شعار قسم مدونات

القدس وحصار السرديات

blogs - aqsa
في الطريق المؤدي للقدس لم تفارقني صورة الوطن الذي شنقناه على مقصلة القصائد الطاعنة في الوطنية البلهاء والكوفية المرقطة بالغد المؤجل.. لم تفارقني صورة المقدسيين وهم يرصفون أحلامهم بعد صلاة الفجر، فإن شمألت شمألوا وإن أدبرت حملوا فؤوسهم وجرارهم الصلصال وولّوا سيقانهم للقصيدة ، وهم يلقون بالتحية على الليل الدونجوان وهو يجر قدميه كجندي قادم من طروادة..

في الطريق المؤدي للقدس تتغير هيئة الأسماء والصفات، وكل شيء يكتسب رائحة الشوراع الشهية، ويحمل تفاصيل الندى المتواطىء مع قبلة الياسمين.. تتكىء القدس على جبال الخليل، وتقع على مرمى قبلة من البحر الميت، إذ لا تتجاوز المسافة 20 كم ونيف.

ورغم أهمية القدس لدى ملايين المسلمين في كل بقاع الأرض، إلا أن الواقع السياسي والتاريخي المعاصر لا يخدم القدس ولا المقدسيين، وأمام كل الخيارات المتاحة، يبقى خيار الكتابة عن القدس واقعا وجوديا ومعرفيا وأخلاقيا في مواجهة كابوس التاريخ.

المشكلة السردية حول القضية الفلسطينية تكمن في الخطاب العاطفي أو الآيدولوجي بعيدا عن التصدي لتاريخ ساكني هذه المدينة وحمولتهم الثقافية والشعبية والوجودية.

الكتابة عن القدس ليست طيعة كما يظنها البعض، لأسباب تاريخية ودينية وأخرى سياسية وجمالية تجعل التشابك مع الأدب وسرديات القدس أمرا لا يفلت أبدا من قبضة ما كان يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي، والذي تحول لسرديات متناقضة وبراجماتية للتطبيع مع إسرائيل ثقافيا وأدبيا.

لست في صدد تخوين الكثير من الكتابات الأدبية، والتي أنسنت الجنود الإسرائيليين أو الوجود الإسرائيلي في فلسطين، فهذا أمر تفضحه نصوص هؤلاء الكتاب، ومخاتلاتهم السردية، ولكنني منذ سنوات، وهاجس الكتابة عن القدس يلح علي لأسباب وجودية وحضارية لا يمكن لأي مثقف عاقل أن يغفل عنها. وفي جلسة استمرت ساعات طويلة في مدينة عمان مع الروائي المصري يوسف زيدان، قبل عامين تقريبا، كان حديثه عن الوجود الإسرائيلي مخاتلا ومرواغا إلى حد بعيد، حتى أنني أذكر أنه اعتبر الوجود الإسرائيلي في فلسطين واقعا محمودا، لا يدرك العرب والفلسطينيون أبعاده الحضارية أو حتى الشرعية منها! فكانت نبرة صوته صهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم.

لا يتسع المقام لسرد تاريخ القدس كمدينة تاريخية ودينية وثقافية طاعنة في عمق حضاري يربو على خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، إذ تعاقب عليها الكنعانيون والعرب اليبوسيون والرومان والعثمانيون وغيرهم من الحضارات الإنسانية المدجّجة بالتنوع الثقافي واللغوي والتاريخي.

والسؤال الذي ينقضّ على الباحث الجاد والمثقل بسؤال المقاومة بكل تحولاته الجمالية والتاريخية والسياسية هو: عن أي قدس نتحدث هنا؟ هل هي القدس التاريخية ومهد الحضارة الإنسانية والتي طرد منها المقدسيون، أو قتلوا؟ هل نتحدث عن القدس (أورشليم)، والتي هودت جزئيا، وصارت مجازا سرديا وسياسيا صارما يشرعن الوجود الإسرائيلي، كعاصمة أبدية لدولة إسرائيل؟ هذه الدولة التي توسلت بسرديات المحرقة اليهودية على يد هتلر، واتكأت على مبررات دينية يهودية مسّيسة، بعد أن ترجم وعد بلفور لواقع مشؤوم، من قبل إمبراطورية إنجلترا، ثم صار الوجود الإسرائيلي ممنهجا وواقعا استعماريا يتجلّى في كل تفاصيل وأدبيات السياسة والأدب؟

القدس المتخيلة والقدس التي نكتبها:
ربما يتجلى مفهوم الخفة التاريخي بصورة مجازية في شعر محمود درويش في محاولته للتصدي للجغرافيا الضيقة في أسطرة القدس بعيدا عن واقعها اليومي أو التاريخي أو حتى الزمكاني. فالاختزال التاريخي لمدينة القدس تجلى في صور نمطية وسردية، والتي يحاصرها المؤرخون والشعراء والروائيون في جرارهم الهشة، وكأنها تاج بلقيس، أو عصا موسى، أو بردة الرسول. والمشكلة السردية هنا تكمن في الخطاب العاطفي أو الآيدولوجي بعيدا عن التصدي لتاريخ ساكني هذه المدينة وحمولتهم الثقافية والشعبية والوجودية.

ولعل هذا الاحتفاء الانطباعي الهش دفع بالشاعر محمود درويش لكتابة قصديته "في القدس"، والتي تعيد كتابة المخيال الشعري في استنطاقه للبعد الجمالي والفلسفي للقدس، في محاولة يتصدى لها الشاعر الفيلسوف، وهو يقارع بخوذته ورمحه سهام المتزاحمين على أسوار القدس، وهم يصلون أمام حائط المبكى نهارا، ويمزقون كتب التاريخ وأرشيفه المقدسي ليلا، وكأن الرواة ينبجسون من "حجر شحيح الضوء" ، والشاعر الفيلسوف يعيد كتابة كل هذا الضوء قبسا لا ينطفىء، على طريقة بروميثوس الذي سرق النار من زيوس وأهداها للبشرية جمعاء.

يقتبس محمود درويش كلام النبي أشعيا من العهد القديم"إن لم تؤمنوا لن تأمنوا":
في القدس؛
أعني داخل السور القديم؛
أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى تصوبني ..
فإن الأنبياء هناك يقتسمون تاريخ المقدّس،
يصعدون إلى السماء و يرجعون أقل إحباطا و حزنا؛
فالمحبة و السلام مقدسان و قادمان إلى المدينة.

كنت أمشي فوق منحدر و أهجس:
كيف يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟
أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟

أسير في نومي.أحملق في منامي.
لا أرى أحدا ورائي.لا أرى أحدا أمامي ..
كل هذا الضوء لي..
أمشي؛ أخف؛ أطير ثم أصير غيري في التجلي ..
تنبت الكلمات كالأعشاب من فم أشعيا النبوي ّ:
" إن لم تؤمنوا لن تأمنوا".

الكتابة فعل توثيق تاريخي وثقافي يتوسل به المثقف الفلسطيني والعربي أمام جرافة التاريخ والتطهير العرقي والثقافي الذي تمارسه إسرائيل ويمارسه الكتاب الإسرائيليون أمثال عاموس عوز وشاني بوينجيو صاحبة رواية "الشعب الأبدي ليس خائفا".

وكما يؤكد المؤرخ الفلسطيني الأمريكي رشيد خالدي، فإن الرواية الفلسطينية للقدس والقضية الفلسطينية تحتاج لسرديات عبقرية في إعادة تجديد وقراءة الهوية الفلسطينية، ومقاومتها للمد الصهيوني السردي والتاريخي والذي يسعى لأنسنة الوجود الاستعماري الإسرائيلي ليس فقط من خلال القوة ولكن من خلال الأدب والثقافة.

يقول الروائي الصهيوني ميخا يوسف بيرديشفسكي "إن ماضينا هو الذي يمنحنا الحق التاريخي والهوية كي نحيا الغد الذي نريد".

فكرة العودة للقدس الزمكان كانت حاضرة في مخيال المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، عندما صرح ذات لقاء لصحيفة فرنسية أن شعورا سرياليا طاغيا يتملكه من سنوات تجاه فلسطين عامة، وتجاه القدس خاصه. وربما كان سعيد مسكونا بمجاز المكان أكثر عندما قال "بيتي على بعد خطوتين ولكنه ليس لي.. الأرض كلها فندق كبير وبيتي هو القدس.

وفي السياق نفسه، يرى علي بدر أن الكتابة السردية هي فعل جمالي يعيد كتابه إدوارد سعيد المفكر من خلال السرد الروائي. فعلي بدر مثلا يذكر في روايته "مصابيح أورشليم، " أن أفضل ما يمكن فعله هو إعادة سرد الأساطير لتفنيدها، وتفكيكها، وكشف هشاشتها. وهنا يقول علي بدر“ها هو إدوارد سعيد يخرج من أرضه ويدخل بدلا منه ابراهيم، ها هو إدوارد سعيد يبحث عن أرضه، وها هو عاموس عوز يسكنها ويكتب بها رواياته".

وفي رواية الكاتبة الإسرائيلية شاني بيونجيو، والتي احتفت بها صحف النيوورك تايمز وواشطن بوست ومجلة وول ستريت، والموسومة بعنوان "الشعب الأبدي لا يخاف"، يقول الراوي وهو يخاطب الجندية يائيل "اسمعي يا يائيل "لقد قتل ميلر شجرة الزيتون.. ما أقسى أن تموت شجرة الزيتون يا صديقتي".

ثمة خيانة ثقافية لا يمارسها فقط المثقف العربي المقاول، كما يسميه المفكر التونسي الطاهر لبيب، بل خيانة أخلاقية يمارسها كتاب صهاينة ديدنهم هو محو الرواية الفلسطينية من الأرشيف التاريخي من أمثال بنسكر وهرتزل وأحاد هاعام. ولا ننسى مقولة الروائي الصهيوني ميخا يوسف بيرديشفسكي "إن ماضينا هو الذي يمنحنا الحق التاريخي والهوية كي نحيا الغد الذي نريد".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.