شعار قسم مدونات

هل نستطيع الخروج من قوقعتنا؟

blogs - prisons - syria
لم يتوقع الكاتب السوري مصطفى خليفة ابن مدينة جرابلس في ريف حلب، أن يلقى القبض عليه في مطار دمشق الدولي بعد عودته من رحلته من باريس، بسبب كلمة لم يلق بها بالاً يسخر من الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، والتي أودعته أكثر من عقد كامل في السجن.

مصطفى خليفة رجل مسيحي، أودعه نظام الأسد في سجن تدمر الشهير لأكثر من 13 عاماً، بتهمة باطلة وهي الانتماء لحركة الإخوان المسلمين، والتي عدها نظام الأسد آنذاك بالإرهابية والمتطرفة، في الأحداث التي جرت في ثمانينات القرن الماضي، وهي تهمة كانت جاهزة لكل شخص يقول (لا) لحكم آل الأسد.

السوريون أمامهم إما الاستمرار في ثورتهم واقتلاع نظام الأسد رغم التضحيات الكبيرة، وإما سيضع نظام الأسد آلاف القوقعات ومسارح التعذيب من جديد.

هذه "اللا" التي دفع ثمنها اليوم أكثر من نصف مليون سوري قتلوا خلال الحرب، وضعفهم من المشردين والمهجرين في الشتات، والمعتقلين اللذين يذوقون شتى أصناف العذاب منذ عدة سنوات، وخصوصاً بعد تسريب مقاطع فيديو للتعذيب، والتي ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. أدخل ضباط النظام مصطفى خليفة إلى داخل سجن تدمر، وراح ينسج قصص التعذيب في مخيلته من خلال سريره الذي يقع في جانب المهجع، والذي شبهه بالقوقعة، يعيش دائماً في أحلامه اليقظة، وكذلك يشاهد مآسي الواقع المرير، وذلك بعد محاولة فاشلة قامت بها حركة الإخوان المسلمين للسيطرة على مقاليد الحكم في سوريا.

مئات من السجناء المتكدسين فوق بعضهم البعض يقوم بإذلالهم بشكل متقصد ضباط النظام وجنوده، بالإضافة إلى شح الغذاء والماء، مشاهد يومية من العنف الدموي والضرب المفرط والإهانات الجسدية، أصناف من التعذيب والقهر والقتل البشري تتجدد بشكل يومي. ثلاثة عشر عاماً قضاها بالسجن فقط بسبب وشاية كاذبة من قبل أحد عملاء حزب البعث الحاكم في سوريا، تذوق الكاتب السوري على أثرها جميع أنواع التعذيب الجسدي، والنفسي، والإذلال البشري، ورأى شتى مشاهد لا يمكن أن تحصل بين مجاميع بشرية على سطح المعمورة.

من أكثر المشاهد المبكية التي صورها الكاتب، هو أن رجلاً عجوزاً معتقل هو وأبناؤه الثلاثة، عندما طلب منه مدير السجن أن يختار أي واحد منهم يمكنه أن يبقى على قيد الحياة، والآخرين سيتم شنقهم، وعندما طلب الرحمة للصغير، قام الضابط بشنق أولاده الثلاثة بعد توديع أباهم والسجناء حيث كان الجميع يجهش بالبكاء. بعد مرور كل هذا الوقت على سجن تدمر، وأبان الثورة السورية، قامت نفس تلك القوات بالدخول إلى حي كرم الزيتون الثائر في مدينة حمص؛ لتقتل الرجال أمام أطفالهم ونسائهم، وتغتصب النساء أمام أزواجهم، في مشهد يعيد للذاكرة بأن هذا النظام عندما يشعر بالخطر المحدق يقوم بمعالجة العنف الذي يقوم به بمزيد من العنف والوحشية.

كانت نهاية سجنه أن قال له ضابط الأمن، لقد سجنت بسبب خطأ ما ونحن نعتذر منك، وما كان له إلا أن يتذكر العذاب الذي تذوقه خلال تلك السنين الطويلة، والموتى الذين قتلوا أمامه أصبحوا مقبرة في داخله، يقومون بمحادثته ومعاتبته كل يوم. كان يشعر بالإحباط بعد خروجه من السجن، حيث أنه خرج من قوقعة صغيرة إلى قوقعة كبيرة، يطبق على أنفاسها نظام الأسد، كان يرى الناس تضحك في الطريق وتعيش حياتها الطبيعية في ظل نظام الأسد، وربما لا يدرون ما يدور في دهاليز السجون من مآسي.

ثقب استطاع أن يفتحه في جدار السجن بجانب قوقعته خلال سنوات السجن، شاهد من خلال الساحة العامة التي يتم بها إذلال السجناء وإهانتهم بكل أنواع الكلمات النابية بعد تعريتهم، ومن ثم يتم تصفية بعضهم على مزاج بعض الضباط، الذين ينتمون أغلبهم للقرى الموالية للرئيس السوري في الساحل. لقد توسع هذا الثقب كثيراً بعد 36 عاماً على مرور مجزرة السجن، فأصبح على مرأى ومسمع جميع القنوات العالمية، وأمام مجلس الأمن، ومحكمة الجنايات الدولية، والكونغرس الأمريكي، خصوصاً بعد شهادة القيصر، هو الاسم الذي أعطي لمصور في الشرطة العسكرية السورية انشق وهرب خارج البلاد ومعه 55 ألف صورة لـ11 ألف ضحية تم تعذيبها في سجون النظام السوري حتى الموت.

هل نستطيع أن نخرج من قوقعتنا نحو سوريا حرة بلا أسد، أو سيبقى لعقود أخرى من الزمن؟

المشهد السوري يكاد يتكرر مع اختلاف جزئي عن أحداث سجن تدمر، حيث أن القاتل انضم له قوى عسكرية كبرى وجنود طائفيون، في حين أنه انضم للضحية أطفال ونساء وشيوخ، وذلك بمباركة دولية علنية من قبل العالم، في حين أنه في السابق كان الأمر في الخفاء وبعيداً عن أعين قنوات الإعلام والمؤسسات الحقوقية الدولية. هذه الرواية كانت الأكثر إقناعاً لدى السوريين، بأن النظام هدفه ليس حماية الأقليات، بل هو مستعد للتضحية بجميع أبناء الطائفة العلوية الذين يدافعون عنه في المعارك الدامية مع فصائل الثوار التي قتلت منهم عشرات الآلاف بحسب مراكز التوثيق السورية.

آلام هذا الكاتب تنطبق اليوم على ملايين السوريين الذين يعيشون تحت وطأة حرب ضروس، بسبب رفضهم لبقاء حكم نظام الأسد، فأمامهم خيارين لا ثالث لهما، إما في استمرار ثورتهم واقتلاع نظام الأسد رغم التضحيات الكبيرة، وإما سيضع نظام الأسد آلاف القوقعات ومسارح التعذيب من جديد.

خرج مصطفى خليفة من قوقعته بعد سنوات من العذاب، وبقي نظام الأسد. فهل نستطيع نحن أن نخرج من قوقعتنا نحو سوريا حرة بلا أسد، أو سيبقى لعقود أخرى من الزمن؟ الأيام القادمة ستخبرنا بذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.