شعار قسم مدونات

الاحتلال الذي نصفّق له

blogs - usa

يُعرِّف مالكوم واترز العولمة بأنها "كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد أو بدون قصد إلى دمج سكان العالم في مجتمع عالمي واحد" أو هي ببساطة جعل العالم قرية كونية صغيرة،  وأن نلتقي رغم المسافة و ننسى الإختلاف ونتعارف ونندمج في إطار واحد يجمعنا كلّنا.

القرية الكونية التي تحدّث عنها مالكوم واترز صارت واقعنا اليومي؛ اختزلت التكنولوجيا المسافات الحقيقية التي تفصلنا بفضل وسائلها الذكية و أدواتها الجبّارة، وتكفّلنا نحن باختزال المسافات والحواجز الثقافية بيننا وبين الغرب عموما و أمريكا تحديدًا، فعلنا ذلك بتلقائية حيث لم نكن نعلم حجم العواقب المترتّبة عن رغبتنا في "تقليد الغرب من أجل اللحاق بهم".

حين تمّ تقليص العالم إلى قرية صغيرة، تمّ اختزال ثقافتنا و تقاليدنا واستبدالها بثقافة أمريكية مُعلَّبة جاهزة للاستهلاك.

فمن الطبيعي أن ينهض الشاب نافرا من التخلف الكئيب الذي تغرق فيه بلداننا، و أن يرفض الواقع الذي يعيش فيه و يسعى إلى تغييره للأفضل، ومن الطبيعي أيضا أن ينظر إلى الغرب المتطوّر على أنه القدوة فيما وصل إليه من علوم واختراعات وتكنولوجيا وأن يسعى لبلوغ مرتبته، وأن يقوم بتقليده في اجتهاده في سبيل التحسين. لكن الغريب والمثير للسخرية هو أن يُصَبّ اهتمامنا على جمع القشور وأن نترك اللب والجوهر!

ما نراه اليوم هو كارثة حقيقية، فكل ما نأخذه من الغرب هو موضة السروال الممزق وقلة الأدب و انحراف الأخلاق والاهتمام المفرط بالمظهر، نصدق كلمات الأغاني ومشاهد الأفلام وندخل في دوامات لا حصر لها فننسى أنفسنا و ننسى السبب الحقيقي والهدف الرئيسي الذي دفعنا إلى دخول عالم الغرب في البداية، والنتيجة انحلال كبير و تقدم رهيب.. إلى الوراء.

اليوم، الأمريكي الذي يزور مدننا الكبرى ويلتقي بنا ويتعرّف على أفكارنا سيلاحظ مقدار التشابه بيننا و بينهم، وقد يُخيَّل إليه في الكثير من الأحيان أنه لم يغادر وطنه أمريكا أبدًا، فهو يجده مع كل خطوة يخطوها في بلداننا بدءًا بمطاعم "الفاست فود" التي تختنق بها الشوارع إلى طريقة اللباس، وتسريحات الشعر وأنواعُ الموسيقى التي كان يسمعها في بلده هي نفسها التي تتردد في محلاتنا التجارية وسيّاراتنا وهواتفنا.

و بالطبع فإننا نشاهد نفس الأفلام ونتشارك في الغالب نفس الإهتمامات ونفس الرِؤى والتصورات و الأحلام. في النهاية لا يمكنه إلا أن يستنتج بأنّنا كلّنا أمريكيون لحدٍّ ما.. إذن تم تطبيق نظرية العولمة بنجاح على حسابنا.

حين تمّ تقليص العالم إلى قرية صغيرة، تمّ اختزال ثقافتنا و تقاليدنا واستبدالها بثقافة أمريكية مُعلَّبة جاهزة للاستهلاك. ضاعت آلاف السنين من الوجود الإنساني والتقدم الحضاري في بلداننا، كل ذلك الجهد الفردي و المجتمعي المبذول لبناء هويّتنا ذهب في مهبّ الريح.

إنّ مجرّد تصفّح صور الناس الذين عاشوا في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في مختلف بقاع العالم يجعلنا نَعِي حجم الثروة الثقافية التي خسرها العالم.

قد يبدو لنا أنّ إهمالنا لمقوّماتنا الثقافية البسيطة كاللباس التقليدي والطعام التقليدي و مراسيم احتفالنا بالأعياد والمناسبات وغيرها، أمرٌ بسيط لكن الحقيقة هي أن المجتمعات التي تتنازل مرّة عن اللباس و مرّة عن اللغة وأخرى عن الاتجاه الفكري والكيان الثقافي ستتعوّد على التنازل وستخسر كل شيء، و هكذا يفقد المجتمع ذاته و جوهره وتنكسر همزة الوصل التي تربطه بماضيه و جذوره.

ولا يمكن بناء الحاضر في غياب قاعدة صلبة اسمها التاريخ. لقد حان الوقت لكي نلقي نظرة على ثقافتنا الخاصة، لنسأل عن هويّتنا ونبحث عن ذاتنا المستقلّة الأصيلة، نزيل عنها ما يشوّهها و نحتفظ بالطيّب الصافي منها، ونطوّرها بما يتناسب مع مبادئنا واحتياجاتنا ومع عصرنا.

العولمة أو ما يسمّى بِأَمْرَكَة العالم لم تُركّز اهتمامها على الشعوب العربية والمسلمة فقط، إنما غرست أنيابها في أقطار العالم الأربع. صارت الثقافة الأمريكية تخيّم على كل بلد على كل مدينة، وعلى كل مجتمع، صارت شبحًا يقتل الإختلاف اللذيذ الذي يثري هذا الوجود و يزيده جمالا و روعة، ويفتك بنا بسمّ المُستنسَخات المملّة.

إنّ مجرّد تصفّح صور الناس الذين عاشوا في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في مختلف بقاع العالم يجعلنا نَعِي حجم الثروة الثقافية التي خسرها العالم حين قرّرنا أن نخضع للطرف الأقوى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.