إنفلونزا الطيور تظهر في القطب الجنوبي وتهدد مستعمرات البطريق
مع العواقب المدمرة على صناعة الدواجن وتهديد سبل عيش المزارعين والتجارة الدولية وصحة الطيور البرية، استحوذ مرض إنفلونزا الطيور على اهتمام المجتمع الدولي لسنوات طويلة.
إلا أن السنوات الثلاث الماضية شهدت انتشاراً واسعاً لشكل جديد من فيروس إنفلونزا الطيور شديد الإمراض (إتش5 إن1 إتش بي إيه آي) بين الطيور البرية والثدييات المستزرعة والبرية، مما أثار القلق بين مسؤولي الصحة والعلماء. وعلى الرغم من رصد انتشار هذا النوع من الفيروسات في كل أرجاء الأرض باستثناء أوقيانوسيا والقارة القطبية الجنوبية، فإنه اكتُشف مؤخراً ولأول مرة في أقصى جنوب كوكب الأرض، على الرغم من المسافة والحواجز الطبيعية التي تفصل هذه المنطقة عن القارات الأخرى.
عواقب كارثية في بيئة هشّة
أكد مركز سيفيرو أوتشوا للبيولوجيا الجزيئية التابع للمجلس الوطني الإسباني للبحوث (سي إس آي سي) وجود فيروس إنفلونزا الطيور شديد الإمراض لأول مرة في القارة القطبية الجنوبية.
وعثر علماء أرجنتينيون على الفيروس في 24 فبراير/شباط الفائت في طائرين نافقين من طيور الكركر قرب محطة بحوث بريمافيرا القطبية التابعة للأرجنتين.
وبحسب بيان صادر عن وزارة العلوم والابتكار والجامعات الإسبانية، أظهرت التحليلات بشكل قاطع أن الطيور كانت مصابة بالنمط الفرعي (إتش5) من إنفلونزا الطيور، وأن واحداً على الأقل من الطيور النافقة يحتوي على فيروس إنفلونزا الطيور شديد الإمراض، وتضمنت هذه التحليلات تفاعل البوليميراز المتسلسل المحدد لفيروس الإنفلونزا، متبوعاً بتسلسل لمنطقة انقسام الأنزيم البروتيني الذي يحدد بنسبة 100٪ من اليقين وجود فيروس إنفلونزا الطيور الشديد الإمراض.
وجمع الباحثون العينات باستخدام أقصى تدابير الحماية لمنع انتقال الفيروس إلى البشر، إذ عُطلت الفيروسات الموجودة في العينات على الفور للسماح بدراستها بأمان، ونُقلت العينات في وقت لاحق إلى قاعدة غابرييل دي كاستا الإسبانية في جزيرة ديسبشن القطبية الجنوبية وتحليلها من قبل باحثي المجلس الوطني الإسباني للبحوث.
ومرض إنفلونزا الطيور مرض فيروسي شديد العدوى، يتألف من سلالات الطيور من فيروس الإنفلونزا "إيه"، والتي تضم كلا من السلالات الإمراضية المنخفضة (إل بي إيه آي) ذات التأثير المرضي الخفيف أو المعدوم، والسلالات الإمراضية العالية (إتش بي إيه آي) التي تسبب مستويات عالية من المرض ونفوق الدواجن والطيور البرية.
ومن المرجح أن انتشار هذا الفيروس في تلك المنطقة القطبية النائية حصل عن طريق الطيور المهاجرة، ويُعتقد أن تفشي فيروس إنفلونزا الطيور قتل ملايين الطيور البرية على مستوى العالم منذ عام 2021.
وكانت قارتا أوقيانوسيا وأنتاركتيكا الوحيدتين الخاليتين من المرض حتى أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما وصلت إنفلونزا الطيور إلى منطقة أنتاركتيكا الأوسع، حيث اكتُشف الفيروس لأول مرة في جزيرة الطيور، وهي جزء من إقليم ما وراء البحار البريطاني في جورجيا الجنوبية وجزر ساندويتش الجنوبية على بعد نحو 1600 كلم من القارة القطبية الجنوبية، كما عثر عليها أيضاً في جزر فوكلاند التي تقع على بعد نحو 1000 كلم شمال غرب جورجيا الجنوبية.
وتُعد جزيرة الطيور واحدة من أغنى مواقع الحياة البرية في العالم، وتضم أعداداً كبيرة ومتنوعة من الطيور البحرية وفقمات الفراء، وهي موطن لنحو 50 ألف زوج من طيور البطريق ونحو 65 ألف زوج من فقمات الفراء.
ومنذ عام 2021، تسببت سلالة شديدة الإمراض من إنفلونزا الطيور في انتشار كبير للمرض، مما أدى إلى هلاك الطيور البرية في المملكة المتحدة وأوروبا وجنوب أفريقيا والأميركتين، وأسود البحر في أمريكا الجنوبية، ومنذ بدء هذا التفشي عانت أعداد كبيرة من مستعمرات الطيور البحرية من خسائر كبيرة مع معدلات وفيات وصلت إلى ما بين 50 و60٪ خصوصاً في أعداد طائر الكركر الكبير وطائر الأطيش.
ومنذ وصول فيروس إنفلونزا الطيور شديد الإمراض إلى أميركا الوسطى والجنوبية في أكتوبر/تشرين الأول 2022، انتشر الفيروس بسرعة جنوباً على طول ساحل المحيط الهادي بأميركا الجنوبية، وهو ما أثر بشكل خاص في بيرو وتشيلي، وأدى إلى نفوق أكثر من نصف مليون طائر بحري معظمها من طيور البجع والأطيش والغاق وطيور البطريق، إضافة إلى تفشي المرض في الثدييات البحرية، حيث نفق ما يقرب من 20 ألفاً من أسود البحر في بيرو وتشيلي وحدها.
ومن المتوقع أن تؤدي سلالة إنفلونزا الطيور شديدة الإمراض إلى فشل كارثي في تكاثر الأحياء البرية في المنطقة القطبية الجنوبية، ونفوق أعداد كبيرة منها، وأن تترك آثاراً مدمرة في الحياة البرية الهشة هناك، حيث إن العديد من هذه الأنواع لا توجد في أي مكان آخر في العالم، ومن غير المعروف إن كانت تعرضت لفيروسات إنفلونزا الطيور من قبل، خصوصاً طائر البطريق الذي توجد مستعمراته قرب العينات المكتشفة حديثا، ومن غير الواضح لدى العلماء كم من الوقت قد يستغرق ذلك قبل أن ينتقل المرض إلى أنواع أخرى.
تغيّر المناخ وإنفلونزا الطيور
شهدت السنوات القليلة الماضية زيادة في حجم ووتيرة تفشي إنفلونزا الطيور، إذ انتقل الفيروس خارج حدود مواسمه المعتادة التي تتزامن مع هجرة الطيور في الربيع والخريف.
وفي عام 2022، اكتُشف فيروس إنفلونزا الطيور في أشهر الصيف بإيطاليا، حيث من المفترض أن تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى إضعافه، وكذلك في أشد المناطق برودة في كندا، حيث تكون الطيور المهاجرة قليلة ومتباعدة، ولا تزال العوامل التي تؤثر في هذه الفاشيات غير معروفة إلى حد كبير، وقد يبقى الفيروس في البيئة لفترة أطول أو ينتشر بوتيرة أكبر وسهولة بين الطيور.
ويؤدي تغيّر المناخ إلى خروج النظم البيئية عن السيطرة، ويحفّز انتشار الأمراض، مما يعرض الحياة البرية وصحة الإنسان للخطر. ولهذا السبب يُنظر بجدية إلى تغيّر المناخ كأحد العوامل المساعدة على انتشار إنفلونزا الطيور، لكن معرفة الطرق التي قد يؤثر بها تغيّر المناخ على انتشار إنفلونزا الطيور لا تزال المهمة الأكثر تعقيدا وصعوبة.
ووجدت الدراسات أن تغيّر أنماط الطقس يؤثر بشكل أساسي في الطريقة التي تتصرف بها الطيور بطرق يمكن أن تؤثر في انتشار إنفلونزا الطيور، إذ يؤدي ارتفاع درجات الحرارة والتغيّرات الموسمية التي تحدثها، إلى إجبار الطيور على تعديل أنماط هجرتها والتقارب في مجموعات جديدة، كما يؤثر ارتفاع منسوب مياه البحر أيضاً في أماكن تعشيش الطيور ووضع بيوضها، مما يدفع إلى التواصل مع أنواع جديدة من الطيور التي لا تتواصل عادة، وبالتالي مشاركة المرض.
ويغيّر المناخ أنماط هجرة الطيور، كما يؤثر في دورة انتقال فيروس إنفلونزا الطيور، لذا فإن التأثيرات المشتركة لهذه التغييرات لا يمكن التنبؤ بها إلى حد ما، لكن من المحتمل أن يستمر انتشار الفيروس في مجموعات الطيور المائية مع تكيّف وتطور لا نهاية له.
تغيّر المناخ وانتشار الأوبئة
يؤثر تغير المناخ إلى جانب الضغوط الصحية الأخرى الطبيعية والتي هي من صنع الإنسان، في صحة الإنسان والأمراض التي تصيبه بطرق عديدة، مع زيادة حدة بعض التهديدات الصحية الحالية وظهور تهديدات صحية جديدة تبعاً لعدد من الاعتبارات المهمة التي تشمل العمر والموارد الاقتصادية والموقع.
وتشمل الآثار الصحية الناجمة عن هذه الاضطرابات زيادة أمراض الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية، والإصابات والوفيات المبكرة المرتبطة بالظواهر الجوية المتطرفة، والتغيرات في انتشار الأمراض المنقولة بالغذاء والمياه والتوزيع الجغرافي لها وغيرها من الأمراض المعدية، والتهديدات التي تهدد الصحة العقلية.
كما قد يؤدي الاستخدام الجائر للأراضي إلى جانب التغيّرات في أنماط الطقس، إلى هجرة نواقل الأمراض والأوبئة إلى أماكن جديدة تناسب خصائصها المناخية، مما يعرض السكان لأمراض لم يتأثروا سابقاً بها، ويمكن أن يزيد تغيّر المناخ أيضاً من المواد المسببة للحساسية في الهواء، وقد يؤدي إلى أنماط واسعة النطاق من الهجرة البشرية بسبب التدهور البيئي الذي يجعل بعض المناطق غير صالحة للعيش.