عمارة ما بعد الموت.. مصر الفرعونية والسعي الحثيث للخلود

تحنيط فراعنة
المصريون القدماء اهتموا كثيرا بفلسفة الموت والخلود (بيكسابي)

كان هناك دومًا نُظم وطقوس صارمة ودقيقة اتبعها الفراعنة في دفن الموتى، حتى كادت حياتهم بأسرها تكون تحضيرا لتلك الحياة الأبدية.

فقد حافظ الفراعنة في المقام الأول على عادة التحنيط، حيث يجب البقاء على جثة الميت سليمة ومثالية -قدر الإمكان- ليعبر إلى العالم الآخر في أبهى حلة، كما آمن الفراعنة بأن الميت إذ لم يجد جسده مثاليا لن تجد روحه ما تلبسه للعبور، وبذلك تبقى الروح هائمة ومعذبة من دون جسد تستقر فيه.

أمرٌ آخر، كانت مرحلة العبور للعالم الآخر نفسها مرحلة معقدة ومليئة بالمخاطر، حيث سيواجه الإنسان عددا من الآلهة والحيوانات المفترسة، وسينجو فقط إذا كانت أعماله جيدة؛ لذلك اهتم الفراعنة بتحضير مسرح الاختبارات المخيفة هذا؛ ألا وهو المقبرة.

ففي المقبرة، سيصدر أوزوريس حكمه النهائي على الميت بعد نجاحه أو فشله في اختبارات العبور. وعليه، فقد زين الفراعنة القبور بالتعاويذ والأدوات الحربية، وأحيانا بأجسام حيوانات ميتة ومحنطة، بالإضافة إلى بعض الطعام ليستعين بها الميت في رحلته للدار الآخرة.

وبالطبع، شكلت تلك الفلسفة -شديدة الاهتمام بالموت وما بعده- عالم الأحياء، حتى صارت معظم أعمالهم المعمارية الخالدة حتى اليوم ما هي إلا صروح خالدة تُذَكّر باستعدادهم المفرط للموت، خاصة أن البيئة الطبيعية في مصر القديمة ساعدت على الاستقرار.

فبدل السعي نحو توفير احتياجات الحياة اليومية، وجد المصريون أنفسهم مستقرين اقتصاديًّا بفضل البيئة الزراعية الخصبة التي يوفرها نهر النيل؛ وهو ما أدى إلى ازدهار الأعمال الزراعية والحرفية والفنية، وكذلك أسهمت الصحاري والبحر -اللذان كانا يحدان مصر من جميع الجهات- في هذا الاستقرار من خلال تثبيط الغزو لما يقرب من ألفي عام.

أهرامات الجيزة

وهكذا، وجدت مصر الحديثة نفسها أمام إرث هائل من العمارة والآثار التي تعبر عن كل سلالة من السلالات الحاكمة في مصر القديمة، حيث كان مسار الفن في مصر موازيًا إلى حد كبير للتاريخ السياسي للبلاد. وبالطبع، تأتي أهرامات الجيزة بوصفها واحدة من أشهر الأمثلة وأكثرها وضوحًا على هذا الاهتمام المفرط بالحياة الآخرة.

فالأهرامات الثلاثة تعد تطورا لافتا للقبر الذي كان يُبنى على شكل مصطبة صغيرة؛ ليتحول لهرم عملاق شاهق الارتفاع، وممتلئ بالغرف والرسوم والرموز والتماثيل. وهي بذلك تعكس التغير الواضح في الوضع الاجتماعي للفراعنة ورؤية الفرعون لنفسه من أول الأسرة الرابعة للمملكة القديمة، وهي الأسرة التي بنت أهرامات الجيزة؛ فكل هرم يعمل كنصب تذكاري دائم للفرعون الفردي الذي أنشأه وليس فقط كمقبرة.

طقوس حتشبسوت

الفلسفة نفسها نجدها في الدير البحري، الذي يضم عددا كبيرا من المقابر والمعابد الفرعونية تحت مظلة واحدة؛ معبد منتوحتب الثاني ومعبد تحتمس الثالث ومعبد حتشبسوت. وقامت ببنائه الملكة حتشبسوت لتمارس طقوسها الدينية الخاصة بالعالم الآخر. ويتكون المعبد من 3 مدرجات متصاعدة، تصل بينها منصات منحدرة للصعود والنزول.

والدير البحري هو واحد من مشاريع معمارية عملاقة عدة نفذتها الفرعونة الأنثى بعد أن انتهت الاضطرابات في الفترة الانتقالية الثانية، وتم توحيد مصر، واستتب الحكم في المملكة الجديدة (نحو 1550-1070 قبل الميلاد).

وكان من المقرر لهذا المجمع الذي يضم مقابر عدة أن يكون ذا غرض دنيوي تمامًا كغرضه الديني؛ فقد أرادت حتشبسوت أن تستخدم تصميمه الفريد كدعاية فنية لها، لتؤكد من خلاله أنها بسطت سيطرتها على الحكم، وأنها مبعوثة من الإلهة؛ حيث تظهر الملكة وهي تقدم القرابين للآلهة في رسوم عدة، كما احتوى المعبد على تماثيل أخرى تصور الفرعونة مع أوزوريس إله الحياة الآخرة.

معبد هابو في الأقصر

يعد معبد رمسيس الثالث، أو هابو، من أشهر وأهم معابد الأسرة 20، وقام ببنائه الملك رمسيس الثالث لإقامة الطقوس الجنائزية له ولعبادة الإله آمون. وتكمن أهمية المعبد في كونه واحدا من أكبر المعابد التي بُنيت في الدولة الحديثة، حيث تبلغ مساحته 320 مترا. ويتكوّن المعبد من مدخل عظيم يحاط ببرجين عليهما نقوش تمثّل أذرع الأسرة وصور لرمسيس الثالث.

سبب آخر وراء أهمية المعبد يرجع إلى أن تمثال الإله آمون الموجود فيه زُيّن بالأحجار الكريمة تشريفًا للإله. وتمتلئ الجدران بالنقوش والرسوم القيمة، ويؤدي الصرح الأول في المعبد إلى فناء مفتوح، ويحتوي على تماثيل ضخمة لرمسيس الثالث وأوزوريس. ويؤدي الصرح الثاني إلى قاعة تحتوي مرة أخرى على أعمدة على شكل رمسيس. ويتم الوصول إلى الصرح الثالث من خلال الاستمرار في منحدر يؤدي من خلال رواق ممتلئ بالأعمدة التي رسمت عليها نقوش ورؤوس فعلية للأسرى الأجانب داخل المعبد؛ في إشارة إلى سيطرة الملك على سوريا والنوبة.

ويُمكن القول إن العمارة الفرعونية الخالدة ليومنا هذا كانت في جوهرها مدفوعة بسعي حثيث للخلود، وقد اعتقد المصريون القدماء أنهم عندما يموتون فإن أجسامهم ستستمر في الوجود في الحياة الآخرة عبر رحلة خطيرة للعالم السفلي. وإذا أرادوا النجاح في رحلة الموت تلك، فإن عليهم الاستعداد من يومهم الأول في الحياة.