الغناء الصالحي.. حكاية حب تونسية

تقول الروايات الشعبية إن الصالحي أحب فتاة اسمها "قمرة" منعها عنه أهلها وحرموها من السقاية من البئر حتى لا يراها، فنظم حينها المُحب أول قصائده.

غناء الصالحي كان موجودا في جبال المغرب العربي ويصدح بأصواته الحادة سكان الأرياف (الصحافة التونسية)

تونس- "الحق لا فيه تلهويث (مماطلة) والكذب مولاه عاطل. والصالحي للمثاليث والغير غناه باطل"، شعر شعبي تونسي يؤكد أحقية قرية "المثاليث" المتمركزة في ساحل الوسط التونسي بين محافظتي المهدية وصفاقس بهذا النوع الغنائي التقليدي المسمى "الصالحي".

يُجمع سكان هذه القرية على أن هذا الغناء ارتبط بقصة ابنهم الفارس الشجاع "الصالحي بن صالح"، وحمل اسمه في القرن الـ18، لأنه أول من تغنّى به.

تقول الروايات الشعبية إن الصالحي أحبّ فتاة اسمها "قمرة" منعها عنه أهلها وحرموها من السقاية من البئر حتى لا يراها، فنظم حينها المُحب أول قصائده التي تقول "أوردي وبالك تغبي (تعطشي) وعلى البير ورّي حفالك (لباسك)، سلمي على من تحبي حرة ولا من يسالك".

وتضيف هذه الروايات أنه سُجن عدة مرات، وأن حبيبته خلال إحدى زياراتها له في سجن باردو، وبدخولها العاصمة تونس تغنت قائلة، "يا باردو راك مسسط ويا باي ما أكبر هبالك، اطلق الصالحي من السجن ماهوش (ليس) من حر مالك".

وصل صدى صوت الحبيبة إلى المحب السجين فردّ عليها قائلا "يا قافل الباب حلّو وبيدي نشرّع قفاله، خلي الحراير يطلّو عالصالحي واش (كيف) حاله".

ممارسة غنائية

يوضح الباحث في التراث ماهر الهلالي أن الصالحي ليس مقاما أو نمطا موسيقيا وإنما ممارسة غنائية تعتمد على الصوت والآلة وتندرج في إطار السلم الموسيقي الخماسي.

ويضيف للجزيرة نت أن الصالحي ليس وتريا أو شعبيّا وإنما من الطبوع الموسيقية، يكون الغناء والعزف فيه على الطبقات الحادة في درجة الحسيْني (la) باستعمال آلات الزكرة والقصبة والمزود التقليدية.

وفق الهلالي، توجد روايات مختلفة عن تاريخ ظهور هذا الغناء، تقول إحداها إنه ظهر مع وفود قبائل بني هلال العربية إلى بلاد المغرب العربي وانتشر بانتشار هذه القبائل واللغة العربية.

بينما تذكر رواية أخرى أن الصالحي كان موجودا بطبعه في جبال المغرب العربي ويصدح بأصواته الحادة سكان الأرياف، ثم انصهر مع قوالب الإنشاد العربية القادمة كحلقات الإنشاد والذكر، وفق المصدر ذاته.

لهجات وفروع

يتميز باختلاف اللهجات التي يُغنّى بها، إذ تختلف لهجة غناء نساء جبل سمامة في القصرين (وسط غربي) عن لهجة نساء السند في قفصة (جنوب غربي) وعن لهجة نساء المنستير (الساحل)، مما خلق تنوّعا في نغمة الصالحي "وأصبحنا نتحدث عن عدة فروع له"، يؤكد الهلالي.

وتشمل هذه الفروع الصالحي المُكني (منطقة المكنين) والسعيدي (أولاد السعيد) والمثلوثي (المثاليث)، وتختلف في العزف والدرجات الصوتية، وتعدّد بذلك فنانوه بين الجنوب والوسط الغربي والشرقي والشمال والساحل، واختلفت قصائده بين العامية والعربية الفصحى.

بدوره، يؤكد الفنان والشاعر الشعبي عبد الكريم عيفة أن الصالحي ظهر في الخمسينيات في قرية المثاليث ثم انتشر في كافة مناطق البلاد، ويشر إلى أنه كان يُتغنّى به في البداية بالصوت فحسب ثم رافقته بعض الآلات الموسيقية مع رائد "الصالحي" الفنان الراحل إسماعيل الحطاب الذي استعمل آلتي الزكرة والطبل.

وتُعد المرأة الموضوع الرئيسي لغناء الصالحي، وهي حاضرة كحبيبة وزوجة وأم وأخت، إضافة إلى قضايا أخرى كالشجاعة والنضال والثورة ضد الاستعمار والاستبداد، يقول عيفة للجزيرة نت.

معان غزيرة

يضيف عيفة أن الصالحي لغة تواصل وشكوى تتجاوز الحبيبين إلى الأشقاء، ويستحضر أغنية مشهورة لامرأة متزوجة تشكو همها لشقيقها عند زيارته لها في خيمة مجاورة لخيمتها لم تستطع رؤيته فغنّت تشكوه معاناتها، "ناي (أنا) داي (دائي) لا تقدر جمال تقلّه (تحمله)، سحن كبدتي تسع سنين بالهلة (الهلال)".

ويتحدث ماهر الهلالي عن معان غزيرة لنغمة الصالحي أبرزها الغزل والفخر والمدح والرثاء والترويح عن النفس الكادحة في العمل، خاصة من قبل النساء اللاتي ارتبط غناؤهن الصالحي باستعمالهن الرحى.

وعرف انتشار الصالحي ذروته مع الفنان الراحل إسماعيل الحطاب الذي تميّز فيه شكلا ومضمونا وأداء وحضورا ركحيا، من خلال وفائه للباس التونسي التقليدي بارتدائه الجبة والبلغة (حذاء) والشاشية مع مشموم زهرة الياسمين على الأذن.

يرى عبد الكريم عيفة أن غناء الصالحي يعرف اليوم انتشارا كبيرا خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة، وأنه لم يعد يقتصر فحسب على كبار السن أو جمهور الأرياف، بل أصبح الشباب يقبل عليه غناء واستماعا.

ويؤكد أنه بات يغنى في كافة مناطق البلاد ومطلوبا بكثافة في المهرجانات والأعراس، موضحا أن فناني الحاضر جددوا فيه من حيث الكلمات السهلة والمفهومة حتى يُقبل عليه الجيل الجديد.

شعبية كبيرة

يؤكد الهلالي أن الصالحي أصبحت له شعبية كبيرة، خاصة خلال فترة حطاب، وانتشر بفروعه وأصبح تلامذته يتغنون به، ثم وصل مع الفنانة الراحلة "صليحة" إلى مرحلة استخدام آلات وترية كالقانون والعود والكمان من خلال أشهر أغانيها "أم القد طويلة صالحة".

ووصف محاولات الفنانين الشباب اليوم في الغناء به بالمحتشمة والشحيحة رغم الطلب الكثيف عليه، داعيا إياهم إلى تقديم المزيد في هذا المجال.

المصدر : الجزيرة