شعار قسم مدونات

فلسفةُ السنّة

مدونات - مكتبة

لا تهدف هذه التدوينة إلى وضع "فلسفة" بالمعنى المتداول للكلمة، بقدر ما تهدف إلى تقديم إطار مفاهيمي راسخ للتعامل مع السنّة النبوية الشريفة، يكون بمثابة "درع" واقٍ تجاه الكثير من المغالطات والشبهات المعاصرة المتداولة في فضاء الخطاب العربي حول السنّة، والتي أصبحتْ الألسن تلوكها دون أن يكون لمن يردّدونها ما يكفي من المعرفة بالسنّة لاختبار صحّتها. سنحاول هنا التعريف بمجالين أساسيّين فيما يتعلّق بالسنّة:

المنهجية العلمية الدقيقة التي نُقلتْ فيها السنّة إلينا، والتي هي من مفاخر الأمة الإسلامية التي لم تسبقها إليها حضارة في العالم، وتنتظم هذه المنهجية ثلاثُ مجموعات. المستويان الرئيسيّان اللذان يتم فيهما الطعن بالسنّة في العصر الحديث واللذان يؤدّيان ببعض الناس إلى رفض السنّة مطلقا كمرجعية للتشريع والقيم، وبآخرين إلى ردّ الكثير من الأحاديث بدون منهجية وبشكل انفعالي طائش، هذان المستويان هما: المستوى المتذرّع بالعلم، والمستوى المتذرّع بالأخلاق.

وقبل أن نبدأ نودّ أن نعرّف تعريفا سريعا بمضمون السنة، فإذا اتفقنا أنّ السنة هي كل ما صدر عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير مما لم يُنصّ عليه في القرآن الكريم. فما طبيعة هذه السنة؟

إنّ حكم علماء الحديث على الأحاديث بكونها صحيحة ليس كافيا وحده لاعتبارها من "السنّة"، بل هو لا يوضّح وحده "المستوى التكليفي" الذي تتضمنه هذه الأحاديث.

ما السنّة؟
يقول الإمام الشاطبي في "الموافقات" عن معنى السنّة: "السنّة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره". ويعلّق الشيخ عبد الله دراز في بيان هذه الأنواع الثلاثة، فيضرب لتفصيل المجمل مثال قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، ولبيان المشكل قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}، إذ كبر ذلك على الصحابة فسألوا عنها فقال عليه الصلاة والسلام: إنّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم. ولبسط مختصره قوله تعالى {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} فقد بسط قصّتها الحديث الذي أخرجه الخمسة، وشرح ما حصل فيها من النهي عن كلامهم، ثم النهي عن قربان نسائهم، إلى آخر القصة. فإذا كانت هذه هي طبيعة السنة، فكيف انتقلت إلينا؟ يمكننا تقسيم المنهجية العلمية التي انتقلتْ السنة إلينا من خلالها إلى ثلاث مجموعات عمل، أثمرتْ جهودها المتضافرة إلى وصول السنّة الصحيحة إلينا بالشكل الذي نراه اليوم.

مجموعة الرواة والحفّاظ
كانت مهمة هذه المجموعة هي جمع كل ما وصل إلينا من أخبار عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يروونها جيلا بعد جيل وصولا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلّم-. وهي مهمة توثيقية كمهمة "جمع البيانات من الميدان" (Data collection) في الدراسات المعاصرة. ومن ثم كان هؤلاء يروون ويحفظون كل ما وصل لأسماعهم من أخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، بغضّ النظر عن صحّته أو ضعفه الآن، فهو أشبه بجمع المواد الخام أو ما يفعله عمّال المناجم الذين يكسّرون الصخور وينخّلون الأتربة بحثا عن الذهب.

مجموعة علماء الحديث
كان من الرواة مجموعة من علماء الحديث، وهذه المجموعة ظاهرة خاصة بالحضارة الإسلامية، لم تظهر في حضارة أخرى. فنحن نعلم أنّ سائر الحضارات تروي قصص أبطالها الأسطوريين وأنبيائها التي تعود لقرون أو لآلاف السنين بما تتناقله ألسنة الناس، دون أن يكون ثمة معرفة بالأشخاص الذين رووا هذه القصص، ولا منهجية علمية يمكنها فرز القصص الثابتة عن القصص الخرافية.

لكن الذي حدث في الحضارة الإسلامية مختلف تماما، فقد نشأ علم الحديث في وقت مبكّر جدّا، وكان علماء هذه المجموعة يوثّقون معلومات الشخصيات التي روتْ تلك الأحاديث المنسوبة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- ويدرسونها، ويدرسون النصوص نفسها من حيث مُشكلها وما قد يتعارض مع نصوص صريحة، ليحكموا في النهاية على صحّة الرواية أو ضعفها. وقد تطوّر هذا العلم فوضع علماؤه منهجيّتهم العلمية في الكتابة الحديثية، فكتب مسلم مقدّمة صحيحه، وكتب أبو داود رسالته إلى أهل مكة، وكتب ابن حبّان مقدّمة صحيحه، فكانت هذه الرسائل بمثابة "نموذج" (Model) علمي يوضّح المنهجية التي صنّفوا فيها كتب الحديث لتكون بين يدي علماء الحديث والفقهاء.

وثمّة نتيجة تلفت النظر في جهود هذه المجموعة، وهي أنّ ثمرة جهودهم كانت تضعيف معظم ما نقلته المجموعة الأولى من الروايات المنسوبة للرسول -صلى الله عليه وسلّم-! نعم، لم تقبل هذه المجموعة عشرات الآلاف من الروايات التي إمّا أن تكون ضعّفتها أو حكمتْ عليها بالوضع، بخلاف ما يروّج له أهلُ الشبهات من أنّ أهل الحديث كانوا يقبلون الأحاديث دون تمحيص! ولقد بلغت خلاصة جهودهم ما ذكرناه في مقال "من أين جاؤوا بكل هذه الأحاديث النبوية؟"، حيث ذكرنا أنّ عدد الأحاديث الصحيحة بدون تكرار لم يتجاوز 4000 حديث، وإذا قارنّا هذا الرقم ببحر هائل من عشرات آلاف الروايات المنسوبة للنبيّ -صلى الله عليه وسلّم- عبر قرون، أدركنا قيمة الجهود التي بذلتها هذه المجموعة.

undefined

مجموعة الفقهاء والأصوليّين
إنّ حكم علماء الحديث على الأحاديث بكونها صحيحة ليس كافيا وحده لاعتبارها من "السنّة"، بل هو لا يوضّح وحده "المستوى التكليفي" الذي تتضمنه هذه الأحاديث، ومن ثم كانت جهود الفقهاء والأصوليين منصبّة في "فرز" هذه الأحاديث فرزين أساسيّين:

الفرز الأول: الإجابة عن سؤال: هل هذه الأحاديث من "الوحي" أم ليست وحيًا؟ وهذا المستوى مهمّ جدّا، فليس كلّ ما نُقل إلينا من الأحاديث هو "وحي" أو يتضمّن "تشريعًا" أو "تكليفًا"، وقد ثبت في السنّة ما يفيد بأنّ الكثير من أفعال النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وأوامره كان بشريّا محضًا غير مدفوع بالوحي، فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك: أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مرَّ بقومٍ يُلقِّحون فقال: "لو لم تفعلوا لصلَح". قال: فخرج شِيصًا [أي رديئا ليس فيه ما يؤكل]. فمرَّ بهم فقال "ما لنخلِكم"؟ قالوا: قلتَ كذا وكذا. قال: "أنتم أعلمُ بأمرِ دنياكم".

وفي رواية موسى بن طلحة عن أبيه عند مسلم: "إنْ كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنّا فلا تؤاخذوني بالظنّ، ولكن إذا حدّثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإنّي لن أكذب على الله عزّ وجلّ". وفي رواية رافع بن خديج: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر". وروى البخاري امتناعه صلّى الله عليه وسلّم عن أكل الضبّ، "فقال خالدُ بنُ الوليدِ: أحرامٌ الضبُّ يا رسولَ اللهِ؟ قال: "لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أُعافُه". قال خالدٌ: فاجتررْتُه فأكلتُه، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ينظرُ إليَّ" (صحيح البخاري).

وقد تحدّث الفقهاء والأصوليون عن الأفعال الجبلّية للرسول -صلى الله عليه وسلّم-، وذكر القرافي في كتابه "الإحكام" تصرّفه عليه الصلاة والسلام بالإمامة وقال إنّه وصفٌ زائد عن النبوة والرسالة والفتيا والقضاء، وبأنّه ليس داخلا في مفهوم الفتيا ولا الحكم ولا الرسالة ولا النبوة. ومن هنا فما قد يظنّه الجاهل بعلوم الشريعة وحيًا، قد يكون في الواقع فعلا بشريّا ليس من أمر الوحي والدين وليس فيه تكليف شرعي. ويدخل في ذلك ما ورد تحت باب "الطبّ النبوي"، فالكثير مما كان يعالج به النبيّ صلى الله عليه وسلّم لم يكن وحيًا، وإنما كان في حدود معرفة عصره الطبّية، وهو من أمور الدنيا، ما لم تردْ قرينة تفيد بأنّه وحي، كتعليمه أدعية خاصّة للشفاء وغير ذلك.

ومن هنا أخطأ من دافع عن بعض الروايات الطبية باستماتة ظنّا أنها من الوحي فتأوّلها وتكلّف لها الأبحاث المعاصرة، كما أخطأ من استمات في إنكارها وظنّ أنه يذبّ عن الدين بنفي ثبوتها؛ فثبوتُها لا يقدح بصحة الرسالة ولا بعصمة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وقد قال ابن خلدون في مقدّمته: "والطبّ المنقول في النبويات من هذا القبيل [أي الطبّ العربي المتوارث القديم] وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمرٌ كان عاديّا للعرب. ووقع في ذكر أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- من نوع ذكر أحواله التي هي عادة جيله، لا من جهة أنّ ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنّه صلى الله عليه وسلم إنما بُعث ليعلّمنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطبّ ولا غيره من العاديات".

undefined

الفرز الثاني: وهو بيان نوع التكليف الكامن في الأخبار التي تنقل أقواله وأفعاله وتقريراته عليه الصلاة والسلام، وقد قسّم بعض الفقهاء أحكام التكليف إلى خمسة أحكام لا يخرج عنها التكليف: الواجب والحرام والمستحبّ والمكروه والمباح. ومن ثم كانت مهمة الفقهاء في هذا المجال بيان الحكم المستفاد من السنّة المنقولة، وكانت مهمة الأصوليين إلى جانب ذلك بيان: هل هذا الحكم من تخصيص عموم وردَ في آية مثلا؟ (كتخصيص الوصيّة بالثلث)، أم هو بيان لمجمل جاء في كتاب الله، وغير ذلك من الفرز الأصولي. وبالجملة فقد انصبّت جهود الفقهاء والأصوليين في هذا المستوى على تقديم الصيغة النهائية القابلة للتكليف والاستخدام من قبل الناس. وما قد يظنّه الجاهل بعلوم الشريعة واجبًا مما قرأه في أحد نصوص الحديث، قد يكون في الواقع مستحبًا لا يأثم من تركه.

 إنّ الناظر إلى هذه الجهود المتضافرة في المجموعات الثلاث سيجد بأنّها تتوفّر على منهجية "البحث الكمّي" (Quantitative research) إلى جانب منهجية "البحث النوعي" (Qualitative research)، وهي جهود علمية فذّة ينبغي على المسلمين أن يُفاخروا بها الأمم، بدلا من تلك الهزيمة النفسية التي دفعت بعضهم إلى التخفّف من حمل السنّة وإنكارها عند أهون الأسباب، ظانّين بذلك أنّهم يحسّنون صورة الإسلام أمام العالم. علمًا أنّ الخطأ واردٌ حتى بعد كل هذه الجهود الجبّارة، وقد استدرك العلماء بعض الأحاديث على كبار أهل الحديث كالبخاري وغيره، واختلف أهل الفقه والأصول في بعض الجزئيات الثانوية، وهذا لا يعيب تلك الجهود بل يزيد من جدّيتها، فهي جهود بشرية لا تدّعي المثالية. وحتى الأبحاث العلمية المعاصرة، والتي تمتلك أدوات بحث أكثر دقّة مما كان قبل قرون طويلة، تقع في الخطأ، وكم سمعنا عن بحث علمي ينسخ بحثًا آخر، وعن دراسة أكاديمية تلعن أختها، في الطبّ والأحياء وغيرها من العلوم!

والآن، علينا أن نتساءل بعد أن قمنا بترتيب الأوراق بخصوص مفهوم السنة التي كُلّفنا بها: ما هي أبرز مستويات الاعتراض على السنة والتي تدفع بعضهم لإنكار حجّيتها جملة، وتدفع آخرين إلى رفض الكثير من الأحاديث بأدنى سبب وبدون منهجية علمية؟ إنّهما في الواقع مستويان تندرج تحتهما معظم الأحاديث التي يعترض عليها بعضهم، وهي بالمناسبة بالعشرات فقط من بين نحو 4000 حديث صحيح!

من يدرك الطبيعة المزدوجة للإنسان فهو يدرك أنّ سجود الشمس ينتمي للمستوى الروحي، وهو معرفة جليلة نافعة تجعله يشعر بحقيقة خضوع الكون كله لله.

الاعتراضات المتذرّعة بالعلوم الحديثة
في إطار هذه الاعتراضات يتم ردّ بعض الأحاديث لكونها – بزعمهم – تتناقض مع "الحقائق" العلمية الحديثة. وقد أخطأ أصحاب هذا الاعتراض خطأ منهجيّا عندما نظروا إلى السنّة عبر "الميكروسكوب" العلمي، ذلك أنّ السنة التي هي وحيٌ من عند الله مساحة مختلفة تماما عن المساحة التي تتناولها العلوم الحديثة. وقد بيّنتُ في تدوينة "العلوم والقرآن.. بحران لا يلتقيان" الفرق بين مهمة الوحي ومهمة العلوم، فليراجعها من أراد التفصيل، ولكن الخلاصة أنّه لا يمكن أن يكون في السنة الشريفة خطأ علمي، ببساطة لأنّها ليست ضمن مساحة العلوم، ولم تأت لتقدّم لنا علما جديدا بالمفهوم الحديث للعلوم، وإنما قدّمت لنا "معرفة" في مستوى آخر لا تتطرق إليه العلوم الحديثة.

وفي هذا الإطار نطرح مثال حديث كثر حوله اللغط، فقد جاء في صحيح البخاري عن أبي ذرّ الغفاري أنّه قال: "دخلتُ المسجدَ ورسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جالسٌ، فلما غربتِ الشمسُ قال: "يا أبا ذرٍّ، هل تدري أين تذهبُ هذه"؟ قال: قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: "فإنها تذهبُ تستأذنُ في السجودِ فيؤذنُ لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيثُ جئتِ، فتطلُعُ من مغربِها"، ثم قرأ: ذلك مستقرٌّ لها. في قراءةِ عبدِ اللهِ". ولقد كان التعامل السطحي مع هذا الحديث هو ردّه دون نقاش، بحجّة أنّه يعارض ما يقوله العلم من أنّ الأرض تدور حول الشمس وأنّ هذا هو التفسير العلمي لغروب الشمس!

لقد غفل هؤلاء عن كون الإجابة النبوية هي إجابة على المستوى "الروحي"، وليست إجابة على المستوى "المادي". إنّ المستوى الروحي موجود في كتاب الله بوضوح، فكيف غفل عنه هؤلاء؟ ألم يقرأوا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} (الحجّ: 18)؟! فلِمَ لم يقولوا هنا: لقد راقبنا الشمس والقمر والجبال والشجر والدوابّ فلم نجدها تسجد؟ السبب واضح؛ أنّ هذا السجود غير مرئيّ لنا على المستوى الماديّ، وإنْ كان بالإمكان الشعور به في المستوى الروحي، حين تتدفّق حقائق الإيمان في القلب البشري، فيلحظ أفعال الله في كلّ شيء حوله، فحينها فقط "يرى" سجود الشمس!

undefined

أما على المستوى المادي، فهو غير قادر على تفسير هذا السجود تفسيرا علميا يمكن فهمه، ولذلك قال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44). فهل يمكننا عبر الوسائل العلمية الحديثة إدراك هذا التسبيح؟ كلا، لأنّه مستوى مختلف من المعرفة التي طريقها الوحي.

انقلاب في الموازين وهزيمة نفسية تدفع بعضهم إلى تحريف المفاهيم الإسلامية وإنكار بعضها كي تتلاءم حياتهم مع القيم العلمانية المعاصرة، بدلا من أن يكون جهدهم هو نشر هذه المفاهيم وتوضيحها وبيان نصاعتها.

إنّ منافذ المعرفة لا تقتصر على "العلم" بمفهومه الحديث، ولقد كانت الجريمة الكبرى لعصرنا هذا الكفر بأيّ منفذ آخر للمعرفة وتقديس العلوم الحديثة حتى تصوّر بعضهم أنّها قادرة على تزويدنا بكلّ ما يلزمنا كبشر! "ليس الإنسان مفصّلا على طراز دارون، ولا الكون مفصّلا على طراز نيوتن" كما يقول بيجوفيتش. وإنّ مشكلة الذين يردّون نصوص السنّة بحجة مناقضتها – بزعمهم – للعلم هي سطوة العلوم الحديثة اليوم، وكأنّها "إله" يعاقب كلّ من يخرج عن أدواتها وما تقرّه، جاهلين بأنّ هذه العلوم إنّما تتعامل مع الكيان المادي للإنسان فقط، وتُغفل كيانه الروحي (راجعوا كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" لعلي عزت بيجوفيتش في بيان هذا المعنى).

ومن يدرك الطبيعة المزدوجة للإنسان فهو يدرك أنّ سجود الشمس ينتمي للمستوى الروحي، وهو معرفة جليلة نافعة تجعله يشعر بحقيقة خضوع الكون كله لله، وانسجامه مع هذا الكون الذي يعيش فيه حين يخضع هو أيضًا لله. أما التفسير المادي لغروب الشمس فهو ينفع في القضايا العلمية، ولكنّه لا يتعارض مع المستوى الروحي.

إنّ التفسير العلمي للممارسة الجنسية بين الرجل والمرأة يتطرّق للهرمونات والرغبة الجنسية وغير ذلك مما تقوله الدراسة المادية لجسم الإنسان، وهذا لا يتعارض مع التفسير الروحي الذي قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "وفي بضعِ أحدكم صدقة ". قالوا: يا رسولَ اللهِ، أيأتي أحدنا شهوتَه ويكون لهُ فيها أجرٌ؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان لهُ أجرًا" (صحيح مسلم).

 الاعتراضات المتذرّعة بالأخلاق
 ثمة نوع آخر من الاعتراضات ينطلق من "الأخلاق"، إذ يرى بعضهم أنّ هناك أحاديث لا تتفق مع الأخلاقيات ومع "ما يليق". وبالجملة تندرج هذه الاعتراضات الأخلاقية في نوعين رئيسيين:

اعتراضات منشؤها تضخيم المكانة "النورانية" للرسول صلّى الله عليه وسلم: وتعود هذه الاعتراضات في الأساس إلى بعض فئات التيّار الصوفي، والتي بالغت في تضخيم مكانة النبيّ صلى الله عليه وسلّم حتى نزعتْ عنه صفته البشرية. ومن ثم يرفض الكثيرون تقبّل الأحاديث التي تتناول الحياة الزوجية والجنسية للرسول -صلى الله عليه وسلّم-، أو الأحاديث التي تنسب له نزعات البشر وطبائعهم، فهم يرونه "نورًا" غير بشري. وهؤلاء يغفلون قيمة هذه الأحاديث في بيان التطبيق النبوي للكثير من الأحكام التي تتعلق بالحياة الزوجية وغير ذلك، وهم مخالفون لما يقرّره القرآن والسنة من أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم بشرٌ يوحى إليه وليس كائنا نورانيا.

اعتراضات منشؤها اتخاذ القيم الأخلاقية المعاصرة مرجعية: وهذا انحراف آخر في التعاطي مع السنّة النبوية، إذ يعتمد بعضهم على قيم أخلاقية علمانية حديثة لم يتجاوز عمرُها عشرات السنين لمحاكمة القيم الواردة في السنة النبوية! فيرفض بعضهم الرجم بحجة أنّه قانون قاسٍ، رغم أنّه يرى القوانين الوحشية القاسية التي ما تزال أكبر الديمقراطيات تنفّذها، كالإعدام بالكرسي الكهربائي في أمريكا مثلا!

لو جمعنا كل ما يعترضون عليه من السنّة لَما تجاوز عشرات الأحاديث، ومعظم الاعتراضات هي من هذا النوع، أو بظنّ التعارض مع نصوص أخرى، وهو باب قديمٌ ناقشه العلماء تحت عنوان "اختلاف الحديث".

أو يرى بعضهم أنّ زواج من تسمّيهم الحضارة الغربية المعاصرة "قاصرين" هو انحراف أخلاقي، بينما قد يكون في الشرع أمرًا عاديا إنْ توفّرت شروط الزواج الشرعي. فالواقع أنّ هؤلاء يحيلون إلى مرجعية قيمية بشرية حادثة ومتغيّرة، ويحاكمون من خلالها السنّة النبوية. وهي أمور تختلف فيها العقول والأهواء، والمسلم لا يجعل مرجعية القيم لديه أهواءه وذوقه الشخصي ولا ما تواضعت عليه أمة من الأمم في أحد العصور، وإنما يعتمد مرجعية الوحي في تحديد القيمة الأخلاقية للأفعال والأقوال.

ولقد أقرّت الحضارة الغربية المعاصرة جملة فظيعة من الانحرافات الأخلاقية كالشذوذ والخمر والدعارة وغير ذلك، فهل يصحّ أن يجعلها المسلم مرجعية أخلاقية فيقبل ما تقبله وينكر ما تنكره؟! إنّه انقلاب في الموازين وهزيمة نفسية تدفع بعضهم إلى تحريف المفاهيم الإسلامية وإنكار بعضها كي تتلاءم حياتهم مع القيم العلمانية المعاصرة، بدلا من أن يكون جهدهم هو نشر هذه المفاهيم وتوضيحها وبيان نصاعتها مقابل القيم الأخلاقية المنحطّة التي تسود العالم اليوم!

وهكذا يتّضح أنّ معظم الاعتراضات على السنّة النبوية إنّما منشؤها الجهل بطبيعة السنة والدين أولا، ثم اعتماد مرجعية أخلاقية بشرية يختلف الناس حولها، وجعلها هي الحاكمة على السنّة الشريفة. مع التأكيد على أنّا لو جمعنا كل ما يعترضون عليه من السنّة لَما تجاوز عشرات الأحاديث، ومعظم الاعتراضات هي من هذا النوع، أو بظنّ التعارض مع نصوص أخرى، وهو باب قديمٌ ناقشه العلماء تحت عنوان "اختلاف الحديث".

إنّ ما قدّمناه في هذه التدوينة هو تصوّر إطار مفاهيمي مهم نجد أهمية كبرى في نشره وإشاعته للإمساك بمفاتيح فهم السنّة النبوية، مما يشكّل حصانة فكرية تجاه حملة الطعن بالسنّة والتي يقودها بعض أدعياء الفكر و"الباحثين" والإعلاميين، والذين إنْ أحسنّا الظنّ بهم فلا تعدو طعونهم أن تكون نتيجة جهل فاحش بطبيعة السنة وفقهها وفلسفتها وعلاقتها بالقرآن والمنهجية العلمية في نقلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.