جامعة صنعاء؟
ابتسم الحفيد بحزن وأشار برأسه موافقاً: لكنهم لم يدعوا الحلم ينموا يا جدي !
الحلم لم يمت بعد يا يزن، سيعود قريباً..

لكن الحرب ضرورة يا جدي، إننا نموت في جبال تعز وفي صحراء مارب وربوع البيضاء.. يجب أن نقاتل حتى ننتصر، قالها الحفيد بإصرار..

تماماً مثل النبتة التي تخنقها الصخور ثم تعود مجدداً لتغني للشمس، للريح، لتنجب قمحة أو حبة بن أو لوز، أو شعير، لتصنع خضرة هذه الأرض وسمرة هذه الملامح الطيبة التي نحملها، الحلم لا يموت يا بني، الحلم يختفي عندما لا يجد الكتف القوي الذي يستند عليه، لكن بمجرد أن يعود ذلك الكتف يقفز الحلم مجدداً إلى ذراعيه ليصير وردة تشع بهاءً، أو طيراً يصدح غناءً…
الحرب تأكلنا يا بني، تمزق أطراف الحياة التي نتدثر بها، الحاقد الصغير صالح لم يكن هو أسوأ شيء حل على اليمن ليصنع موسم خرائبه، عبد الملك الحوثي أيضاً يسعى لأن ينال نفس اللقلب (ملك الثعابين)!

لكن، هل نحن ثعابين يا جدي؟! سأل الحفيد جده..
الثعبان لا يرى في واقعه إلا الأخطار..
والنحلة لا ترى في واقعها إلى البساتين والازهار..
لسنا ثعابين يا بني، نحن سنابل حلم تنتظر موسم إزهارها، لكن زمن الخوف طال، وآن له أن ينقضي، يجب أن ينقضي قريباً قبل أن يجف ماء الحلم في أفئدتنا فلا نستطيع أن نشعر بالحياة..
كيف السبيل إلى ذلك ؟! سأل يزن بصوت هامس
لن نصل إلى ذلك إلا إذا توقف زمن الحرب..

لكن الحرب ضرورة يا جدي، إننا نموت في جبال تعز وفي صحراء مارب وربوع البيضاء..
يجب أن نقاتل حتى ننتصر، قالها الحفيد بإصرار..
يا بني يجب أن تقاتلوا حتى يعيش الحلم، وحتى تعود الأرض الطيبة طيبة كما كانت من قبل..
لن يطول زمن الثعابين ، صدقني، لكن حتى يحين موعد سقوط تيجانها المسمومة عليك ألا تتوقف عن السعي لتحقيق حلمك..

يحضر الحفيد القهوة، يحتسي الجد بعضاً منها ثم يتركها لان رائحتها أصبحت مثقلة برائحة البارود والحزن والوجع..
يحدق الحفيد بجده، يحضر مكعبات السكر، لا يبتسم الجد، يحدق فيه طويلاً ثم يهمس له: لا يجب أن نتوقف عن الشعور بالحلم في دواخلنا..
حلم الأرض السمراء والطيبة في أن تعود مجدداً بلدة طيبة ورب غفور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.