شعار قسم مدونات

أطفالُ السرطان .. أطفالٌ بعمرِ الأرض

blogs-أطفال

ما أشدَّ قَسوتَهُم وهم أهل الحنانِ عندما يُطِلونَ علينا بوجوهٍ تتدفقُ بِشلالاتٍ من البراءةِ وأنهارٍ من العفوية، وجوهٌ لا تَتبَعُ مَعاييرَ الجمال البَشري، بل تعكس الجمال الملائكي، إذ لا يستطيع مخلوق من جِلدة آدم أن يُنكِر عَصفَ الرحمةِ وأعاصير التعاطفِ مع طفلٍ يُعاني من مرض السرطان.

لا أعلمُ موقفاً أشدَّ صعوبةً على الطبيب عندما يجدُ نفسهُ مضطراً ليقول لأبوي طفلٍ أن ابنهما يعاني من السرطان، كأنَّك تَحكمُ عليه بالموتِ وعلى وأبويه بالعذاب بالرغم من علمك أنَّه قضاء الله في خلقه، وبالرغم من وجود أمل بالعلاج إلا أنَّ المشاعر أسرع من الحقائق.

لا أعلمُ لماذا يكونُ أطفالُ السرطان أكثرَ براءةً من غيرهم وأقرب إلى القلب من سواهم، تَعلقُ صورهم بالذهن وتبقى ذكرياتهم بالبال لا تفارقه.

عندما يُقدِرُ اللهُ لك بأن تكون طبيباً، ويُلقي بِكَ في إحدى مستشفياتِ الأطفال ستشعر كأنك بُستاني في حديقةٍ مليئةٍ بالورود، وأنت مكلفٌ بالعناية بها تتنقل من طفل إلى آخر، وعند كل زهرةٍ تسالك أمُّ الزهرة عن حال ابنها، فتتفحصُ أنت الزهرةَ وتُقلِّب أوراق فحوصاتها ثم تبتسمُ وتقول هي في تحسن، فيتكررُ الموقف في عدة مراتٍ إلى أن تَستَوقِفكَ زهرةٌ شاحبةُ اللونِ بأوراق ذابلةٍ أو تكاد، قد دخلت حديثا إلى المشفى وكانت من قبل خضراء نضرة تسر الناظرين، ثم لا تلبث أن تسألك أمها بصوت خافتٍ خائف ما بها ابنتي.

عندها تُقَلِّبُ أوراق الفحوصات وليتك لم تفعل فتكتشفُ أن الطفلةَ مصابةٌ بمرض اللوكيميا سرطان الدم، هُنا أصعب موقف، هُنا أصعب سؤال ولا حول ولا قوة الا بالله، وبعد أن تُقِر في نفسك بعدم الاعتراضِ على حكمِ الله تبدأ بِكبتِ المشاعر الجياشة واستعمال العقل الضعيف، فترسم على وجهك ابتسامة مزيفة وتتظاهرُ بأنَّك تقرأ النتائج ثم تسألُ عدة أسئلةٍ لتُنسي أمَّ الطفلة سُؤالها الذي وجهتهُ اليك، ثم تلاعبُ الطفلةَ وتُضاحِكها وتقولُ للأم سيأتي الأخصائي ليخبركِ عن حالةِ ابنتك فهو المخول بالتشخيص، فتلقي بهذا الحمل على عاتِقِهِ وتهرب وفي قلبك سهامٌ من الحزنِ والتعاطُفِ مع المريضة .

لا أعلمُ لماذا يكونُ أطفالُ السرطان أكثرَ براءةً من غيرهم وأقرب إلى القلب من سواهم، تَعلقُ صورهم بالذهن وتبقى ذكرياتهم بالبال لا تفارقه، بل حتى أذكرُ نبرةَ صوتِهم ورائحةَ أجسامِهِم.

عندما تدخل إلى غُرفهم ترى وجوههم الباسمةً لما غُمِروا فيه مِن عناية المشفى وحنان الأم وأكياس الحلوى والأشكال المختلفة من الدمى والألعاب متناسين وزخاتِ الإبر وخراطيمً المغذيات.

لا يعلمون بخطورة ما يعانون منه حتى لو أخبرتهم بذلك فيبقون على هذه الحالةِ أياماً، ثم يبدأ شعور الوحدة بالتسلُّل إلى قلوبهم فيُحسون بأنهم محبوسين في سجن، وتبدو عليهم ملامحُ الضجر وعلاماتُ الانزعاج، ثم لا يلبثوا أسابيعاً حتى تَظهرَ عليهم أثارُ المرض وتأثيراتُ العلاج، فيتغيَّرُ لونُ بشرتِهم ويتساقط شعرهم وتَنحَلُ أجسامهم وتَذبلُ عيونهم وتضيق أنفُسُهم بأنفُسِهم، فيكرهون الطبيب المعالج لهم، ويخافون من الممرضين المعتنين بهم، ويصبح زرع البسمة على شفاههم أشبه بزرع الياسمين في الصحراء، لا يَهنَئون بِأكلٍ ولا تَقَرُ لهُم عينٌ بنوم، وللأبوين أضعافُ ذلك العذاب والحزن، فلا أصعب من أن ترى طِفلك يَذوبُ أمامك بِنارِ المرضِ وحر العلاج الكيماوي .

تَمُرُّ أشهرٌ فمِنهُم مَن يُشفى ويعودُ إلى الحياة برحمة الله، ومِنهُم من يموت بتقدير من الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.