شعار قسم مدونات

"Gravity".. درسٌ في قاعة السينما..!

Blogs-GRAVITY
ذات مرة وفي إحدى الدروس التي أقدمها في مبحث الفيزياء، جهزّت فلما من خمس دقائق حول الموضوع وأذكر كان حول مفهوم "Inertia" "القصور الذاتي للأجسام"، قانون نيوتن الأول في الحركة، الجسم الساكن يبقى ساكنا ما لم تؤثر فيه قوة.. إلخ، الفلم "أنمي"، كرتوني، مترجم، لكن حتى بلغته الأم كان واضحاً سهلاً سلسا وقديما بعض الشيء، رغم هذا صاحت الطالبات فور انتهائه "مس خلص فهمنا الدرس" فعلاً كانت الفكرة قد تم عرضها بمنتهى اليسر والسهولة عبر الفيلم، وبطريقة مرحة بدائية وذكية.
 

فيما بعد؛ كنت دوما أعد فلما في وقت مسبق لأي حصة، أجتهد في البحث عنه لساعات رغم أنه قد لا تتراوح مدته أكثر من دقيقة أحيانا، وأدركت أهمية الميديا في تمرير الأفكار العلمية التي يزخر بها المنهاج بجمود قاتل.
 

يصل مات ويجرّها معه ويخاطبها "هل رأيت أهمية أن تكوني معلّقة بشيء ما" هل تعلمون مدى أهمية أن نكون معلقين وملتصقين بالأرض؟!

لم أستمتع بالقصة الدرامية في فلم "Gravity" لم أنتبه لها أساسا، تجاوزت كل الثغرات في اللقطات، لم أندهش حين دخل "مات" عنوة لقمرة "راين" ولم تتجمّد! أو أتفاجأ أنه مجرد حلم! كنت بعيداً عن كل هذا، غارقة بكل مشهد يمرر فكرة علمية ذكية، رؤية حقيقية لقوانين الفيزياء، سلبياتها أخطارها البراعة في استغلالها من خلال الأحداث المتصاعدة في الفلم.
 

منذ اللحظة الأولى والارتطام الذي أدى إلى تناثر الطاقم -والذي حقيقة يتكون من اثنين فقط- في بداية الفيلم، وحين عمّت الفوضى شعرت بكل قانون فيزيائي تعيشه كل من ساندرا بولوك "راين" وجورج كلوني "مات"، لم أجلس وقتها مستسلمة لهذا العرض الخلاّق، بل حلّقت بخيالي أنا الأخرى ودعوت كل طالباتي اللواتي كنّ يستمتعن بما أقدمه في الدروس الماضية، وتوسطنا قاعة السينما.. نعم في تلك البقعة التي تكون الشاشة على بعد مناسب جدا للرؤية.. تلك المقاعد الملوكية التي تجعلك حدثا في الفلم لا مجرد مشاهد منزوي يمنة أو يسرة، قدمت لهن بعض "البوشار" والعصير المثلج "سلش"، وبعضهن تناولن "الناتشو"، ورحت أدلل على كل حدث ماذا يعني وكيف نستطيع تفسيره وماذا لو؟ تلك الأسئلة السابرة التي تحفز التفكير، تلك الأسئلة الناقدة ما وراء المشهد كيف لو لم؟ او ماذا لو أنه كان؟!
 

كان مات ذكياً جدا ً كأستاذ في درس قيّم ومؤلم، وكانت راين كتلميذة مترددة عليها أن تأخذ زمام التحكم بالقوانين والقوى التي تسيطر على هذا الكون المتسع بشكل مخيف وعلى نفسها.
 

قانون الطرد المركزي جعل راين تحلّق بعيدا عن المركبة، جعلها تبتعد وحيث أن لا مقاومة للهواء، كانت في حركة مستمرة لن تتوقف ما لم تؤثر بها قوة تغير من حالتها، القصور الذاتي"Inertia" لجسمها يسيطر عليها، كان عليها أن تساعد مات في نقطة ما تحدد من خلالها مكانها "موقع الجسم" من خلال الاتجاه على الأقل، ولم يكن الأمر سهلاً، كالمثال الذي أضربه لطالباتي كي تحدد موقع جسم ما -موقعها مثلا حين تضيع بين الحارات من خلال نقطة اسناد واتجاه وازاحة- لكنها "راين" تنجح في النهاية!
 

يصل مات ويجرّها معه ويخاطبها "هل رأيت أهمية أن تكوني معلّقة بشيء ما" هل تعلمون مدى أهمية أن نكون معلقين وملتصقين بالأرض؟! هل تدركون أهمية قانون الجذب العام للأجسام؟! في اللقطة الأخيرة تضحك راين عند ارتطامها بالأرض، الأمر ليس أنها متعبة ولكنها الجاذبية تلك التي جعلتها تعاني كل ما عانت في الفضاء؛ إنها حسابات القوى المسيطرة على هذا الجسد، إن أبسط مهمة تصبح عسيرة حين تختفي الجاذبية، وكذا فإن بعض المهام تكون قاتلة حين تتواجد الجاذبية، تلك القوة السحرية التي تحقق الحياة بجمالها وفرادتها على كوكب الأرض حين نتعامل معها باتزان وحكمة وعلم.
 

طوال تتالي المشاهد كنت أستحضر وجود سبورة وطباشير أو لوح ذكي ومؤشّر وأدراج وطالبات تشعرن بروعة هذا العلم تفهمن وتدركن.

كما ترون مبدأ عمل الصاروخ يتجلى في حركة مات طوال الوقت من خلال خلق حالة من قانون نيوتن الثالث لكل فعل رد فعل.. فينطلق يمنة ويسرة ويقطع المسافات الفارغة السوداء من خلال "صاروخين" صغيرين معلقين في ظهره! أليس هذا جميلا؟! لكنه يستهلك الطاقة كاملة، يفكر في طريقة لوجود بطارية إضافية، يفكر في طريقة لوجود أي مادة قابلة كي تعطي طاقة إضافية تعوض الطاقة المفقودة في هذا الفراغ المعتم، أليس هذا مرعباً؟! ولا حتى المحاكاة قادرة على جعلك تعيش تلك الحالة الفريدة والمرعبة من التحليق دون جاذبية أرضية، الأمر مخيف جدا مهول جدا هذا الكون بمجراته وشموسه وكل مكوناته المظلمة "الصامتة" -كما تراه راين- تشعرك بأنك لا شيء يذكر، تبتلعك لمجرد أنك بحثت قليلا وتمردت قليلاً على قوانينها، وبالمقابل، هناك على الأرض، الأمر لا يغدو عن كونه قدرة العقل البشري وعبقرتيه في تسخير تلك الطاقات الهائلة والقوى المتنوعة لهذا الكون البديع واستغلالها ودراستها والإفادة منها.
 

طوال تتالي المشاهد كنت أستحضر وجود سبورة وطباشير أو لوح ذكي ومؤشّر وأدراج وطالبات تشعرن بروعة هذا العلم تفهمن وتدركن.. طوال العرض كنت أفسر وأحلل وأتناول إجاباتهن أنقدها، أرفضها، أقبلها، وأعلل!

لم يكن منهاجاً جديداً مطوراً، كان فقط منظوراً مختلفا لتلك الحوادث، مقاربة بينها وبين الكتاب المدرسي، بين العلم النظري المشبع جمودا والعلم العملي الذي يملؤك إثارة وشغفاً.. هكذا شاهدت الفلم، وهكذا وعيته وهكذا أتمنى لو أقدّم الفيزياء، في قاعة السينما! 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.