بيرم التونسي.. شاعر العامية المشاغب بين الوطن والمنفى

الشاعر بيرم التونسي (مواقع التواصل)

القاهرة- "أنا المصري كريم العنصرين.. بنيت المجد بين الأهرمين.. جدودي أنشؤوا العلم العجيب.. ومجرى النيل في الوادي الخصيب.. لهم في الدنيا آلاف السنين.. ويفنى الكون وهما موجودين.. وأقول لك على اللي خلاني.. أفوت أهلي وأوطاني.. حبيب أوهبت له روحي.. لغيره لا أميل تاني".

كتبها بيرم التونسي، وغناها سيد درويش في الأوبريت الغنائي "شهرزاد"، بعد أن منعت الرقابة اسمها الأول "شهوزاد"، في إشارة لشهوات العائلة المالكة في مصر.

كان درويش يريد تقديم أوبريت يحمس المصريين ضد الاستعمار الإنجليزي، ردا على حجة إنجلترا أن المصريين لا يستطيعون حكم أنفسهم إلا تحت الحماية البريطانية.

أسس الموسيقار زكريا أحمد شلة "أهل الهوى"، وانضم لها درويش وبيرم، على غرار شلة "الحرافيش" التي أسسها نجيب محفوظ، وكان شرط الانضمام لها أن يكون الفنان عاشقا لوطنه وفنه، لينطلق بيرم بعدها في مسيرة حافلة بشعر العامية، بأشعاره البسيطة التي تصل لرجل الشارع وإلى الحاكم على السواء، بحسب الفيلم الوثائقي "بيرم التونسي" من إنتاج الجزيرة الوثائقية.

نشأته

ولد محمود بيرم التونسي في حي الأنفوشي بمدينة الإسكندرية في 23 مارس/آذار 1893، لأسرة تونسية تعيش في مصر. تعلم في كتاب الشيخ جاد الله، ثم تركه ودرس في المعهد الديني، وحفظ قصائد الأدب العربي. فقد والده في سن الرابعة عشرة، فترك المعهد، وأدار دكان والده، لكنه لم يفلح في التجارة.

قرر أن يكتب الشعر باللغة العامية التي يتحدث بها الشارع، وجاء صدامه مع السلطة مبكرا، حيث انتقد المجلس البلدي لفرضه الضرائب الكبيرة، قائلا: قد أوقع القلب في الأشجان والكمد.. هوى حبيب يسمى المجلس البلدي.

صحيفة المسلة

عشق الصحافة، فأصدر صحيفة المسلة، وكان يملأ صفحاتها المتنوعة بنفسه، يطبعها ويوزعها على حسابه الشخصي، واصطدم مع الرقابة التي حاولت أن توقف صحيفته. كانت حيلته أن يكتب على رأس الصفحة الأولى "المسلة.. لا صحيفة ولا مجلة"، وطلب ساخرا من الحكمدار أن يأذن له بالاتجار في الحشيش، لأنهم يمنعون حرية الصحافة وقد يسمحون بالحشيش.

اعتقد في البداية أن جنسيته التونسية تحميه، لأن تونس تحت الحماية الفرنسية، وأي أمر بإلقاء القبض عليه يحتاج لإبلاغ السفارة الفرنسية، ولأن فرنسا وإنجلترا على خلاف، فهو في أمان.

التقى بسيد درويش، وكتب الأغاني التي وجهت النقد للعائلة المالكة، وأيد ثورة 1919 ضد الإنجليز، وكتب قصيدة "البامية الملوكي والقرع السلطاني" التي أغضبت الملك فؤاد الأول، فأصدر مرسوما بنفيه إلى تونس.

نضال في تونس

في كتابه "بيرم التونسي في المنفى.. حياته وأثاره"، يرى الدكتور محمد صالح الجابري أن بيرم خلال إقامته في تونس أعمل قلمه، وأشفى غليل الناس من الاستعمار بما كتبه من مقالات سياسية جريئة، تناولت بالنقد المباشر وغير المباشر السلطة الاستعمارية وأعوانها من أجانب وتونسيين، فجعل بذلك الجرأة والإقدام والنضال من مبادئ الكتابة، ومن صفات الكاتب ورجل الفكر، وشد أزر جميع المواطنين التونسيين، وجاهر بموالاته لأهم حزب تونسي وطني مكافح وهو الحزب الدستوري الحر.

النفي من جديد

بعد سنة ونصف، عاد إلى مصر متخفيا، فألقي القبض عليه وتم نفيه إلى فرنسا، فكتب معبرا عن معاناته:

الأوله آه والثانية آه والثالثة آه

الأوله مصر قالوا تونسي ونفوني جزاة الخير وإحساني

والثانية تونس وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير ما صفاني

والثالثة فرنسا وفي باريس جهلوني وأنا موليير في زماني

حياته في فرنسا

"حاتجن ياريت يا خوانا.. ما رحتش لندن ولا باريز.. دي بلاد تمدين.. ونضافة وذوق ولطافة وحاجة تغيظ.. ما لاقيتش جدع متعافي وحافي وماشي يقشر خص".

هكذا كتب التونسي عن انبهاره بأوروبا، رغم أنه عمل في مهن بسيطة في فرنسا، منها في منجم فحم، مما أصاب رئته بمرض ظل يعاني منه حتى وفاته، وألهمته فرنسا رواية "السيد ومراته في باريس" التي تحكي قصة سيد المصري الذي يصطحب زوجته البسيطة إلى باريس، ليتناول بسخريته اللاذعة الاختلافات بين الشعبين الفرنسي والمصري.

في عام 1938، تسلل بيرم إلى مصر عبر ميناء بورسعيد، واختبأ عن الأنظار حتى توسط له مدير دار الأوبرا الملكية الفنان سليمان بك نجيب، وخاطب الملك فاروق ليطلب العفو عنه. وافق الملك في مقابل أن يكتب فيه بيرم زجلا في مدحه، فكتبها بيرم على مضض، بحسب بي بي سي.

العفو الملكي

جاء العفو، فانفتحت أبواب الفنانين على أشعار بيرم، والتقى بالسيدة أم كلثوم، وقدما معا أجمل أغانيها في الأربعينيات والخمسينيات مثل "شمس الأصيل"، و"الورد جميل"، و"أنا في انتظارك"، و"أهل الهوى يا ليل"، و"يا صباح الخير ياللي معانا ياللي معانا" و"القلب يعشق كل جميل" التي وصف فيها رحلته لزيارة مكة المكرمة وأداء شعائر الحج.

نجحت أم كلثوم في الاستيلاء الناعم على الجانب الوجدان العالي لبيرم التونسي الذي نضج عنده في الأربعينيات، كما حافظ على طابعه الثوري.

كما كتب للسينما، وجاء اسمه في فيلم "سلامة" ككاتب للسيناريو والحوار والأغاني بعد نجمته أم كلثوم، ليؤكد على النجومية الكبيرة التي يتمتع بها بيرم في مصر في منتصف الأربعينيات.

ثورة يوليو

أيد بيرم ثورة 23 يوليو/تموز 1952، وكتب التونسي في مذكراته "قامت ثورة 23 يوليو، وقام الجيش بما كنت أنا أنادي به من إصلاح، كما قضى على كل ما كنت أهاجمه من فساد، والحمد لله أنني لم أمت قبل أن تتحقق آمالي".

مدح التونسي ثورة الضباط الأحرار، كأنه يتطهر من ذنب مدح الملك فاروق. وفي عام 1954، كتب احتفالا بنجاة الرئيس جمال عبد الناصر عقب حادث إطلاق النار عليه في المنشية، قصيدته الشهيرة التي غنتها أم كلثوم من ألحان رياض السنباطي:

"يا جمال يا مثال الوطنية.. أجمل أعيادنا المصرية.. بنجاتك يوم المنشية"

في بداية الستينيات من القرن الماضي، حصل التونسي على الجنسية المصرية، قبل عام واحد من وفاته بمرض الربو في 5 يناير/كانون الثاني 1961 في حي السيدة زينب بالقاهرة، بعد أن قضى أغلب عمره يبحث عن بطاقة هوية مصرية، رغم أن أشعاره أثبتت مصريته حتى النخاع.

يعلق الكاتب جمعة أبو النيل -في مقاله بصحيفة الأهرام– قائلا إن التونسي استطاع بإتقانه الشديد وموهبته القوية الفياضة التي غزت قلوب الناس من جميع الفئات من مثقفين وعامة الشعب، أن يخيف شعراء الفصحى ويقلقهم، لدرجة أن أمير الشعراء أحمد شوقي قال عنه "أنا لا أخاف على الشعر العربي طغيان أحد أو شيء إلا بيرم وأدبه الشعبي".

المصدر : مواقع إلكترونية