شعار قسم مدونات

جثث الملائكة

blogs - palestine
رميت جسدي المثقل بالهموم بعد يوم شاق متنقلا بين الحواجز الإسرائيلية من الجامعة للمنزل أحاول الهرب من صور الإذلال التي أتعرض لها يوميا في طريق الدراسة ومشاهد القتل والأسر والتنكيل التي عبَّأت ذاكرتي حتى كدت أنفجر، منذ أسبوع وأكثر تفاقمت الممارسات الإسرائيلية العنصرية تجاه المقدسيين خاصةً، والكل الفلسطيني عامةً.

يختفي صوت أحمد قعبور تدريجيًا من أنشودته أناديكم التي لا يستجيب لها إلا المذياع!
ليعلو صوت المذيع معلنا نبأ استشهاد هديل الهشلمون إثر رشقها بخمسة عشر رصاصة وذلك بعد رفضها إجراءات التفتيش الجسدي المهين الذي يمارسه الاحتلال وإجبارها على خلع الحجاب. منهيًا هذا اليوم بوجع في القلب وحزن في الروح ودعوات للانتقام.

في تحدٍ مع الزمن والألم، أخرجت السكين من مكمنها وانهلت على المستوطنين طعنًا واحدًا تلو الآخر، شعرت أنني أزحت الحمل عن ضميري.

تتكئ عقارب الساعة بشكل رتيب على أكتاف بعضها البعض، معلنة استواء جسدي ّالصباح والمساء، منذ عدة أشهر وأنا أعقد هذه النية فقد أذابت روحي مشاهد القدس وحرائرها، وأغلى الدم في عروقي، وحدثتني نفسي قائلةً إن لم أتحرك أنا فمن ذا سيفعل!

اتخذت قرارًا لا رجعة فيه حملت جسدي وذهبت به إلى "المطبخ" وانتقيت أثقل وأمضى سكين لدى أمي، خبأتها تحت الهندام، ثمّ وزعت نظراتي نحو أهل البيت مودعًا، وهم لا يعلمون!

أطلقت قدماي للريح مجتازًا عدة حواري، لأصل لقلب المدينة حيث التجمعات الاستيطانية للمستوطنين، أخذت أسير بحذرٍ شديدٍ منتظرًا أحرّ فرصةٍ تواتيني لأنهي هذه المهزلة!
اقتربت من المستوطنين وفجأة شعرت بألم في قدميّ كاد ينكصني عن عقبي!

في تحدٍ مع الزمن والألم، أخرجت السكين من مكمنها وانهلت على المستوطنين طعنًا واحدًا تلو الآخر، شعرت أنني أزحت الحمل عن ضميري، شعرت أن المستوطنين جميعهم قد سقطوا إثر ضرباتي، تعالت الأصوات وجاوز وقع الأقدام التي تهرع للمكان حيز الحصر، حوصرت، هذا ما تبادر لذهني ولا شيء غيره لم أستطع أن أفكر في شيء حينها كانت تلوح لي من بعيد عيني أمي ولم أعِ غير ذلك، سارعت الرصاصات لتستقر في جسدي، اخترقتني بعنف، هناك من بعيد رأيتها ثم بدلت حواسي العين بالشعور، تتمزق الخلايا هنا بين الرأس والصدر، ترنحت، شددت قبضتي على سكيني وكأنها تذكرة سفري لعالم آخر.

ارتطم الجسد بالأرض، وظلت روحي تطوف حول كعبتها وتبتهل! أُسرت، في سيارة تسمى إسعاف بينما حقيقتها ليست كذلك، ألقي هذا الجسد، أوصي بنقلي لثلاجة الموتى وسط كثير من عمليات التعذيب بالركل واللعنات، كم تمنيت أن يعلموا لم تكن إلا بردًا وسلامًا.

سُجل رقم هويتي واسمي في ورقة علقت بطرف إصبع القدم، أغلق عليّ الباب حيث مثواي المؤقت. صدحت المنصات الإعلامية الإسرائيلية والفلسطينية بين عملية إرهابية واستشهادية، بين فرح وحنق، علو همة وخوف، بين دعوات للسير على ذات الطريق، وأخذ أقصى درجات الحيطة والحذر ممن سينوون فعل فعلتي الممجدة بألسنتنا والملعونة بألسنتهم.

ترفرف الروح حول جنبات مثواي الأول، باحثة عن خليلة الروح ومهجة الفؤاد وضي العين أمي، ضاحكة مستبشرة كما عهدتها، رابطة على قلبِ من دخل عليها باكيًا أو مولولًا، يمتلئ البيت عن آخره مقدمين بين يدي أهلي أسمى آيات الصبر والسلوان، ليفض الجمع بقوة الجيش الإسرائيلي للاعتداء والتفتيش، يتقهقر الجند بفعل تكبيرات المتواجدين. يتجه والدي ولفيف من العائلة تتقدمهم روحي لاستلام جثماني، بيد أن المستشفى تعلمهم أنه سيتم حجز الجسد بناء على أوامر عسكرية حتى حين.

تتخطى روحي كل الحواجز، وكأني أسمعها تشاطر الجسد خليط مشاعره فتهمس له تارة ما كان بعد أن افترقنا، عن حال أمي أهلي وأصدقائي، وقرارات الجيش ببقاء الجسد رهينة لتخويف الثائرين، ليرتج الجسد خوفا من مستقبل ضبابي له، تظل الروح تربت فوق قلبي أن مآلي لمثوى أخير سوف يحين، وأن السائرين على ذات الطريق كثير، وستمتلئ الثلاجات بأجساد شتى.

طافت الروح بجسدي مشرقة ذات صباح هامسة أنه قد أزف الرحيل، ولابد من فراق لا لقاء بعده، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

تمتمات عبرية تقطع ما كان بين الروح وجسدها من حوار، يفتح باب الثلاجة يسحب الجسد للخارج تنهال عليه اللكمات واللعنات والدعوات بالحرق والسرقات وكأن الله أوحى للجسد أن يتحرك، أو هكذا شبه لهم، ليغادروا المكان كمن أصابه مس من الجن.

طافت الروح حيث أمي، وجدتها مستيقظة على غير العادة، اقتربت منها لتبث فيها طمأنينة، أسرعت أمي لإيقاظ والدي مخبرة إياه أني هنا، قام والدي فزعًا، ردد مستغفرًا محاولًا ثني أمي عن قولها، هامسًا بأن ابننا قد استشهد وحجز جسده، ويومًا ما سيدفن، وسنلتقي به في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
كان بود روحي أن تخاطبها، أن تقول لها أنا هنا كما لمستِ، أنا هنا يا مهجة القلب أفكر بك حتى بعد الموت، كنت أرغب في أن أقبل يدها، أن أطلب منها الغفران لذهابي دون وداع، لكنني وثقت بإيمانها بالله وما أعده لنا، نحن الذين اشترينا الآخرة بالدنيا.

مضت الأيام وكثر عدد المؤنسين، وزاد عدد الأجساد المحجوزة في ثلاجات الموتى، جمعني الموت بأناس أطهار لم تجمعني بهم الحياة كثر الحديث بين أرواحنا، مضت الشهور تلو الشهور والأرواح في حاجة للانعتاق، زاد حنين الأجساد لتراب الوطن، ودفئه، تحركت الجموع مناهضة بما يفعله بنا الجيش الإسرائيلي، من احتجاز، وتفاوتت الردود الرسمية، والشعبية، حتى استجاب الجيش مرغما ليسملنا تباعًا في دفعات.

طافت الروح بجسدي مشرقة ذات صباح هامسة أنه قد أزف الرحيل، ولابد من فراق لا لقاء بعده، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، يسأل الجسد برجاء روحه أن تبقى حتى المسيرة (الجنائزية) وتلقي عليه نظرة أخيرة قبيل الدفن. تم تسليم الجسد للأهل، بكت أمي بحرقة دثرته بدمع العين، لُف بإزار أبيض، شيع بسيل هادر من المحبين، ورتلت آيات بينات محكمات وكثير من الدعوات. استقر جسدي أخيرًا في مثواه الأخير وانهال عليه التراب شوقًا، ابتسم للروح شاكرًا صنيعها مؤكدًا أن اللقاء بينهما قاب قوسين أو أدنى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.