ريش.. عندما يتحول اختلاف الآراء إلى توجيه الاتهامات بتشويه سمعة مصر

خرج كثيرون من عرض الفيلم ينتقدونه ويصفونه بالطويل أو الممل حتى لو كان مختلفا وغريبا.

"ريش".. رحلة تحرر امرأة كادحة من زوجها الدجاجة - من مواد الوثائقية
"ريش" فانتازيا رحلة تحرر امرأة كادحة من زوجها الدجاجة (مواقع التواصل)

الجونة- من كان يتصور أن يتحول الاحتفاء بالفيلم المصري الطويل "ريش" الذي يحصد واحدة من أهم جوائز مهرجان "كان" في واحد من أهم التكريمات للسينما المصرية في تاريخها إلى هجوم إعلامي عنيف لم يشهده فيلم سينمائي منذ سنوات طويلة، لا سيما أن الفيلم يدور في عالم فانتازي ويبتعد تماما عن مثلث المحرمات الشهير السياسة والجنس والدين (والذي يعطي للرقابة اليد العليا لمنع الأفلام في مصر)؟

بين ليلة وضحاها انقلب الوضع، الفيلم المصري ريش الذي يحتفي به مهرجان الجونة ويقدم عرضه العربي الأول يصبح حديث الساعة، ويتحول اهتمام منصات التواصل الاجتماعي من أزياء الفنانات ونجمات السينما ونجومها إلى الجدل حول الفيلم "المسيء لسمعة مصر"، بعد أن انتشرت الأقاويل عن انسحاب فناني السينما المصرية من العرض السينمائي ومداخلة الفنان شريف منير مع الإعلامي عمرو أديب وتوجيه اتهامات للفيلم بالإساءة لمصر.

 من كان إلى الجونة

قبل شهور حصل "ريش" على جائزتي مسابقة أسبوع النقاد وجائزة لجنة تحكيم النقاد الدوليين (الفيبريسي) في مهرجان كان السينمائي أهم مهرجانات السينما في العالم، ليقدم للسينما المصرية واحدة من أهم الجوائز العالمية في تاريخها الطويل، وأعلن مهرجان الجونة عن الاتفاق مع صناعه لعرضه فيه، خاصة أن مهرجان القاهرة -المنافس الأول والأهم لمهرجان الجونة- قد يتحرج من عرضه، لأن منتج الفيلم هو رئيس المهرجان محمد حفظي.

فانتازيا وكوميديا سوداء

ويحكي "ريش" في مزيج بين الفانتازيا والكوميديا السوداء قصة زوج يقيم حفل عيد ميلاد ابنه الأصغر، ويقرر الخضوع لتجربة الساحر، الذي يضعه في صندوق ليتحول داخله إلى دجاجة، تاركا زوجته بلا عائل، لتنطلق في رحلة شاقة باحثة عن مصدر دخل في مجتمع لا يرحم، دون أن تكف عن محاولات خرقاء لإيقاف عمل السحر واستعادة زوجها من الدجاجة، مع البحث عن الساحر الذي اختفى بلا أثر.

ويقدم الفيلم قصته الغربائية في إطار من الواقعية، كأن هذه القصة يمكن أن تحدث فعلا، مستخدما ممثلين غير محترفين أتوا من عالمهم الطبيعي، يتحدثون بلغة المصريين البسطاء، ويفكرون مثلهم بل ويرقصون أمام الكاميرا أيضا مثلهم.

أماكن تصوير واقعية، تنقل لنا واقع يعيشه الملايين في أحياء فقيرة وبيوت بسيطة وظروف صعبة، ويسمعون الأغاني الكلاسيكية المصرية، لكن هذه ليست قصتنا على أي حال، فقد تدور هذه الأحداث في أي مكان في العالم وبأي لغة وبأي ملامح وفي أي زمن آخر.

الأسلوب أكثر من السيناريو

يحكي مخرج الفيلم عمر الزهيري "الفيلم مبني على الأسلوب أكثر منه على السيناريو، يقول السيناريو مثلًا إن البطلة تذهب للعمل ولكن ما يحدث في المشهد هو ما أضيفه كمخرج، فحينما ذهبوا بالدجاجة إلى الدجال الأفريقي كان الرجل بداخل الخيمة من البداية، ولكني غيرتها أثناء التصوير لينزل الدجال من فوق التبة متجهًا إليهم"، ويؤكد في أحاديثه أن الإنسان هو الأساس، فهو يحكي قصة أم و"الفيلم صنعته باعتباري ابن وزوج والأهم إنسان".

لست جريئا بما يكفي

يتذكر الزهيري نصيحة المخرج الإيراني الراحل عباس كيارستمي عندما شاهد فيلم الزهيري القصير عام 2014 والذي عرضه مهرجان كان كذلك "فيلمك جميل لكنك لست جريئا بما يكفي"، ربما دفعه ذلك ليكون أكثر جرأة بفيلم لم يسبق له مثيل في السينما المصرية.

في كلمته قبل عرض فيلمه في الجونة، وجه الزهيري التحية لأساتذته في معهد السينما ومخرجي السينما المصرية الذين كان مساعدا لهم قبل أن يصير مخرجا، وهو الذي عمل طويلا مساعدا ليسري نصر الله وأحمد عبد الله السيد في أهم أفلامهم.

دفاع عن الفيلم

خرج كثيرون من عرض الفيلم ينتقدونه ويصفونه بالطويل أو الممل حتى لو كان مختلفا وغريبا، لكن الحملة -التي بدت ممنهجة ومقصودة وتستهدف عملا فنيا نال تكريما عالميا رفيعا- دفعت كثيرا ممن انتقدوا عرض الفيلم -وأغلبهم صحفيون ونقاد وصناع سينما أو يعملون في الصناعة بحكم حضورهم العرض الأول للفيلم في مهرجان الجونة في قاعته الكبرى- إلى الاحتفاء بالفيلم ومخرجه والدفاع عنه على مواقع التواصل في مواجهة أسنة الرماح الموجهة بعنف لتقتل الفيلم في مهده وتحاول إنهاء تجربة المخرج في أول أفلامه الطويلة، حتى أن المخرج محمد دياب وقف قبل بدء عرض فيلمه "أميرة" أمس في الجونة يصف الزهيري بأنه يوسف شاهين القادم.

احتفاء الجونة بالسينما العربية المغايرة

يحسب لمهرجان الجونة احتفاءه بسينما مصرية وعربية مختلفة، واهتمام القائمين عليه بجلب أهم إنتاجات السينما العربية والمصرية التي يتم الاحتفاء بها في الخارج.

قبل 3أعوام احتفى المهرجان بفيلم "يوم الدين" احتفاء كبيرا، بعد مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان كان بعد سنوات من الغياب، ولم تتعال الأصوات بأن الفيلم الذي يلعب بطولته مريض جذام حقيقي يسيء لسمعة البلاد، بل شارك الفنانون في تكريم صناع الفيلم، كما حضر مؤسس المهرجان نجيب ساويرس عرضه، وعرض الجونة الفيلم السوداني "ستموت في العشرين" الفائز بأسد فينسيا 2019، والعام الماضي عرض المهرجان الفيلم المصري القصير 16 المتوج بالسعفة الذهبية في كان.

من الموضة إلى السينما

ينجح "ريش" في نقل الاهتمام الإعلامي واهتمام متابعي التواصل الاجتماعي من الحديث عن الأزياء والموضة إلى الحديث الأهم عن السينما والفن، فلهذا تقام مهرجانات السينما ولهذا تصنع الأفلام، كي يشاهد الجمهور المحلي أفلاما مختلفة -سواء من بلدهم أو من بلاد العالم- ويتناقشون عنها، خصوصا في مهرجان تسويقي بالأساس لقرية سياحية صغيرة تقتصر على الصفوة في مصر مثل الجونة.

ليس نقاشا عن الفن

قد لا يكون الوقت مناسبا للحديث عن معايير الفيلم فنيا، بعد أن تحول النقاش عن جماليات الفيلم وقيمته إلى حديث آخر مضلل عن توجهاته السياسية ومصادر تمويله وإساءته لسمعة البلاد، فقد يكون الفيلم حقا مملا، يفتقد لمعايير السينما الرائجة للجمهور، خصوصا مع اعتماده على ديكورات بسيطة وممثلين غير محترفين يقفون أمام الكاميرا للمرة الأولى، كما يكتفي فيه مخرجه بالكادرات الثابتة، ويتأثر مخرجه بعوالم مخرجين عالميين يسهل للمطلع على السينما العالمية تخمين تأثره بهم، لكن الأزمة هي أن النقاش لم يعد نقاشا عن الفن، بل صار دفاعا عن الفن وحرية التعبير.

السينما -والفن عموما- تسمح بالاختلاف، اختلاف الذوق والآراء والجدل والنقاش حولها، لكن انتقال هذا الاختلاف الطبيعي والصحي من خانة احترام الآراء إلى محاولة توجيه الاتهامات المكررة بتشويه سمعة البلاد فهو بلاغ من فنان -مثل شريف منير وغيره- إلى السلطات لمنع الفيلم وتشديد الرقابة على الأفلام، في مناسبة في غير محلها أصلا، حيث إننا أمام فيلم لا يعرف للسياسة سبيلا، لا من قريب ولا من بعيد، إلا لو اعتبرنا تصوير أحياء الفقراء ومعاناة النساء في عالم بيروقراطي للحصول على معاش الزوج أو إيجاد فرصة عمل سياسة.

من هجوم الإعلام إلى البرلمان

وبعد عرض الفيلم في الجونة، هاجمه الفنان شريف منير في مداخلة تلفزيونية مع عمرو أديب، وقال إن العذاب والقذارة التي تعيش فيها الأسرة خلال أحداث الفيلم مبالغ فيهما، وأشار إلى أن العشوائيات التي كانت موجودة سابقا يجب صرف النظر عنها في "الجمهورية الجديدة"، ويجب تسليط الضوء على الحياة الجميلة في مصر، واستنكر الاحتفاء بالفيلم في مهرجان كان.

وتعالت أصوات بعض الفنانين تتهم الفيلم بالإساءة لسمعة مصر، وهاجم الإعلامي أحمد موسى الفيلم في برنامجه التلفزيوني، كما أكد النائب في البرلمان المصري أحمد مهنى أنه سيتقدم بطلب إحاطة لرئيس البرلمان ووزيرة الثقافة بشأن عرض الفيلم، لأنه يساعد على تشويه صورة مصر عالميا، وطالب البرلماني بضرورة محاسبة من تسبب في إخراج هذا الفيلم المسيء لمصر، "من خلال عرض مشاهد تتنافى مع الواقع".

وعلق الدكتور خالد عبد الجليل -رئيس الرقابة على المصنفات الفنية- أن الفيلم عرض على الرقابة كسيناريو فقط، ولا يخضع الفيلم في المهرجانات -لا سيما القادم من كان- للرقابة.

وأضاف عبد الجليل في تصريحات تلفزيونية أن وزيرة الثقافة إيناس عبد الدايم لم تشاهده، وكرمت أبطاله لحصولهم على جائزة في مهرجان كان للمرة الأولى في تاريخ السينما المصرية.

انزعاج وجرح كبير

في المقابل علق محمد حفظي -منتج الفيلم ورئيس مهرجان القاهرة- بأن اختلاف وجهات النظر صحي، وأضاف أن تفاصيل الفيلم كلها من خلق مخرجه عمر الزهيري، والفيلم مجرد من الأطر الزمانية والمكانية يتحدث عن وضع إنساني يمكن أن يكون موجودا في أي زمان.

كما عبر عمر الزهيري عن انزعاجه من ردود الفعل، مؤكدا أنه أراد تقديم مشكلة تبدو كوميدية، مع اقترابك منها تكتشف أنها مشكلة كبيرا جدا، عبارة عن حياة أو موت.

وأضاف الزهيري -في تصريحات لجريدة المصري اليوم- أنه شعر بجرح كبير بعد الهجوم على فيلمه، "لأنني قدمت سينما في النهاية، ولم أقدم شيئا غريبا… التقدير من المهرجانات العالمية كان للسينما وليس للموضوع، وأي محاولات فيها تجديد تكون هناك اتجاهات لوضع أفكار لها".

وأصدر مهرجان الجونة بيانا أكد فيه أن اختيار الفيلم للعرض جاء متسقا مع معايير اختيار الأفلام في المهرجان، بناء على ما حققه من نجاحات في المحافل الدولية، لا سيما حصوله على الجائزة الكبرى لأسبوع النقاد الدولي في أكبر المهرجانات العالمية مهرجان "كان"، وهو أول فيلم مصري يحصل على مثل تلك الجائزة المرموقة، ولذا كان اختياره للعرض في مهرجان الجونة جزءا من الاهتمام بالشأن المصري، في المجالين الفني والثقافي عالميا، خصوصا أن السينما المصرية على مدار 125 سنة لم يحصل فيلم مصري على جائزة بهذه الأهمية.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية