الثورة الصناعية.. حقائق مُرة في لوحات خلابة

رغم أن الثورة الصناعية خلقت قفزة حضارية هائلة تجلت في مصانع متقدمة ومبان حديثة فإنها تسببت في صدمة نفسية بين الأوساط الفكرية والفنية

لوحة فينسنت فان غوخ الشهيرة "مصانع في كليشي" (مواقع التواصل)

آلات حديثة ومصانع ضخمة وتقنيات متقدمة تعتمد على البخار والفحم وفي النهاية الكهرباء، هكذا دخلت إنجلترا عصر الآلة أو ما تعرف بالثورة الصناعية في أواخر القرن الـ18، ثم نقلت تلك الثورة بعد ذلك إلى بقية دول أوروبا، وبعدها إلى جميع أنحاء العالم.

وعليه، لم يعد العالم بعد الثورة الصناعية كما كان قبلها، وحدثت تغييرات اجتماعية وسياسية لا رجعة فيها غيرت معها وجه العالم للأبد، كما ظهر أثر تلك الثورة في كافة مناحي الحياة بما فيها الفنون التشكيلية، حيث برزت مواضيع مرسومة بريشة التقلبات المجتمعية الحادة التي تعيشها أوروبا.

فالواقع لم يعد مقتصرا على المناظر الطبيعية والمشاهد المنزلية والمواضيع العاطفية، بل صار هناك جزء كبير من حياة الناس تدور أحداثه في المصانع وبين رحى الآلات والمعدات الحديثة، حيث حملت لهم الثورة الصناعية المعقدة التي غزت حياتهم البسيطة ما لم يكن على بالهم مطلقا.

تداعيات الثورة الصناعية على الفن

على الرغم من أن الثورة الصناعية خلقت قفزة حضارية هائلة تجلت في مصانع متقدمة ومبان حديثة وشق أنهار وبناء جسور فإنها على الجانب الآخر تسببت في صدمة نفسية بين الأوساط الفكرية والفنية، لقد شعر عديدون بالرعب منها لأنها كانت في نظرهم "تلتهم كل شيء"، الطبيعة والبشر على حد سواء.

الرومانسيون -على سبيل المثال- برئاسة فنانين وشعراء مثل وليام بليك وكاسبار ديفيد فريدريش أعلنوا عن تأسيس الحركة الرومانسية التي كانت معادية بشكل حاد لما اعتبروه قبح وبؤس العالم الحديث.

وتميزت الرومانسية بتركيزها على العاطفة والخصوصية الفردية للإنسان وتمجيد الماضي الجميل والطبيعة الساحرة.

وانهمك آخرون في تصوير تداعياتها وتبعاتها بشكل واقعي يترك للأجيال المستقبلية حرية تقييمها.

سيطرة الآلة وتقزم الإنسان

وتعتبر الكثير من لوحات الرسام الانطباعي الهولندي فينسنت فان غوخ (30 مارس/آذار 1853 إلى 29 يوليو/تموز 1890) مرايا واضحة عكست طبيعة ذلك العصر، ففي صيف العام 1887 قدم لوحته الشهيرة "مصانع في كليشي"، والتي تصور عددا من المصانع المتجاورة في ضاحية كليشي شمال غرب باريس بعدما صارت منطقة صناعية.

ينقسم المشهد إلى 3 أشرطة أفقية من الحقول والمصانع والسماء، فيما يظهر في المسافة الوسطى شخصان صغيرا الحجم مقارنة بالمصانع، وتتصاعد ألسنة الدخان في الهواء من فوهات عدة في بيئة من المفترض أنها كانت فيما مضى زراعية بحكم وجود الحقول، ويظهر البشر ككائنات صغيرة وهامشية مقارنة بالمصانع التي تسيطر على المشهد.

اللوحة مرسومة على الطريقة التنقيطية، حيث يعتمد الرسام ضربات صغيرة ومتقطعة للفرشاة حتى تبدو اللوحة بهذا الشكل، وقد ولدت التنقيطية من رحم الانطباعية التي كانت تعتمد على تقنية مشابهة في الرسم، كما عرف فان غوخ بكونه واحدا من أمهر الانطباعيين التنقيطيين.

طيور الكناري الحزينة

بحلول الحرب العالمية الأولى (1914-1918) لم يعد وجود الرجال في المصانع وورش العمل أمرا طبيعيا، فقد صار الطبيعي وجود النساء اللواتي يعملن في بيئات قاسية جدا كانت معدة للرجال أصلا الذين ذهب معظمهم للحرب، وبالتالي وجدت المرأة نفسها أمام واقع لا تجيد فهم متغيراته السريعة والمؤلمة.

نرى مثلا في لوحة "فتيات الذخيرة" المرسومة في العام الأخير للحرب (1918) للرسام ستانهوب ألكسندر فوربس آر إيه (1857-1947) مشهدا داخليا لمصنع صلب يقوم بصنع عتاد وذخيرة الجنود في الحرب، ومع ذلك لا يدير المصنع أي جنود أو رجال، بل الكثير من النساء اللواتي يتنقلن بين رحى الآلات الحديثة.

ومثله مثل العديد من مصانع الصلب الأخرى أثناء الحرب تم تحويله لصنع القذائف والذخيرة، وعندما تطوع الرجال أو تم تجنيدهم قسرا للقتال في الجيش البريطاني أصبحت النساء القوى العاملة الرئيسية في صناعة الأسلحة والذخيرة.

وقد اشتهرت النساء العاملات في تلك الصناعة باسم "كناري السلاح"، والسبب هو أن عنصر الكبريت المستخدم بكثرة في تلك الصناعة كان يصبغ ملابسهن وجلودهن باللون الأصفر الكناري.

لوحة "فتيات الذخيرة" للرسام ستانهوب ألكسندر فوربس آر إيه (مواقع التواصل)

شبح التغيرات المناخية المبكر

تعتبر لوحة "مصنع بورسيج للصلب" لكارل إدوارد بيرمان (1803-1892) -رسام المناظر الطبيعية الألماني- إحدى أشهر اللوحات التي تتناول حجم الخطر المحدق بالبشر وبالبيئة بسبب المداخن التي يرتفع دخانها الأسود في سماء برلين والآلات التي حلت محل اليد العاملة.

تقول الناقدة الفنية الألمانية نينا زيمانسكي من متحف برلين للفنون "لا توجد لوحة تروي الكثير عن الأيام الأولى للصناعة في برلين مثل لوحة إدوارد بيرمان المرسومة عام 1847".

واللوحة المرسومة على المذهب الواقعي الذي كان مهيمنا في القرن الـ19 عبارة عن عدة مبان هي أقسام المصنع، ويتوسطها برج تعلوه ساعة وأمامها الكثير من القطع الإسمنتية المعدة للبناء والعمل، ويتصاعد من مداخن المصنع قدر كبير من الأدخنة السوداء التي تختلط في النهاية بسحاب المدينة.

لوحة "مصنع بورسيج للصلب" لكارل إدوارد بيرمان (مواقع التواصل)

وعلى الرغم من أن تلك اللوحات تعد الآن كنوزا فنية تتهافت المتاحف والمعارض على شرائها وعرضها فإن هذا الجمال المحكم والتفاصيل الفنية الدقيقة ما هي في الواقع إلا مرآة تعكس حجم الرعب والاضطراب الذي عاشه الإنسان أمام تلك القفزة الحضارية الهائلة، فالجمال هنا هو الوحش.

المصدر : الجزيرة