"أعتقد أنه يجب محو قرية حوارة، وأعتقد أن دولة إسرائيل يجب أن تفعل ذلك، وليس لا سمح الله أفراداً عاديين" . أفلتت هذه العبارات من فم بتسلئيل سموتريتس، وزير المالية ووزير الشؤون المدنية بوزارة الدفاع في حكومة بنيامين نتنياهو، خلال مؤتمر نظمته في تل أبيب في مارس/آذار 2023 صحيفة "ذا ماركر" الاقتصادية الإسرائيلية.
فالوزير الذي يتزعم حزب "الصهيونية الدينية"، ويُعرف بأنه محامٍ مرخص، ويحسب عباراته بدقة، لم يتوقع في سياق تعليقه على الحملة الهمجية للمستوطنين على منازل وممتلكات قرية حوارة جنوبي نابلس، (ثأرا لمقتل مستوطنين على يد فلسطينيين)، أن هذا التصريح سيجر عليه غضب وزارة الخارجية الأميركية، التي طالب مسؤولوها بمقاطعته. وزاد السفير الأميركي في تل أبيب، توم نايدز، أن أطلق على سموتريتش وصف "الغبي"، مما دفع الأخير إلى محاولة التقليل من الأضرار، خلال برنامج إخباري متلفز بالقول "إن من يستطيع أن ينسب إليّ نية محو القرية، فهذا منوط بعقله المهووس. أما القصد من ذلك فهو أن نكون أكثر مبادرة واستباقية وهجوميّة في الحرب ضد الإرهاب، لأن الناس هنا يُقتلون.. ربما قيل هذا الكلام خلال ثورة من المشاعر.. لقد تعثّرت بلساني".
لكن "الفاس وقعت في الراس" كما يقول المثل الشعبي العربي، وباتت أقوال سموتريتش وأفعاله ماضيا وحاضرا تحت المجهر، بالنظر إلى كونه ثالث أركان الائتلاف الحاكم في إسرائيل منذ ديسمبر/كانون الأول 2022، بعد بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، والوصي على التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة، بصيغته الجديدة.
وفدَ سموتريتش إلى الحلبة السياسية الإسرائيلية بعد انتخابه عضوا في الكنيست اعتبارا من مارس/آذار 2015، وتكرر انتخابه على مدى 5 دورات لاحقة. ومع تشكيل حكومة نتنياهو السادسة في ختام العام 2022، حظي سموتريتش بحقيبة وزير المالية التي تولاها قبله أفيغدور ليبرمان، حيث التحكم بموازنات الوزارات ومؤسسات الدولة بما فيها الجيش، إضافة إلى السيطرة على حركة الأموال التي تحصل عليها السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق باريس 1994، وخصوصا أموال الضرائب الواجبة التسليم للسلطة والمعروفة بالمقاصة، والتي تعتبر العمود الفقري للإيرادات العامة في فلسطين. وأضيفت إلى هذه الحقيبة المهمة والحساسة، حقيبة أخرى هي وزارة الشؤون المدنية ضمن وزارة الدفاع. وإلى جانب الحقيبتين، عُينت القيادية في حزب "الصهيونية الدينية" أوريت ستروك، وزيرة للاستيطان.
في سياق ممارسته لصلاحياته وزيرا للمالية، كانت أجندة سموتريتش السياسية حاضرة عند التصرف في بنود الموازنة وتحديد أولوياتها، فها هو يخصص 105 ملايين دولار في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2023 لتعزيز البنية التحتية الأمنية لمستوطنات الضفة، خوفا من فلسطينييها الذين نعتهم "بالنازيين". وفي ميزانية الدولة للعام 2024، قلّص سموتريتش مخصصات التعليم الرسمي والداخلية وقطاع الخدمات، وخصص 4.9 مليارات شيكل (نحو 1.3 مليار دولار) لتطوير البنية التحتية للمستوطنات وبناء وحدات استيطانية جديدة، وشرعنة البؤر الاستيطانية غير المرخصة بمدّ شبكات المياه والكهرباء والطرق إليها، بالإضافة إلى تمويل المدارس الدينية المتطرفة.
كان لمشاريع تطوير البلدات العربية داخل إسرائيل وأحياء القدس نصيب من تقليصات سموتريتس، فأعلن في أغسطس/آب 2023 تجميد نحو ملياري شيكل (نحو 550 مليون دولار) كانت مخصصة لبناء مدارس وفصول دراسية داخل الخط الأخضر. كما أن نحو 200 مليون شيكل (نحو 55 مليون دولار) من الأموال التي جمدها سموتريتش، كانت مخصصة لتنفيذ مشاريع وحل مشكلات وتغطية ديون مترتبة على السلطات المحلية العربية داخل الخط الأخضر، واستيعاب أكاديميين عرب في الجامعات الإسرائيلية. وبرر قراره بأن تغلغل الأكاديميين العرب في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية يعزز ويزيد من تفشي ما أسماها "القومية الفلسطينية المتطرفة".
أما أحدث خطواته على هذا الصعيد، فتمثلت في معاقبة المشاركين في أكبر إضراب تشهده إسرائيل خلال حرب غزة، احتجاجا على سياسات نتنياهو حيال ملف الأسرى، حيث أعطى يوم 2 سبتمبر/أيلول 2024 تعليمات لقسم الرواتب بوزارة المالية؛ بعدم صرف راتب كل مشارك في الإضراب، وقال "أدعو العمال للحضور إلى العمل غدًا وعدم التعامل مع الإضراب الذي يضر بإسرائيل في زمن الحرب، وفي مثل هذه الأيام الصعبة والمعقدة". كما نفى وجود أساس قانوني للإضراب، معتبرا أنه "لا يهدف إلا إلى التأثير على القرارات السياسية الكبرى المتعلقة بأمن الدولة".
دفع الثمن
في ملف التحكم بأموال المقاصة التي تستخدمها الحكومة الفلسطينية بشكل أساسي لصرف رواتب الموظفين العموميين، وتشكل 65% من إجمالي إيراداتها المالية، كان لسموتريتش أكثر من تدخل. ففي 14 يناير/كانون الثاني الماضي، أعطى تعليماته إلى مدير سلطة الضرائب الإسرائيلية، شاي أهرونوفيتش، بحجز 3.1 ملايين شيكل (أكثر من 800 ألف دولار) من أموال المقاصة لصالح تعويضات لإسرائيليين اعتبرهم "ضحايا الإرهاب"، وقال في تغريدة على منصة "إكس" إن "من يروجون للإرهاب سيدفعون الثمن".
وفي 12 يونيو/حزيران 2024، قرر سموتريتش اقتطاع 35 مليون دولار من أموال العائدات الضريبية الفلسطينية المستحقة شهريا للسلطة الفلسطينية، لتحويلها إلى 28 عائلة لقتلى إسرائيليين خلال عمليات نفذها مسلحون فلسطينيون في الأعوام الماضية.
كانت إجراءات سموتريتش العقابية ضد السلطة الفلسطينية وموظفيها هي الجزء الأكثر حظا في التغطية الإعلامية، على خلاف صلاحيات حقيبته الوزارية الأخرى (وزارة الشؤون المدنية بوزارة الدفاع) التي عززها تدريجيا. ففي 24 فبراير/شباط 2023، اتفق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت على نقل قطاعات من إدارة الضفة الغربية المحتلة من الجيش إلى سموتريتش. وتشمل هذه السلطات الإشراف على البؤر الاستيطانية غير المرخصة، وتخطيط المستوطنات وبناءها، وسلطة تعيين مسؤولين في الإدارة المدنية، الهيئة الحاكمة الإسرائيلية في الضفة الغربية. ويعني ذلك أيضا الانتقال من الحكم العسكري الإسرائيلي، الذي كان هو القاعدة منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية في عام 1967، إلى الإدارة السياسية المدنية.
بعد مرور 5 أشهر، أي في 17 يونيو/حزيران 2023، أصدرت الحكومة الإسرائيلية قرارا يقضي بتفويض سموتريتش -وحده- إصدارَ قرارات المصادقة الأولية على التخطيط والبناء في المستوطنات، على خلاف ما كان يحصل على مدى ربع قرن، عندما كانت مثل هذه الإجراءات تتطلب مصادقة رئيس الحكومة ووزير الجيش. وقال محامي حقوق الإنسان الإسرائيلي، مايكل سفارد، في وصف هذا النقل، إنه يجعل سموتريش فعليا "حاكم الضفة الغربية".
وأضاف سفارد لموقع "ميدل إيست آي" أنه "تغيير جذري في الحكم في الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل عام". وتابع: "ستحتفظ الحكومة الإسرائيلية الآن بشكل مباشر بسلطات إدارية على الأراضي المحتلة، وسيتم تعيين المسؤولين الذين يتمتعون بهذه الصلاحيات من قبل سموتريتش، الحاكم الجديد للضفة الغربية، وسيتم تجاوز القائد العسكري إلى حد كبير".
بعد عام تماما، أي في 21 يونيو/حزيران 2024، حصل ما توقعه سفارد، فقد فوض الجيش الإسرائيلي صلاحيات قانونية كبيرة في الضفة الغربية إلى موظفي الخدمة المدنية العاملين لدى سموتريتش، مما يعني -حسب الكاتب المختص بالشأن الإسرائيلي محمد أبو علان- أنه أصبح بإمكان موظفين مدنيين تابعين لحزب "الصهيونية الدينية" إصدار قرارات الهدم أو تراخيص البناء أو شرعنة المستوطنات، بعد أن كان البناء يتطلب موافقة اللجنة العليا للتنظيم والبناء، وضابط الإدارة الأمنية المسؤول، وهو ما يتيح -حسب أبو علان- السيطرة على 62% من مساحة أراضٍ مصنفة "ج"، أي القسم الخاضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة في الضفة الغربية.
بدون إعلان
أما مدير دائرة الخرائط في بيت الشرق، خليل التفكجي، فرأى في تفويض سموتريتش الجديد وموظفيه "ضمًّا تدريجيا من دون إعلان". والأخطر في رأي التفكجي، هو إلغاء دور "الإدارة المدنية" (المسؤولة عن إدارة شؤون الفلسطينيين) بوزارة الجيش، والتي يرأسها سموتريتش أصلا، وإنهاء الحكم العسكري على الاستيطان في الضفة الغربية، ونقله إلى وزارة الإسكان الإسرائيلية، والتصرف كأنها أرض إسرائيلية.
دفعت هذه السلطات سموتريتش إلى التصرف فعلا كحاكم بأمره في الضفة الغربية، فبعد إعلان إيرلندا وإسبانيا والنرويج اعترافها الأحادي بالدولة الفلسطينية في 29 مايو/أيار الماضي، ثم إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، عن نيته متابعة أوامر الاعتقال ضد كبار قادة إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، رد سموتريتش بتفعيل خطة تنص ثلاثة من بنودها على: حجب رسوم الضرائب التي يتم تحصيلها نيابة عن السلطة الفلسطينية، وتسريع بناء المستوطنات في الضفة الغربية، والمصادقة على بناء 3 مستوطنات جديدة كلما اعترفت دولة جديدة بفلسطين.
وجاء تسجيل كشفت عنه منظمة "السلام الآن" يوم 3 يوليو/تموز الماضي ليؤكد جدية هذه التهديدات، إذ يقول فيه سموتريتش إن مصادرة الأراضي في عام 2024 "تعادل قرابة 10 أضعاف المتوسط في السنوات السابقة"، وقدّرَ أنه بحلول نهاية العام الجاري، سيتم إعلان 10 آلاف إلى 15 ألف دونم إضافي (1000 إلى 1500 هكتار) "أراضيَ دولة".
من أين أتى هذا المستوطن المسكون بعقيدة "الصهيونية الدينية"؟
تقول سيرته المنشورة على منصات التواصل، إنه وُلد عام 1980 في مستوطنة "خاسبين" (Haspin) المقامة على أنقاض قرية "خسفين" في جنوب الجولان السوري المحتل، لعائلة أوكرانية من غلاة القومية الدينية. وفي مستوطنة "بيت إيل" شمال رام الله، نشأ في المدارس التي تجمع بين الديانة اليهودية والفكر الصهيوني.
سموتريتش ابن حاخام مستوطنة.. وُلد في مستوطنة، وترعرع في أخرى، وتزوج وعاش في ثالثة، من هضبة الجولان إلى الخليل في كريات أربع، ثم إلى كدوميم قرب نابلس. وعندما بلغ 28 عاما، تطوع سموتريش في الجيش الإسرائيلي، وخدم لمدة سنة ونصف في الساحة المركزية في قسم العمليات بهيئة الأركان العامة، وهذه فترة خدمة خاصة للمتدينين.
خطوة ضرورية
للمرة الأولى، ترشح سموتريتش لانتخابات الكنيست الثامنة عشرة عام 2009، ثم احتل المركز التاسع في قائمة الاتحاد الوطني، ووفقاً لقانون انتخابات الكنيست تم إعفاؤه من خدمته في جيش الدفاع الإسرائيلي لمدة ثلاثة أشهر، عاد بعدها لإكمال خدمته. في البداية، عارض سموتريتش دخوله إلى السياسة، لكنه فعل ذلك بناءً على تعليمات شيوخه -وعلى رأسهم الحاخام حاييم دروكمان- الذين قرروا أن هذه خطوة ضرورية.
في عام 23 يونيو/حزيران 2019 تم تعيينه وزيرًا للمواصلات، وعضوًا في مجلس الوزراء السياسي الأمني، ضمن الحكومة الانتقالية.
قبيل انتخابات الكنيست الرابعة والعشرين، انشق عن قائمة "يمينا"، وبحسب قوله، على خلفية استعداد نفتالي بينيت لدخول الحكومة بالتعاون مع أحزاب يسارية. وترشح سموتريتش على رأس قائمة "الصهيونية الدينية" في الكتلة الفنية لأحزاب الاتحاد الوطني: "تاكوما" و"عوتسما يهوديت" و"نوعام". وحصلت القائمة على 6 مقاعد في الانتخابات، 4 منها ذهبت لصالح حزب سموتريتش.
ومع أنه حاصل على درجة البكالوريوس في القانون ورخصة مزاولة مهنة المحاماة، فإن سموتريتش لا يؤمن بالقانون الدولي أو اتفاقات السلام مع دول الجوار، أو أي قوانين إسرائيلية تتعارض مع عقيدة "أرض إسرائيل الكبرى" التي تهدف إلى فرض السيادة على كامل الأراضي الفلسطينية وأجزاء من الأردن وسوريا ولبنان.
يقيم الرجل حاليا مع زوجته المسُتوطِنة وأطفاله السبعة في مستوطنة كدوميم المقامة على أرض نابلس شمالي الضفة الغربية، بعدما استولى على أرض فلسطينية خاصة، وأقام عليها منزله من دون ترخيص حتى من سلطة الاحتلال.
وكشف موقع "شومريم" الاستقصائي الإسرائيلي بعض ملامح عقيدة "الصهيونية الدينية" وأثرها في تصريحات سموتريتش وخطبه، وذلك في تقرير نشر موقع " مدار" نسخته العربية يوم 4 سبتمبر/أيلول 2023.
تشجيع الهجرة
يقول التقرير: بخصوص الصراع مع الفلسطينيين، يردد سموتريتش عادة عبارات: لا يوجد شيء اسمه "دولتان لشعبين" و"أرض إسرائيل لنا، وما هو لنا لا يمكن سرقته"، ولازمة أخرى تعكس بوضوح سعيه إلى دولة واحدة أو تنفيذ ترانسفير. ففي العام 2015، قال في خطاب ألقاه أمام الهيئة العامة للكنيست: "توجد هنا دولة واحدة فقط، دولة يهودية، ولن تقوم إلى جانبها أبداً دولة فلسطينية.. من يريد العيش معنا فأهلا وسهلا، أما من لا يريد فإما أن يرحل أو سنراه في المهداف" (مهداف البنادق). وبعد مرور عام، كتب سموتريتش على موقع "تويتر" (آنذاك و"إكس" حاليا) قائلا: "كل ما تبقى الآن هو الانتقال من الأقوال إلى الأفعال: إطفاء الأضواء في السلطة الفلسطينية، وفرض السيادة، والقيام بكل ما ستفعله أي دولة مستقلة تحترم نفسها".
أما فكرة الترانسفير الطوعي فيسميها سموتريتش "تشجيع الهجرة"، موضحاً أن "من لا يريد أو لا يستطيع أن يطرح طموحاته الوطنية جانبا، سينال منا مساعدة للهجرة إلى إحدى الدول العربية أو إلى أي وجهة أخرى في العالم". ليست هذه هجرة على متن قوارب متهالكة، بل إنها ظاهرة حديثة للهجرة على متن طائرة نحو مستقبل منظم.
إعداد: علي حافظ