شعار قسم مدونات

كلنا نبحث عن بصارة

blogs - coffee
حين نصل إلى طريق مسدود، ونافذة ترفض أن تفتح أبوابها للحياة، لتصحو عند الفجر الأزرق كل يوم، نبدأ بطبيعتنا البشرية نتملق ونرسم أحلاماً تختصر المساء، دون أن تستأذن النجوم، وكأننا ننقب عن تاريخ آتٍ بعد تعب، نضيع في دروب الحب والعمل، والمشقة والترحال والغربة، ونقنع أنفسنا أن علينا أن نلتقي ببصارة تغني لنا أغنية محارب وتبشرنا بالمستقبل.

من نحن؟ سؤال نسأله لأنفسنا كل يوم، ماذا نريد؟ إلى أين الدرب يسوق مشاعرنا وأيامنا؟ فتجيبنا أصوات متناثرة على أطراف أدمغتنا، نحن عصافير جفف الهم ريشها الدامي، أمامنا الأفق مفتوح لكننا لا نبالي، فقد سئمنا الفرص الكاذبة، ومللنا استنشاق الأكسجين المر، ملأت أبخرة الحرب والضغينة كل شريان فينا، وتشردنا في كل قطر في العالم، بحثنا عن الحرية والكرامة فخذلتنا هتافاتنا، وبتنا اليوم نبحث عن (بصارة) ترمم جراحنا، ترثي ماضينا وبلادنا، وتطبطب على آمالنا.

لمَ نبحث عن (بصارة) تخبرنا عن أحزاننا وتبشرنا بالفرح القريب، بالرغم من أننا موقنون أن الفرج سيأتي ولو بعد حين!

وفي كل صباح، يفتح معظمنا صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لعلنا نجد في صفحة ماغي فرح، أو كارمن شماس، بشرى عمل مربح، أو قصة حب تنتهي باستقرار، لينجلي عن وجوهنا القهر، لكننا في الحقيقة بعد ساعة على الأكثر، نعود وندشن حزناً جديداً على أطلال الماضي وهفوات الحاضر.

قررت ذات يوم أن أصارح نفسي، بحثت عن مقهى يطل على البحر، جلست فيه وطلبت من نادل فنجان قهوة، شربته على أنغام أغنية تركية لم أفهم منها إلا الموسيقى، ارتشفت القهوة وقلبت الفنجان على صحن أبيض يشبه بياض القلوب التي قتلتها الحرب، وانتظرت حتى نشف الطحل بداخله، وبدأت أقلب فيه، فرأيت قبوراً متراصة، بجانبها شجرة ياسمين ودمعة امرأة وطفل، فضحكت من نفسي، لماذا أبحث عن أمل وسط القبور؟ عدت ونظرت إليه وتساءلت، هل يأذن حارس الليل لقلبي أن يطرق باب الحب؟

ولمحت رياح الشمال التي رمتني على حدود الغربة، ورأيت في أسفل الفنجان أن الدم في وطني بالمجان، والتراب بالمجان، والموت بالمجان، وتهيأ لي حرف عين وواو، فعلمت أنه شخص سألقاه في طريقي إلى المنزل أو أنها تعني "عين على وطن"، رأيت فسحة بيضاء ليتهلل وجهي إنها طاقة الفرج، وطريق طويل حاولت أن أوهم نفسي أنه درب العودة الى الوطن، وعدت فقلبت في الفنجان فرأيت جندي يضع خوذة لطخها الطين، حاولت أن أبحث عن صك فرح فلم أجد إلا شهادات ميلاد أطفال في الغربة ووثائق وفاة مبعثرة معظمها كتب عليها مجهول الهوية، بحثت عن الطفل في فنجاني، فلم أجده بعد أن مات الطفل بداخلي، شعرت بالتململ من إرث المعتقدات المزيفة، فطلبت الحساب لأنسى ما قرأت في الفنجان، ورحلت إلى طريق الواقع، إلى منزلي ووسادتي.

سمعت ذات يوم عن امرأة تقرأ الحظ من اسم الشخص واسم أمه، طلبت رقمها من صديقتي، التي أخبرتني أنها (بصارة متميزة)، اتصلت بها وسألتها عن حظي بعد أن أخبرتها ان إسمي رنا وأمي هالة، فأخبرتني أن هالة حولي تاه عنها طريق السعادة، وأني أحاول أن أخفي حزني في قلبي ولكن عيناي تفضحاني، فقلت في نفسي هذا حال جميع العباد وما تقوله شيء بديهي، فتابعت، سيمر في حياتك رجل وسيم وستجمعكما الصدفة في طريق قريب، ولكن قد تفرق الأيام بينكما إن لم تعرفي كيف تعزفي على أوتار قلبه، ولم تتوددي لعيوبه قبل محاسنه، فناجيت نفسي كل الرجال الشرقيين لهم نفس "الديباجة"، يريدون امرأة تحبهم وتقبلهم بعيوبهم، دون أن يقبلوا عيوبها وحريتها.

نحن نعشق كل يوم ألف مرة، ونعيش الحب مع الطبيعة والحروف والذكريات، لكننا مصرون أن الحزن مزق أوردتنا، وأننا بتنا بلا أرواح.

فجاءني صوت البصارة هل أنت معي، أجبتها نعم نعم أكملي، تابعت في الليل تزورك الذكريات وتبكين من الألم ولكن أيامك المقبلة ستحمل معها فرحة، سيكون لك رزقة "مبحبحة"، وعملاً يحملك إلى عالم الشهرة، فابتسمت وأملت فمي وهي حركة تتقنها النساء لأقنع نفسي أنها تحاول أن تجعل ملامحي أكثر أملاً، تابعت أنت عليك عين حاسدة والعين تحرسك، يجب أن أراكِ لأفتح لك "المندل"، وتفتح لك الحياة أبوابها أمامك فأنت فتاة جميلة، تخبئين صوتك في راحتيك، سأجعل الحب يمر علانية في طريقك، وينحني كالقوس أمام عينيك، أخبرتها أني سأتصل بها لاحقاً لآخذ العنوان، وأغلقت السماعة وأنا أضحك من نفسي، وأتساءل لمَ دوما نبحث عن (بصارة) تخبرنا عن أحزاننا وتبشرنا بالفرح القريب، بالرغم من أننا موقنون أن الفرج سيأتي ولو بعد حين!

أيقنت حينها أنه بالرغم من أن الريح تحبل كل يوم لتنجب الفرح في دروبنا، إلا أننا مصرين أن نبحث عن (بصارة)، أو نقرأ حظنا في توقعات الأبراج اليومية، كي تتهلل أساريرنا بضع دقائق، نحن نعشق كل يوم ألف مرة ونعيش الحب مع الطبيعة ومع الحروف ومع الذكريات، لكنا مصرون أن الحزن مزق أوردتنا، وأننا بتنا بلا أرواح، نسمح لأنفسنا أن نفكر بسلبية رغم كل شيء جميل حولنا، لذا لا نرى سوى الهموم والأحزان، وزهرة ذابلة على طرف كتاب.

حينها قررت أن أبحث عن ميلاد جديد، ونافذة جديدة أستنشق منها الحب والأمل، لن أسمح لها أن تغلق أبوابها سراً وتقتلني علانية، سأحب الحياة منذ الغد، كما هي بألوانها السوداء والبيضاء والرمادية، بلون اللافندر ولون الأقحوان وليلاس، مهما كانت حالي لابد من السعادة، سأشرب عصير البرتقال وأقضم تفاحة تشبه الحياة بنضارتها، وأتأمل الأشجار والسماء، سأعطي لنفسي وقتاً لأطلي أظافري، وأضع لوناً أحمراً على شفتاي، وأغطس في حمام السباحة، وأزين كتبي، وأرتدي رداء الأمل، دون (بصارة).

سأصحو في الصباح لأرتشف فنجان قهوتي دون أن أقلبه وأقرأ فيه، وآخذ قيلولة في الظهيرة وأحلم بما لم أحلمه في الليل، ليوقظني صوت بائع عربة الكعك الذي يمر كل يوم من جانب بيتي، سأرفض أن تمر حياتي دون ابتسامة ثملة كل ليلة، سأقرأ معلقات الحب وأسمع أناشيد الغرام، وأهذي في الليل بما أحب وبمن أحب، حتى يأتي يوم وأصل فيه إلى المقبرة وابتسامتي على ثغري، دون أن أبحث عن وهم يدعى (بصارة).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.