شعار قسم مدونات

لماذا نخاف على التيار السني؟!

BLOGS - IRAN
العرب والعروبة اليوم مهددون بصورة غير مسبوقة، فلم يحدث منذ ألف وأربعمئة عام أن تعرضت العروبة -بوصفها هوية ثقافية وجغرافيا سياسية- للتهديد كما تتعرض له الآن من قبل إيران.

صحيح أن المنطقة العربية -وخصوصا الجزيرة العربية- قد تعرضت لاجتياحات عسكرية كبيرة من قبل، مثل الاجتياح المغولي والسيطرة التركية، إلا أن مخاطر تلك الاجتياحات وآثارها تظل محدودة بالنظر إلى مخاطر التهديد الإيراني.

لقد مثل التيار السني -برغم ما عليه من مآخذ- الامتداد الطبيعي للعقل العربي، ونظامه المعرفي الخاص.

أما المغول فقد دمروا ما دمروا ونهبوا ما نهبوا، لكنهم في نهاية المطاف غادروا المنطقة العربية بعد أن تحلل بعضهم في المجتمع العربي، وعادت أغلبيتهم من حيث أتت محملة بالثقافة الإسلامية دون أن تخلف في المجتمع العربي أي صراعات اجتماعية أو مشكلات ثقافية.

وأما الأتراك فقد احتفظوا بهوية خاصة فلم يندمجوا تماماً في المكون العربي كما فعل المصريون مثلاً، لكنهم اندمجوا في الثقافة الإسلامية والتحقوا بالتيار الرسمي للمسلمين، أعني التيار السني، ومن ثم لم يخلفوا مشكلات اجتماعية أو ثقافية جسيمة، وليس عليهم من المآخذ الحقيقية سوى إهمالهم للغة العربية وللثقافة العربية من ثم، وهو الأمر الذي أدى إلى ضمور خطير في الهوية العربية، تسبب في مضاعفة الإعاقة العربية والإسلامية التي سميت بعصور الانحطاط.

أما التهديد الإيراني الحالي فهو حالة مختلفة، فعلى الرغم من أن المكون الفارسي قد أسهم في الماضي بصورة كبيرة في تشكيل العقلية الإسلامية والهوية العربية، بواسطة كتيبة ضخمة من الأدباء والفقهاء المسلمين، إلا أن هذا الإسهام كان يأتي في مجمله من داخل التيار الأساسي في الحياة الإسلامية.

أعني التيار السني، الذي شمل طيفاً واسعاً من المذاهب الفقهية والفكرية. التيار الذي مثل النظام المعرفي البياني، وهو نظام عربي خاص، بحكم انتسابه إلى اللسان العربي، ويقابله –كما قال ابن رشد– النظام المعرفي البرهاني الذي اشتهر به الفلاسفة، والنظام المعرفي العرفاني، الذي اشتهر به المتصوفة والباطنية. ومن هذه الزاوية تأتي أهمية التيار السني الذي ساد في التاريخ لا من زاوية اللون المذهبي. لقد مثل التيار السني – برغم ما عليه من مآخذ – الامتداد الطبيعي للعقل العربي، ونظامه المعرفي الخاص.

أما فارس الجديدة فهي تبشر بشيء مختلف. إنها تبشر بعملية تحويل ثقافي وأيديولوجي وديمغرافي واسعة النطاق في الجغرافيا العربية. تحويل ستكون له آثار خطرة وعميقة على مستقبل المنطقة. أخطرها تأجيل حلم الديمقراطية، وتكريس الاستبداد السياسي عبر مشاريع الحق الإلهي في السلطة، وحرف بوصلة الصراع من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع عربي فارسي، من صراع على المستقبل إلى صراع على التاريخ.

وفي ظل التواطئ –وربما الشراكة– التي يبديها الغرب تجاه التوسع الإيراني في المنطقة، ستكبر كرة الثلج، وتتحرك رغبات كانت كامنة، للتصريح بهويات مغايرة للهوية العربية، مثل تلك التي أطلقها القس المسيحي السوري ثيودروس داود في مقال له بعنوان "لا، لسنا عرباً، يكفي كذبا وتزويراً وممالقة وعجزاً وخوفاً"، جاء فيه "السوري ليس عربيا، العراقي ليس عربيا، المصري ليس عربيا، اللبناني ليس عربيا، ولا الأردني ولا الفلسطيني، نحن مشرقيون، نحن روميون وسريان، وكلدان، وآشور وأقباط، نحن لسنا عربا يكفي اغتصاباً وتزويراً للتاريخ وللجغرافيا وللحقيقة وللواقع". والمفارقة أن هذا التصريح التاريخي قد خرج من البلد الذي كان يعد نفسه قلعة العروبة في العصر الحديث، أعني سوريا.

وبصرف النظر عن صوابية حديث الأب ثيودروس من الناحية المعرفية أو عدم صوابيته، إلا أنه يعد مؤشراً على تحول نوعي قد حدث داخل النظام السوري من ناحية، ومؤشرا على تحول مرتقب في الحياة العربية نفسها من ناحية أخرى، ما لم تحدث معجزة من نوع ما توقف حالة الانكماش العربي المتسارع.

والجدير بالذكر أن حديث القس السوري يأتي موافقاً للمنظور التوراتي في مسألة العرب، حيث تشير كلمة عرب في العهد القديم إلى البدو الرحل، وسكان وسط الجزيرة العربية، في حين تسمي سكان الهلال الخصيب وجنوب الجزيرة بأسماء خاصة، مثل بلاد سبأ، الأموريين، الكلدانيين، الموآبيين، الكنعانيين، إلخ. وهذا أيضاً هو منظور المصادر اليونانية والبابلية. وكان القرآن هو أول من أعطى لكلمة عرب هذا الاتساع بحيث تشير إلى قومية كبيرة تشكل أغلب سكان الجزيرة العربية.

القرآن تضرر كثيراً من قصور بعض علوم العربية، وغياب بعض العلوم الأخرى. كقصور نظرية النحو العربي، وغياب علم المعجم والمعجم التاريخي العربي.

لقد قام القرآن –كعادته– بعملية تصحيح مفاهيمي واسعة النطاق، طالت حتى المفاهيم القومية. وهو تصحيح مهم إذا ما علمنا أن القرآن يريد أن يؤسس للنظام المعرفي الخاص به، أعني النظام المعرفي البياني، الذي أشرت إليه من قبل. لأن القرآن بدون هذا التأسيس سيغدو ريشة في مهب التأويلات والتفسيرات التي لا تمت إليه بصلة.

لقد كان القرآن يؤمن خطوط الرجعة والإمداد التأويلي عندما يقول عن نفسه إنه نزل "بلسان عربي"، وأن الله قد أنزله "حكماً عربياً". فليس اللسان سوى القواعد والأعراف اللغوية، التي أشارت إليها علوم النحو والبلاغة -وهي علوم بيانية بالطبع- وليس الحكم سوى السقف الفلسفي لهذا اللسان، وباجتماعهما معاً يتكون النظام المعرفي البياني. وأي إضعاف للمكون العربي هو –بصورة من الصور– إضعاف للإسلام نفسه.

إذا ما علمنا أن القرآن قد تضرر كثيراً من قصور بعض علوم العربية، وغياب بعض العلوم الأخرى. كقصور نظرية النحو العربي، وغياب علم المعجم والمعجم التاريخي العربي. وهو القصور والغياب الذي أسهمت فيه عصور الانحطاط السابقة بدور كبير، وهو ما نخشاه من عصر الانحطاط الجديد الذي تبشر به إيران في المنطقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.