نبيه بري..الجناح"الديناميكي" في" الثنائي الشيعي"
يندر أن تجد إجماعا لبنانيا على تقييم شخصية عامة أو تصنيفها مهما بلغ شأنها دوليا وعربيا، فما بالك إذا كانت هذه الشخصية متعددة الأبعاد، مذهبية محلية وسياسية وطنية، وثالثة رسمية، وهو ما ينطبق تماما على نبيه بري.
الأول
في السير الرسمية المثبتة على المنصات والمواقع، يتم في الغالب اختزال المعلومات واختيار الحيادية منها. فالسيرة المنشورة لبري على موقع البرلمان اللبناني مثلا تقول إنه مولود في سيراليون (أفريقيا) عام 1938، وإنه تلقى علومه الابتدائية بعد عودته إلى لبنان في مدرسة تبنين، والتكميلية في مدرسة بنت جبيل، والكلية الجعفرية في صور، والثانوية في كلية المقاصد ومدرسة الحكمة في بيروت، وإنه انتسب إلى كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية، وإنه تخرج منها محاميا محتلا المرتبة الأولى سنة 1963، ثم تابع دراساته العليا في الحقوق في جامعة السوربون في فرنسا.

وتشدد السيرة الرسمية على أن هذا السياسي المنحدر أصلا من بلدة تبنين الجنوبية "ناضل منذ نشأته في الحركة الطلابية، وترأس الاتحاد الوطني للطلاب الجامعيين في لبنان، وشارك في العديد من المؤتمرات الطلابية والسياسية"، لكنها أهملت بالمقابل الإشارة إلى أنه كان بعثي الهوى في شبابه، قبل انخراطه بحركة المحرومين، التي أسسها أواخر الستينات رجل الدين الشيعي موسى الصدر، بعد عودته من إيران إلى وطن أجداده عاقدا العزم على استنهاض شيعة لبنان، وتأطيرهم تحت سقف الدولة.
أمين عام مساعد
في سلسلة مقالات نشرها الكاتب حازم صاغية عام 2019 تحت عنوان "الصراع على الزعامة الشيعية"، أتى على ذكر بدايات صعود بري في أعقاب اختفاء الصدر في ليبيا عام 1978 بعد 7 سنوات من إطلاق الأخير لحركة أمل، فقال في الحلقة الخامسة ما نصه: "الطامحون في بيروت كانوا كثيرين، لكنّ اثنين منهم كانا الأبرز: حسين الحسيني بدا الوجه الأكثر تأهيلا للحلول على رأس "أمل"، وهذا ما حصل: في أواخر سبتمبر/أيلول 1978 انتخب الحسيني أمينا عامّا 'لمقتضيات المرحلة الطارئة في غياب سماحة الإمام القائد'. بعد 7 أشهر انتُخب برّي أمينا عاما مساعدا".
وعن صعود بري وتزعمه للحركة في العام 1980 والتزامه خط الإمام الصدر بالتعويل على سوريا زمن الأسد والتعاون معها في إدارتها لملف لبنان، كتب صاغية: "برّي ليس ضابطا، وبالتأكيد ليس سوريّا، لكنّ سيرته وصعوده يشبهان سِيَر الضباط السوريين في صعودهم. هذا ما مهّد للبعثي السابق الطريق إلى قلوب 'الزملاء' المؤثرين في دمشق. إلى ذلك اتّصف 'الأستاذ نبيه' بفصاحة مؤكدة يُعرف بها بعض أعيان القرى ومتكلميهم".

وفي مصنفه المعنون " ويلات وطن" قال الصحفي الأيرلندي روبرت فيسك في وصف بري إنه "بالإضافة إلى تمثيله الشيعة في لبنان، فإنه ممن يتذوقون الحضارة الغربية، فيحب الألبسة الغربية الأنيقة، ويفضل السجائر الفرنسية وطريقة الحياة الأميركية".
هذا المشهد اللبناني المتباين وغير المقتصر على بري وحده ما لبث أن تبدل بصورة دراماتيكية، وكذا حصل للفاعلين فيه مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. فكانت صورة تجمع بري (الزعيم الشيعي) ووليد جنبلاط (الاشتراكي الدرزي) ومحسن إبراهيم (الشيوعي) أثناء توديعهم ياسر عرفات قبل صعوده إلى سفينة الترحيل، مؤشرا على دخول عصر جديد حاول بري أن يجد لحركة أمل موطئ قدم فيه، فوافق على الانضمام إلى هيئة الإنقاذ الوطني التي شكلها الرئيس إلياس سركيس وأدخل في عضويتها بشير الجميل ووليد جنبلاط إلى جانب بري، وهو الأمر الذي تسبب في انشقاق نائبه حسين الموسوي وتشكيله لاحقا واحدا من الأنوية الأولى لحزب الله.
انتفاضة 6 شباط

غير أن الحال تبدل مع مجيء أمين الجميل خلفا لشقيقه بشير الذي لم يهنأ طويلا بانتخابه رئيسا، بضغط إسرائيلي ومباركة أميركية، فقوبل إمعان الرئيس الجديد في قمع كل ما هو غير كتائبي بمقاومة شرسة امتدت من طهران إلى بيروت مرورا بدمشق، وتولى حلفاء الأخيرة في لبنان وبينهم أمل والاشتراكي والشيوعي مهمة التصدي لسلطة الجميل وإفشال اتفاق 17 أيار الذي وقعه الأخير مع إسرائيل، فكانت انتفاضة 6 شباط 1984 التي حررت الضاحية الجنوبية من سلطة أمين الجميل وأدت إلى شق الجيش وكرست نبيه بري مرجعا لا غنى عنه، وممثلا للشيعة ضمن الفسيفساء اللبنانية.
بهذه الصفة، ومنذ تلك الحقبة، بات بري رقما صعبا ونجما لا يبارى في مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد الحلقة الثانية من جلساته في لوزان (12-20 مارس/آذار 1984) برئاسة أمين الجميل وحضور وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام ومندوب سعودي.
وعن ملابسات ولادة النجومية تلك، دوّن الصحفي طلال سلمان في مقدمة كتابه المعنون "المحاضر السرّية الكاملة.. ثرثرة فوق بحيرة ليمان" قائلا إن أولئك الزعماء اللبنانيين بالكاد بلعوا ظاهرة اسمها وليد جنبلاط، حتى جاءهم "ذلك اللغز المغلق" المسمّى نبيه برّي، "من أين انشقّت الأرض عن هذا القادم من تبنين بغير تاريخ خاص، ميّزه عن ألوف ومئات ألوف الوافدين مثله من الملحقات والأرياف الفقيرة؟!".
وتعرض سلمان كذلك في الكتاب الذي تضمن محاضر الجلسات كاملة، إلى حيرة هؤلاء في معرفة "الثمن" الذي يستطيعون توفيره، ويتطلّبه شراء رضا نبيه برّي وصمته.
خطان متوازيان
منذ ذلك الوقت التزم بري السير على خطين متوازيين؛ أحدهما وطني تطلب مشاركته في الحكومات المتعاقبة لغاية العام 1992 (كوزير عدل، ووزير دولة للجنوب والإعمار أولا)، وآخر إقليمي تطلب مجاراة سوريا في كل طلباتها بما فيها توقيع الاتفاق الثلاثي مع جنبلاط وإيلي حبيقة (1985) أو انخراط مليشيا حركة أمل أواسط عام 1985 في حرب بالغة الشراسة مع فلسطينيي مخيمات لبنان.

كانت الحرب في الواقع جزءا من مواجهة سورية-فلسطينية سمّتْها دمشق استئصالا للعرفاتيّة، وسجل لبري في بداياتها تعريضه بحلفاء دمشق من الفلسطينيين (جبهة الإنقاذ الوطني) بسبب دفاعهم إلى جانب عرفات عن مخيماتهم بمواجهة ميليشياته ونعتهم باستهزاء بأنهم "تلامذة عرفات النجباء". أما الصيغة التي اختارها لوقف حرب المخيمات التي أوقعت مئات القتلى وهدمت مخيمين، فكان اعتبارها أوائل العام 1989 في مفارقة مثيرة للسخرية "هدية للانتفاضة" التي كانت قد تفجرت في الضفة الغربية وغزة قبل ذلك بشهور.
غير أن الضريبة التي ترتب على حركة أمل وبري دفعها كنتيجة لتلك الحرب، كانت أشد وقعا وأبهظ ثمنا، فقد أتيح لحزب الله أن ينمو خلال تلك الحرب التي تحالف خلالها مع الفلسطينيين، وأدار على هامشها علاقة هدنة وصراع مع أمل كانت تتحسن وتتردى تبعا للتناقضات الفرعية الناشئة بين دمشق وحليفتها الإقليمية إيران. وحصد اقتتال أمل وحزب الله مئات القتلى، واستمرت بعض فصوله خصوصا في إقليم التفاح حتى بعد إقرار اتفاق الطائف الذي أنهى رسميا عام 1989 الحرب الأهلية بين الطوائف والأحزاب اللبنانية وقضى بين مقتضيات أخرى، بسحب سلاح الميليشيات وإدماجها في الدولة.
ويلخص حازم صاغية الفرق بين أمل وحزب الله في المرحلة المستجدة بالتالي: برنامج أمل اختلف: لا بأس بشيء من المقاومة بين وقت وآخر، وبشهيد هنا وشهيد هناك، إلا أن الأهم انعكاس ذلك على الموقع السلطوي في بيروت. ويقول أيضا في موضع آخر في وصف العلاقة بين التنظيمين الشيعيين: "رعى 'الإخوة' السوريون والإيرانيون مصالحة 'الإخوة' في أمل وحزب الله، ووُلدت بالتالي 'الثنائية الشيعية' التي كوفئت على حروبها".

ومع تفرغ حزب الله -الذي استثني سلاحه من المصادرة- لمقاومة ما تبقى من احتلال إسرائيلي برعاية سورية-إيرانية، تفرغت أمل لحصد المغانم التي يقتضيها العرف الطائفي الذي أعاد اتفاق الطائف تعديله لصالح المسلمين سنة وشيعة، وباتت أمل منذ ذلك الحين مقصدا للباحثين عن الوظائف من أبناء الطائفة من كل نوع ومستوى.
وأملت الرعاية السورية للطائف كذلك بعد انتخابات العام 1992 تبديلا في الوجوه كان من بين مقتضياته استبدال نبيه بري بحسين الحسيني. فحل الأول بمنصب رئيس البرلمان الذي تعززت مكانته بتعديل نص عليه الطائف يقضي بأن تكون ولاية رئيس الهيئة التشريعية 4 سنوات بدلا من سنة واحدة. وتكرست إثر ذلك تركيبة ثلاثية للحكم عرفت بالترويكا، وشملت في صيغتها الأولى إلى جانب بري كلا من إلياس الهراوي ورفيق الحريري، لتستمر هذه المعادلة الملائمة لدمشق، إلى حين انتهاء الوصاية السورية إثر اغتيال رفيق الحريري مطلع عام 2005.

على أن صمود بري في المنصب البرلماني العتيد (الأطول على مستوى العالم) لم يكن بفعل دهائه المشهود، وقدرته على التكيف والتحسب للأزمات قبل وقوعها فحسب، بل في الإجراءات الحازمة والمثيرة للجدل التي اتخذها في أوقات الأزمات. فبين 2006 و2007 أقفل نبيه بري المجلس النيابي للحيلولة دون إقرار المحكمة الدولية التي تنظر في اغتيال رفيق الحريري.
واتخذت الخطوة في إطار التحايل على قرار مجلس الأمن والتحقيق الدولي الذي انتهى في نهاية الأمر بإدانة حزب الله حليفه في الثنائي الشيعي. وبعد فشل 12 محاولة لانتخاب خليفة لميشال عون الرئيس المنتهية ولايته، أصر على إبقاء البرلمان مقفلا لعام كامل، رابطا أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق.
واستمر ذلك إلى أن لاحت الفرصة بنهايات حرب الإسناد بين حزب الله وإسرائيل في نوفمبر/تشرين الأول 2024، حيث قام بتحديد موعد جلسة في 9 يناير/كانون الثاني 2025 انتخب بنتيجتها قائد الجيش جوزيف عون المدعوم من تحالف دولي يضم الولايات المتحدة وفرنسا وقوى إقليمية بينها السعودية.
في غضون سنواته الـ32 في رئاسة المؤسسة التشريعية، التقط مراقبون وجود فوارق في علاقة بري مع دمشق في عهد الأسدين الأب والابن، فقد كانت ثابتة ومستقرة في عهد الأسد الأب، في حين أن الكيمياء لم تكن فاعلة منذ عام 2000 بين بري ومن أسماهم المعلق اللبناني المعروف جان عزيز "زمر بشار".
وينسب عزيز إلى مصادره قولها إن بشار الأسد لم ينسَ ولم يغفر له تمريره حكومة نجيب ميقاتي الأولى سنة 2005 التي حقّقت الانتقال من زمن هيمنة سوريا إلى زمن ما بعدها. كما أن عدم مشاركة ميليشيات أمل إلى جانب حزب الله في سوريا بعد العام 2012 بقيت حاضرة في بال المراقبين.
هانيبعل
وفي ملف آخر، تحدثت معلومات صحفية عن غضب الأسد الابن من بري بسبب تجاهل لبنان لوضعية هانيبعل نجل العقيد الراحل معمر القذافي كلاجئ سياسي في سوريا واختطافه منها ثم احتجازه منذ سنوات في لبنان بدعوى البحث عن معلومات تتصل باختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه. وهو ما أكدته مصادر حقوقية لبنانية لافتة إلى أن بري هو من اختار المحقق العدلي بالقضية وليس وزير العدل.

قبل 10 أيام من جلسة انتخاب جوزيف عون رئيسا للبنان بعد عامين ونصف من الشغور الرئاسي، نشر الكاتب جان عزيز مقالا في موقع "أساس" شبّه فيه بري بكميل شمعون الموصوف بأنه أدهى رؤساء لبنان منذ استقلاله عن فرنسا عام 1946، فتحت عنوان "بري شمعون الشيعة.. 40 عاما نبيها" امتدح المحلل سيرة بري مستشهدا بأكثر من محطة تثبت شمائل الرجل، واختتم مقاله بالقول: "نبيه بري، قيل إنه 'شمعون الشيعة'. وعليه اليوم مهمة إنقاذ لبنان من سلاطين كثر، ومسؤولية الانتقال من الماضي إلى المستقبل".
أما المحلل الأردني عريب الرنتاوي فقد أبدى انبهاره في مقاله المنشور على الجزيرة نت بعنوان " أسباب استعجال إسرائيل الحل في لبنان والتباطؤ في غزة" بالكفاءة التفاوضية لرئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، بعد إنجاز الأخير مع المبعوث الأميركي أموس هوكوستين اتفاقا، جّمد أشرس مواجهة منذ عقود بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله.
وفي المقال المنشور 26 نوفمبر/ تشرين الأول 2024 – أي قبل شهرين من اتفاق غزة – عقد الرنتاوي مقارنة بين تولي بري ملف التفاوض نيابة عن حزب الله وحركة أمل، وموقف حماس والمقاومة في غزة "اللتين لم تجدا ( نبيه بري فلسطيني) يتولى التنسيق عن المقاومة والنطق باسمها والدفاع عنها"، ليصل إلى الإقرار الضمني، بأن هذا السياسي اللبناني الحاضر منذ 57 عاما في الشأن اللبناني بلا انقطاع، هو أيضا مفاوض محنك.