في مداخلة دامت 7 دقائق خلال جلسة مفتوحة لبرلمان بلغاريا يوم 17 سبتمبر/ أيلول الحالي، أطاح زعيم حزب فزراجدنة (vazrajdane - النهضة) كوستادين كوستادينوف، بحصاد عام كامل من التجاهل الإعلامي والبرلماني لتطورات حرب غزة، وأعادها بضربة واحدة إلى صدارة المشهدين الإخباري والسياسي. فبعدما افتتح مداخلته بالتذكير بمعرض الصور الذي سهلت رئيسة البرلمان رايا نازاريان للسفارة الإسرائيلية إقامته داخل المبنى، لعرض وجهة نظر تل أبيب من الحرب، كشف أن الرئاسة ذاتها سوّفت أكثر من مرة، في التصريح لمعرض مماثل يعرّف بوجهة النظر الفلسطينية المقابلة. ثم استل كوستادينوف مجموعة من صور الضحايا المدنيين من أطفال ونساء غزة ليعرضها أمام الشاشات متسائلا: "هل نحن في المجلس الوطني، أم في الكنيست الإسرائيلي؟ لأن هذا لا يمكن مشاهدته هناك"، وهو ما استبقه زعيم كتلة (غيرب-Gerb) ورئيس الوزراء الأسبق بويكو بوريسوف والقطب المالي ديليان بييفسكي بالانسحاب من القاعة، في رسالتي احتجاج وعدم اكتراث غير مباشرتين بالمتحدث وموضوع الحديث.
سلاسل التوريد
في اليوم التالي لتعرية حزب فزراجدنة (ثالث أكبر كتلة برلمانية) تجاهل إعلام بلغاريا وبرلمانها لوقائع حرب غزة وآثارها بصورة منهجية ومقصودة، اقتحمت واحدة من أكثر فصول الحرب إثارة وغموضا، قلب المشهدين السياسي والمالي في هذه الدولة الأوروبية الشرقية. فبعد ساعات من التفجيرات غير المسبوقة لأجهزة البيجر في لبنان وسوريا في 17 سبتمبر/أيلول وإيقاعها 12 قتيلا و2750 جريحا من أعضاء حزب الله وأعوانه -حسب أرقام وزارة الصحة اللبنانية- اتجهت الأنظار نحو سلسلة التوريد التي أوصلت أجهزة البيجرالتي تحمل علامة شركة "غولد أبوللو 924" التايوانية.
فبعد مسارعة مدير "غولد أبوللو 924 Gold Apollo " التايواني هسو تشينغ كوانغ إلى نفي أن تكون أجهزة البيجر قد أنتجت في مصانعه، وتأكيده أن شركته وقعت قبل 3 أعوام عقدا مع موزع أوروبي (لم يحدده) لاستخدام العلامة التجارية للشركة، فاستوردتها أولا، ثم طلبت إذنا بتصنيعها. ليكشف لاحقا أن الشركة الأوروبية المذكورة تدعى "بي إيه سي كونسلتينغ"، ومقرها في العاصمة المجرية بودابست وتديرها كريستيانا بارسوني أرسيدياكونو، وأن سلطات بودابست الأمنية قامت فورا باستجوابها، لتخلص في اليوم التالي إلى أن شركة "بي إيه سي كونسلتينغ"، منحت علامتها التجارية فقط لأجهزة البيجر ولم تشارك في إنتاجها.
وما لبث موقع "تلكس" الإخباري المجري أن أدخل بعدا جديدا وأكثر إثارة وتعقيدا على القضية. فنقل عن مصادر مجهولة قولها إن شركة مسجلة في العاصمة البلغارية صوفيا، باسم مواطن نرويجي، استوردت أجهزة البيجر المخصصة للاتصالات خارج أنظمة الشبكات المعتمدة، ونظمت تسليمها لحزب الله. علما أن " دوتشه فيله" كانت قد نقلت عن مؤسس الشركة التايلاندية هسو تشينغ كوانغ قوله إن غولد أبولو" لم تصنع الأجهزة المستخدمة في الهجوم بل صنعتها شركة "بي.إيه.سي كونسلتينغ" (B.A.C Consulting)، ومقرها بودابست".
كيف كان وقع الاتهام المجري الضمني لبلغاريا بالمسؤولية عن توريد أجهزة البيجرالمفخخة؟ وما طبيعة الخيوط التي كشفها الإعلام المحلي لهذه القضية ذات الأبعاد الأمنية والسياسية وثيقة الصلة بالحرب المفتوحة بين حزب الله والمؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وعلى رأسها الموساد؟
على خلاف عدم الاكتراث الذي أبداه بوريسوف زعيم أكبر كتلة برلمانية حيال قضية حرب غزة وآثارها، تحركت الوكالة الحكومية للأمن القومي (المخابرات) بعد ساعات من ظهور التلميحات المجرية لدور بلغاري محتمل في قضية أجهزة البيجر الملغومة، فسارعت إلى نشر بيان رسمي على موقعها يقول إن الوكالة "توصلت بعد تحقيقاتها بالتعاون مع وكالة الضرائب ووزارة الداخلية ووكالة الجمارك بما لا يدع مجالا للشك إلى أن أجهزة الاتصال المسؤولة عن الانفجارات في لبنان وسوريا في 17 سبتمبر/أيلول، لم يتم استيرادها أو تصديرها أو إنتاجها داخل بلغاريا".
نورتا غلوبال
غير أن المتابعات الإعلامية للقضية ما لبثت أن كشفت وجود حلقة بلغارية في سلاسل التوريد المسؤولة عن إيصال أجهزة البيجر الملغومة. فبعدما أحالت المعلومات الواردة من بودابست مسؤولية انتقال أجهزة البيجر على شركة نورتا غلوبال المسجلة في صوفيا منذ مارس/آذار 2022 باسم نرويجي من أصول هندية يدعى رينسون يوسي، تبين أن هذه الشركة مسجلة برأس مال لا يزيد على 200 ليفا (110 دولارات)، وأنها لا تملك سوى عنوان بريدي في شارع فيتوشا بالعاصمة، وأن من سجلها قبل مارس/آذار 2022 ليس مالكها النرويجي يوسي، بل محامي شركة نورتا ويدعى أتانس فيليكوف أتناسوف. وتبين أيضا أن عنوان الشقة المشار إليها في الترخيص يضم 196 شركة وهمية مماثلة.
ونقلت صحيفة "24 تشاسا" البلغارية عن مصدر أمني يوم الخميس 19 سبتمبر/أيلول قوله إن حسابات شركة نورتا غلوبال وثّقت تحويلات بقيمة 1.6 مليون يورو على مدى عامين، لكنها لم توثق التعامل ببضائع من أي نوع. وهو ما أكده في وقت لاحق رئيس حكومة تصريف الأعمال ديمتر غلافتشيف. ففي إشارة إلى الأموال المحولة في حسابات الشركة قال غلافتشيف إن التدفقات المالية "تم تمريرها بموجب فواتير كتب عليها "بدل خدمات" باعتبار أن البنوك تشترط تعريف سبب التحويل". وعن مالك الشركة الغامض رينسون يوسي قال غلافتيشف إنه "لم يزر بلغاريا أبدا، وكان يمارس عمله عبر مفوض في شركة يمكن أن تستخدم كصندوق بريد للتدفقات المالية".
لم تمر ولم تخزن
أما رئيس رئيس الوكالة الحكومية للأمن الوطني (المخابرات) بلامن تونتشيف فقال خلال ظهور نادر له أمام الإعلام المحلي "بخصوص الأموال المحولة عبر حسابات الشركة المسجلة في بلغاريا كان مصدرها شركات لا تخضع لقوانين مكافحة الإرهاب النافذة في الاتحاد الأوروبي أو الخاضعة لقوانين مكافحة الإرهاب"، وأضاف أنه "تم التعرف على حركة هذه الأموال ومنشئها، وهو ليس محل شكوكنا". وشدد تونتشيف على أن "بلدنا يجب ألا تتورط بأي شكل ويجب ألا تكون متورطة بالانتقال المحتمل لهذه البضائع (أجهزة البيجر) وأجهزة الإرسال التي تم تفجيرها في لبنان. يجب ألا يرتبط اسم الدولة (البلغارية) بأي عمل كان من هذا النوع. هذه المواد (البيجر) لم تمر ولم تخزن ولم تنتج في دولتنا". ونقلت محطة "نوفا تيلفيزيا" عن مدير الجمارك البلغارية غيورغي ديموف قوله "لم يتم تسجيل أي حركة استيراد أو تصدير أو عبور عبر أراضي البلاد لأجهزة البيجر المشار إليها".
لكن تيخومير بزلوف، وهو خبير أمني في معهد دراسات الديمقراطية، لفت بالمقابل إلى أبعاد أمنية جديدة في عمل الشركة الوهمية المسجلة باسم النرويجي يوسي، مشيرا في مقابلة مع "نوفا تلفيزيا" إلى أن تسجيل الشركتين البلغارية والمجرية قد تم في وقت واحد". وقال "ما نعرفه لغاية الآن أن بلغاريا جزء من سلسلة الشركات الوهمية التي أريد منها التمويه على القسم الأخطر من الصادرات". وزاد "ما تقوله السلطات الأمنية البلغارية المختصة بأن تلك البضائع لم ترد ولم تصنع في بلغاريا.. لكن من يتابعون هذا الأمر سيقولون (بالمقابل) لماذا ستسجل البضاعة تحت اسم أجهزة بيجر.. يمكن أن تدخل مثلا تحت اسم لعب أطفال".
بالمقابل جزم خبير المتفجرات البلغاري البروفسور ستانتشو بيتكوف بانعدام الإمكانيات التقنية المطلوبة لإنتاج أجهزة البيجر المفخخة في بلغاريا. وقال في مقابلة بثتها قناة "بي تي" في صباح 21 سبتمبر/أيلول إن هذا النوع من المنتج التكنولوجي "من المستحيل تصنيعه داخل مرآب، فهو يحتاج إلى خطوط تجميع، وهي غير متوفرة لدينا، رغم محاولات إقحامنا في هذا الأمر".
بالتزامن مع نفي الخبير البلغاري نشرت صحيفة "ديلي ميل" معلومات جديدة ومثيرة عن مالك نورتا غلوبال المسجلة في بلغاريا النرويجي رينسون يوسي. فقد أفادت الصحيفة البريطانية بأنه اختفى في يوم تفجير الأجهزة في لبنان. ووفقا لمعلومات الصحيفة، فإن يوسي غادر في 17 سبتمبر/ أيلول شقته في إحدى ضواحي أوسلو، وتوجه في رحلة عمل مخطط لها. ومنذ ذلك الحين لم تتمكن إدارة المجموعة الإعلامية النرويجية "إن إتش إس تي"، صاحبة عمله الرئيسية من الاتصال به. من جانبها تزعم الصحيفة عدم وجود سبب حتى الآن للاعتقاد بأن يوسي كان على علم بأي عمليات زرع المتفجرات في أجهزة البيجر.
ونظرا لتداخل الأبعاد الأمنية بالسياسية والمالية في هذه القضية، التي طالت لغاية الآن 3 بلدان أوروبية ،هي المجر والنرويج وبلغاريا، فقد أبدى محللون أمنيون بلغار حاولت الجزيرة نت الوقوف على آرائهم، تحفظهم عن التعليق عليها بسبب "شح المعلومات". والأرجح أن تكون هذه الأبعاد هي التي دفعت وزارة الخارجية البلغارية إلى استدعاء سفير المجر في صوفيا لإبلاغه بـ"الرفض القاطع لتوريط بلغاريا في حادث تفجير أجهزة البيجر في سوريا ولبنان".
الإسرائيليون
لكن الصحفية البلغارية المخضرمة مارغاريتا تاشيفا كشفت عبر قناتها الخاصة على يوتيوب أن قناة "أودا تي في التركية" التي تبث عبر الإنترنت، عثرت على ملف للنرويجي المتواري يوسي وشركته على منصة إسرائيلية تدعى "فاوندرز نيشن" (foundersnation) التي تزعم بأنها تقيم روابط بين أصحاب المشاريع والممولين الإسرائيليين. وترتبط هذه المنصة بدورها -حسب تاشيفا- بمنظمة يديرها مسؤولون سابقون في الجيش الإسرائيلي "مما يرجح فرضية وجود علاقة بين النرويجي من أصل هندي والمخابرات الإسرائيلية". ولم تستبعد تاشيفا كذلك أن تكون شركة نورتا غلوبال المسجلة في صوفيا قد أسسها إسرائيليون.
شارك في الإعداد: ديانا حسين، خيري حمدان
تصميم: قسم الوسائط