شعار قسم مدونات

بنات أبشة.. ملكات الحياء والحشمة والأدب

blogs - girls
(1)
من الشرق إلى الشرق.. كانت رحلتي إلى أبشة، من شرق السودان وثغره الباسم، ومن مدينة الأفراح والمواسم بورتسودان، إلى درة الشرق وأترجة التشاد أبشة أو أبشي Abeche، مدينة القرآن والمعرفة والنور، عاصمة السلطنة، أم درادر التي لا يسكنها إلا (القادر) كما توصف هناك؛ بسبب غلاء أسعارها. فهي في بعدها عن مراكز الإنتاج وموارد البضاعة لا تنافس، حيث تبعد عن العاصمة إنجامينا بنحو 900 كلم، وتفصلها عن أقرب المدن الليبية صحراء إفريقيا الكبرى، وعن المدن الصناعية السودانية مدائن ومناطق صراع.

في مدينة أبشة كنت تلميذاً يتعلم بلا مقابل من مجتمعها العظيم. من كباره الحكماء، وشبابه المجدّين، وصغاره النجباء.

(2)
أول ما لفت انتباهي كزائر لمدينة النور، الانضباط العام أو مظهر الشارع العام كما نسميه هنا في السودان. ولأن "الفتاة مقياس المجتمع" كما يقول الحكماء، فإن أول ما يسترعي اهتمام الزائرين فتيات أبشة بملابسهن المحتشمة، وحيائهن المفرط في الشارع العام وفي مؤسسات المجتمع. الفتاة مقياس المجتمع حقا؛ تمثل والدتها ومربيتها المباشرة، تمثل معلماتها ويطلق عليهن (سيدات)، هنا في أبشي مبالغة في الاحترام والتقدير- تمثل أباها وحامي حماها، تمثل جارها وأخاها. ولأن الفتاة التشادية و(الأباشاوية) التي رأيت تدرك بعمق- كل تلك المسؤوليات الاجتماعية الملقاة على عاتقها. فإنها أول من يرسل إلى زائر المدينة "رسالة المجتمع" معبرة خلالها عن نفسها وعن المرأة التشادية، وعن كافة فئات مجتمعها الصغير والكبير. ولتقول -وهي صامتة-: هنا فتيات أبشة كما الجواهر الكريمة -بقيمتها ذاتية وليست بحاجة إلى صاغة يشكلونها ليرتفع سعرها ويزيد ثمنها-.

(3)
خلال إقامتي بمدينة القرآن، كنت في الظاهر معلماً بالمدينة، ولا أحسبها بحاجة إلى معلمين، لكنها كانت وما زالت كالبحر "ما بتأبى الزيادة" كما يقول المثل السوداني.. لكنني في الحقيقة كنت تلميذاً في مدرسة أبشة، كل أبشة، حاراتها وزواياها وجوامعها العامرة، كنت تلميذاً يتعلم بلا مقابل من مجتمعها العظيم. من كباره الحكماء، وشبابه المجدّين، وصغاره النجباء. وأجدني مضطرا لتسطير القصة كاملة، قصتي في أم درادر، الخريف والأعياد والأسواق والمعالم؛ رداً لجميلها وحسن استضافتها، وفائض كرمها. هذا فضلا عن قصص وحكايات أخرى عن ذكريات التدريس في أبشة، تدريس أبنائها الأماجد الأوفياء، وبناتها ملكات الحياء والحشمة والأدب.

(4)
صمت بها رمضان، واستقبلني عيده بها، ثم جاء أضحى ذلك العام وعيده الكبير، وأنا في أم درادر وقد كان عيدا خاصا متميزا في ضيافة الشيخ الحكيم مصطفى عيسى وإخوانه الكرام الأفاضل، وتلامذته بالمدينة. لم تكن إقامتي في أبشة تشاد مجرد تجربة مهنية أو رحلة لم تكتمل، وقد توقفتْ رحلتي عندها لما وجدت فوائد السفر مجتمعة فيها. وكأن الإمام الشافعي- رحمه الله- قد زارها قبل أن يخط أبياته الخالدة.

أصبحت أبشة بالنسبة لي وطنا كبيرا، وساحة اجتماعية واسعة، ومعهدا للمعرفة. أقمت بها ثمانية أشهر، قضيتها بمدرسة الصداقة السودانية التشادية، معلما لمادة اللغة العربية ومشرفا ثقافيا. وكانت من أكثر رحلاتي إمتاعا وتحفيزا للكتابة والتوثيق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.