قلما أجمع الإيرانيون على شخصية سياسية، بعد انقسامهم لأعوام حولها، كإجماع نوابهم على تعيين الدبلوماسي المخضرم، وكبير المفاوضين السابقين عباس عراقجي وزيرا للخارجية في حكومة الرئيس مسعود بزشكيان، الذي فاز في الانتخابات الرئاسية المبكرة التي جرت في يوليو/تموز 2024، بعد 3 أشهر من وفاة سلفه إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرة.
فبعد أن صوّب صقور التيار المحافظ سهامهم نحوه لأكثر من عقد، بزعم تفريطه بالمصالح الوطنية خلال فترة ترؤسه المفاوضات النووية -التي توجت بتوقيع اتفاق 2015 مع المجموعة السداسية (الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والصين وروسيا)- حاولوا عرقلة تعيين عراقجي وزيرا للخارجية. بيد أن هجماتهم ذاتها أحدثت انقساما بين نواب التيار المحافظ؛ حيث وجدت الشريحة الأكبر بينهم أن أهليته لتولي حقيبة الخارجية متوفرة.
مفاعل أراك
فالنائب المحافظ أمير حسين ثابتي وصفه مثلا بأنه "ليس دبلوماسيا واقعيا". وقال إن الجمهورية الإسلامية تكبدت خسائر فادحة جراء الاتفاق النووي الذي هندسه عرقجي وزميله وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف. واستغرب دعم شريحة من النواب لمرشح حقيبة الخارجية الجديد، رغم علمهم بتداعيات الاتفاق على مفاعل أراك. وتساءل: "أي فقرة من خطة العمل الشاملة المشتركة يمكن الدفاع عنها؟ هل آلية الزناد في الاتفاق النووي مدعاة للشرف حتى نمنحه الثقة؟".
وفيما عارض نواب آخرون بينهم محمد رضا أحمدي وميثم ظهوريان ومحمد رضا صباغيان تولي عرقجي وزارة الخارجية بسبب ما يعتبره المحافظون "امتدادا لسياسات زميلة وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف"، دافع النواب: أحد آزادي خواه، وهادي قوامي، ومنوشهر متقي؛ عنه وعارضوا استنتاج النواب المعارضين، مؤكدين أن توجهات هذا الدبلوماسي المخضرم تتسق مع السياسات العليا للبلاد في السياسة الخارجية والتي يحددها المرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي.
وفي مؤشر على التصدع في البيت المحافظ بشأن تولي عراقجي وزارة الخارجية، تفاجأ الرأي العام الإيراني بأن الشريحة المؤيدة التي دافعت عنه كانت تنضوي تحت عباءة التيار المحافظ ذاته، كما أعلنت لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية التي يسيطر عليها المحافظون موافقتها على منحه الثقة.
قاسم سليماني
وفي كلمته أمام نواب البرلمان، حاول عرقجي طمأنة معارضيه عبر رسمه خارطة طريق للخارجية الإيرانية خلال المرحلة المقبلة، مؤكدا أن دبلوماسية طهران سوف تعتمد "دبلوماسية المقاومة التي أسسها القائد السابق لفيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، وبنى عليها محور المقاومة"، مضيفا أن الدعم الإيراني سيستمر بشكل شامل للقضية الفلسطينية وحركات المقاومة الإسلامية التي تناضل ضد السياسات القمعية والإجرامية للكيان الصهيوني.
ونقلت وكالة الجمهورية الإسلامية الرسمية (إرنا) عن عرقجي قوله، إن "الحكومة الـ14 ستسخر طاقاتها السياسية والدبلوماسية للتعريف بأهداف محور المقاومة أمام الرأي العام العالمي، وحشد الدعم الإقليمي، والاعتراف رسميا بحلقات محور المقاومة على الصعيد الدولي كونها حركات تحررية وشعبية".
کما أکد أن الدول الشرقية مثل الصين وروسيا والدول الأخرى التي وقفت إلى جانب الجمهورية الإسلامية في الأوقات الصعبة وعارضت العقوبات المفروضة على طهران ستكون ضمن أولوية علاقاتها الخارجية، فضلا عن القوى الناشئة والساحات الجديدة في أفريقيا وأميركا اللاتينية وشرق آسيا.
وقال عراقجي، إن "الاستقلال والاعتماد على الذات وحماية المظلومين وسياسة حسن الجوار ورفض الهيمنة وعدم الخشية من القوى المتغطرسة وتوفير الدعم الشامل لمحور المقاومة والقضية الفلسطينية، يشكل أساس السياسة الخارجية الإيرانية ورمز ثورتنا وقوتنا ومكانتنا".
خفض الخلافات
وأردف أن سياسة حسن الجوار ستتواصل بكل قوَّة، كما سنمضي قدما بمبادرة "دبلوماسية المناطق الحدودية" امتدادا لسياسة حسن الجوار ومحاولات خفض الخلافات إلى حدها الأدنى. كما قال بشأن العقوبات المفروضة على بلاده إن "سياستنا تقوم على إجهاض العقوبات ورفعها؛ بدون التعجيل في رفعها أو الوقوع في فخ التفاوض الاستنزافي، بل نحاول التوصل إلى أفضل اتفاق ممكن"، مضيفا أنه إذا صححت أوروبا سلوكها الخاطئ وسياساتها العدائية تجاه إيران، فستكون على قائمة أولوياتنا. وأن الحكومة الجديدة ستنتهج سياسة "إدارة الصراع" مع الولايات المتحدة الأميركية.
وبعد 9 جلسات عقدها البرلمان الإيراني لمناقشة كفاءة الوزراء المقترحين والتحقق من مؤهلاتهم، حظي عراقجي بثقة النواب وحصل على 281 صوتا موافقا من أصل 289.
ولد عباس عراقجي، في الخامس من ديسمبر/كانون الأول عام 1962 في عائلة محافظة بالعاصمة طهران، تعمل في التجارة. فقد والده وهو في الـ17 من عمره. ورغم أن جده الذي ينحدر من محافظة أصفهان وسط البلاد كان تاجرا شهيرا للسجاد وحريصا على توريث أفراد الأسرة حرفة التجارة؛ فإن الحفيد عباس اختار طريقا مختلفا، حتى مقارنة بأخويه اللذين يعمل أحدهما في المجلس التنفيذي لاتحاد المصدرين الإيرانيين، في حين يعتبر الآخر عضوا بارزا في اتحاد البائعين.
وتزامن اتمامه مرحلة الدراسة الإعدادية مع انتصار الثورة الإيرانية التي أطاحت بنظام الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979.وعندما كان ينوي المشاركة في اختبار دخول الجامعات الإيرانية، اندلعت الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1988) حيث أغلقت الجامعات أبوابها، فانضم إلى الحرس الثوري وشارك ضابطا في ساحات القتال.
نجح عام 1985 في اختبار دخول كلية العلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الإيرانية وتخرج فيها عام 1988 حاملا شهادة البكالوريوس، فغادر حينها الحرس الثوري وانضم رسميا إلى السلك الدبلوماسي، وبدأ مسيرته المهنية خبيرا في الدائرة الدولية بالخارجية الإيرانية.
وقد حرص على مواصلة دراساته العليا في "جامعة آزاد إسلامي" الأهلية إلى جانب عمله في الخارجية، حتى نال شهادة الماجستير في فرع العلوم السياسية. كما حصل على منحة دراسية من الخارجية الإيرانية وأوفد إلى بريطانية ليناقش بعد عامين أطروحته في الفكر السياسي في جامعة كينت.
في بداية مشواره الدبلوماسي شغل عباس عراقجي-الذي يتقن اللغتين الإنجليزية والعربية - منصب القائم بأعمال البعثة الإيرانية الدائمة لدى منظمة المؤتمر الإسلامي في السعودية عام 1994. وفي عام 1999 عُيّن سفير لبلاده في فنلندا وإستونيا ومكث في منصبه حتى عام 2003، وبعد عودته إلى طهران ترأس الدائرة الأولى لأوروبا الغربية في الخارجية لفترة عام تقريبا، ثم تقلد رئاسة كلية العلاقات الدولية وبقي في منصبه حتى عام 2005.
بعد تولي منوشهر متقي وزارة الخارجية عام 2005، عين عراقجي مساعدا له في الشؤون القانونية والدولية؛ حيث شارك حينها في فريق بلاده التفاوضي ممثلا قانونيا عن وزارة الخارجية.
عين سفيرا لطهران في طوكيو عام 2007. وبعد عودته منها عام 2011 انتقل إلى معاونية شؤون آسيا في خارجية بلاده. وفي أواخر حقبة الرئيس المحافظ الأسبق محمود أحمدي نجاد تم تعيينه في مايو/أيار 2013 متحدثا باسم الخارجية خلفا لرامين مهمانبرست لفترة لم تتجاوز 4 أشهر حتى عينه وزير الخارجية محمد جواد ظريف نائبا له للشؤون القانونية والدولية حتى عام 2017.
وخلال الولاية الثانية لرئاسة روحاني الذي أعاد تعيين ظريف علی رأس وزارة الخارجية، عيّن الأخير عراقجي عام 2017 مساعدا للشؤون السياسية ومكث في منصبه حتى 2021؛ إذ استقال من منصبه عقب فوز المحافظ إبراهيم رئيسي بالرئاسة عام 2021. لينتقل بعدها إلى المجلس الإستراتيجي للسياسات الخارجية حيث عمل أمينا له بتكليف من وزير الخارجية الأسبق كمال خرازي إلى حين حصوله على ثقة البرلمان في 21 أغسطس/آب الماضي لشغل المنصب الحالي.
ورغم أنه عرف في إيران بكونه أكاديميا ودبلوماسيا براغماتيا، فإن اسم عرقجي اقترن بمفاوضات البرنامج النووي الإيران، حيث قاد فريق بلاده التفاوضي مع القوى الغربية خلال حقبتي الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد والمعتدل حسن روحاني.
يشار إلى أن الاتفاق الذي وقع عام 2015 كان يهدف إلى كبح تقدم البرنامج لمدة 10 سنوات -على الأقل- بتعليق أكثر من ثلثي قدرات التخصيب الإيرانية مقابل رفع العقوبات الغربية على طهران، بعد 12 عاما من التهديدات بين الطرفين. وهو ينظم كذلك عملية رفع العقوبات المفروضة على طهران منذ عقود، ويسمح لها بتصدير واستيراد أسلحة، مقابل منعها من تطوير صواريخ نووية، وقبولها زيارة مواقعها النووية.
الأوسمة
وعقب إبرامه، انقسمت الأوساط الإيرانية بين من اعتبره إنجازا كبيرا فأقام احتفالات ضخمة وقلد أعضاء الوفد المفاوض وعلى رأسهم وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف ومساعده رئيس الوفد المفاوض عباس عراقجي قلائد الفخر الوطنية، وبين آخرين وجهوا سهامهم نحو هؤلاء وكال إليهم شتى أنواع الاتهامات بذريعة التفريط بالمصالح الوطنية.
وردا على تلك الانتقادات، نشر عباس عرقجي مقالا بصحيفة "خراسان" الناطقة بالفارسية اعتبر فيه الاتفاق النووي نصرا تحقق بإجماع الأوساط الداخلية، مؤكدا أن بلاده تمكنت من هزيمة الولايات المتحدة بدبلوماسيتها الماهرة، وقطعت الطريق على سياسات واشنطن العدائية عبر التوصل إلى اتفاق مع المجموعة السداسية بشأن برنامجها النووي.
وحمل مقال عراقجي عتبا خفيفا على الأوساط التي لا تكل ولا تمل يوما عن توجيه الانتقاد للاتفاق النووي والوفد المفاوض. وختم مقاله قائلا إن "المفاوضات تعتمد على القدرات الداخلية ولا يكتب النجاح للمفاوض إلا إذا كان مسلحا بالقوى الداخلية حتى يتفاوض على أساسها، وقد تشمل عوامل القوة هذه القدرات العسكرية والاقتصادية والعلمية والخطاب الداعم الداخلي والقدرات الدبلوماسية... ويعتمد النجاح في السياسة الخارجية على الإجماع الداخلي والوفاق الوطني. إن التضحية بإنجازات السياسة الخارجية من أجل المصالح الفئوية قصيرة المدى، وهدر الكبرياء الوطني، وجعل المجتمع يشعر بالإحباط والفشل عبر تجاهل أو التقليل من الثروات والإنجازات الوطنية لن يصب في مصلحة أحد".
في حقلي الكتابة والبحث ألّف عباس عراقجي 10 كتب، و35 مقالا بالفارسية، و7 مقالات أخرى بالإنجليزية جُلها في السياسة والعلاقات الدولية. أحدث هذه المؤلفات: "السر المكتوم: الاتفاق النووي؛ جهود جبارة من أجل حقوق وأمن وتنمية إيران" الذي نشر عام 2021 في 6 مجلدات و"دبلوماسية المياه العابرة للحدود والنظام الدولي: دروس للسياسة الخارجية في جمهورية إيران الإسلامية" الذي نشر عام 2016. و"الإرهاب والفضاء الإلكتروني في الشرق الأوسط" الذي نشر عام 2017.
أما في حقل الدراسات التي تتناول العالم العربي فصدر له عام 2018 كتاب "صراع الهوية في الأزمة اليمنية وانعدام الأمن متعدد الأوجه في غرب آسيا"، ومجموعة مقالات المؤتمر الدولي الرابع تحت عنوان "النظام الدولي، التطورات الإقليمية والسياسة الخارجية لجمهورية إيران الإسلامية" 2018.