بضربة الضاحية الجنوبية الجديدة، تتراكم المؤشرات على أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يدفع إسرائيل إلى حرب واسعة ومفتوحة في لبنان، ويأتي التصعيد المستمر والغارات المتكررة على بيروت واغتيال قادة من حزب الله وتفجيرات أجهزة النداء والأجهزة اللاسلكية ونقل الجهد العسكري الأساسي من الجنوب إلى الشمال في هذا الاتجاه.
ويشير محللون إلى أن نتنياهو يتجاوز كل الخطوط الحمراء، ويعمل حثيثا على كسر قواعد الاشتباك وتغيير المعادلة في الجبهة الشمالية مع حزب الله، التي كانت تقوم على الردود المحسوبة والمتوازنة، انطلاقا بحرب هجينة عبر تفجيرات متزامنة وسلسلة اغتيالات لقادة كبار في الحزب.
لا يبحث نتنياهو عن المبررات، لكنه يدفع حزب الله إلى الرد بشكل غير نمطي ليمنح من ثم إسرائيل الضوء الأخضر -الأميركي خصوصا- لشن حربها الواسعة التي قد تصل إلى الاجتياح البري وتغيير المعادلات.
ورغم تلك الضربات الموجعة، تشير تصريحات الأمين العام للحزب حسن نصر الله الأخيرة إلى أن الحزب، لأسباب كثيرة من بينها الوضع الداخلي، ما زال يتمسك بمعادلة الرد نفسها والاستمرار في مساندته لغزة، من دون أن يقع في الفخ الإسرائيلي، وترك لإسرائيل حرية اتخاذ القرار بشأن ما إذا كانت ستبدأ حربًا واسعة ومتى ستفعل ذلك.
وأعلن الجيش الإسرائيلي رسميا -في بيان- اغتيال قائد وحدة العمليات الخاصة في حزب الله إبراهيم عقيل، في غارة بالضاحية الجنوبية لبيروت، إضافة إلى "القضاء على قادة كبار في منظومة العمليات وقوة الرضوان في حزب الله".
وتشكل هذه الاغتيالات الجديدة ضربة أخرى موجعة لحزب الله في إطار الحرب الهجينة وغير المتوازية التي تمارسها إسرائيل، ومحاولة جرّ الحزب لتوسيع دائرة الحرب، بما يفرض ردا إسرائيليا بحرب واسعة "شرعية ومبررة".
حسابات نتنياهو ورهاناته
لم يحقق نتنياهو أيا من الأهداف الإستراتيجية لحروبه، واكتفى بأهداف تكتيكية باهتة، ويبدو أنه يمر إلى مرحلة جديدة من العدوان عنوانها فك الارتباط بين الجبهات في لبنان وغزة، وإعادة 60 ألفا إلى مستوطناتهم في الجليل الأعلى، لكنها تستهدف عمليا تصفية حزب الله أو دفعه إلى ما وراء الليطاني وإقامة منطقة عازلة.
وعمليا، لا يمكن تحقيق إعادة المستوطنين -الذي أضيف إلى أهداف أخرى لم تتحقق في غزة- سوى باتفاق شامل يتضمن وقف الحرب في غزة وهو ما يرفضه نتنياهو رغم الضغوط الدولية، أو بحرب مفتوحة.
ولا يمكن لحزب الله أيضا أن يقبل بوقف إطلاق النار، وهو الذي التزم بمبدأ "وحدة الساحات" ومساندة غزة بعد "طوفان الأقصى" ويعني قبوله بوقف النار تقويض ذلك المبدأ، ومن ثم يكون توسيع نطاق الحرب أمرا لا مفرّ منه.
في نظر نتنياهو، تبدو دروس حرب تموز 2006 مع حزب الله بعيدة، بينما يقفز فوق خسائره الراهنة في غزة، وهو يدرك خطورة توسيع المواجهة مع الحزب، وحجم الخسائر التي قد تتكبدها إسرائيل، لكنه ينطلق من جملة من المتغيرات والأسباب من بينها:
- ما يراه ابتعاد خطر الحرب الإقليمية الشاملة بتردد إيران في الرد على إسرائيل بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على أراضيها أو إثر الضربات الموجعة الأخرى لحزب الله.
- يرى أن قدرات حزب الله أصبحت أضعف، خاصة إمكانية تحقيقه لاختراق بري، بعد سلسلة الاغتيالات في صفوف كبار قادته العسكريين.
- يرى نتنياهو وشقّ كبير من الإسرائيليين أن هذه هي الفرصة المناسبة للتخلص من خطر حزب الله وخوض المعركة الفاصلة والنهائية معه.
- يعتقد نتنياهو أنه بخروج إيران المفترض من معادلة الرد، فإن التأثير العسكري لجبهات المساندة الأخرى في اليمن والعراق على إسرائيل سيكون ضعيفا ومحدودا.
- بنظره، ما زالت الولايات المتحدة تمنح كل الدعم والحماية لإسرائيل تحت سقف ألا تتحول المواجهة الواسعة مع حزب الله إلى حرب إقليمية شاملة.
- المجتمع الإسرائيلي -وفق تقديره- أصبح متقبلا بشكل ما للخسائر الكبيرة وكذلك مع الحرب الطويلة أو عمليات أسر الجنود التي قد تحدث في الحرب مع الحزب.
- يرى نتنياهو أن حرب الاستنزاف الراهنة التي تخوضها إسرائيل والتي قد تستمر أشهرًا أخرى أخطر وأكثر تكلفة على إسرائيل من حرب مباشرة مع حزب الله.
- يعتقد نتنياهو أنه حقق أهدافا عسكرية تكتيكية في حربه على غزة وأضعف قدرة حركة حماس على القيام برد فعل عسكري مؤثر أو قدرة على المساندة.
- لم تتعرض إسرائيل عمليا في الداخل لضربة عسكرية مؤثرة وموجعة، سواء في تل أبيب أو حيفا أو على المرافق المدنية والاقتصادية الكبرى، تكبح جماح نتنياهو وتردع نزوعه إلى التصعيد.
- يرى نتنياهو أنه ربح مرحليا معركته السياسية الداخلية ضد معارضيه بما يخوّله اتخاذ قرارات عسكرية وسياسية مهما كانت خطيرة.
- يرى نتنياهو أن الرأي العام الدولي (الغربي خصوصا) سيكون مختلفا في مواقفه من المعركة مع حزب الله، ولن يضغط على إسرائيل كما حدث في حربه على غزة.
- يعتقد نتنياهو أن الضربات الأخيرة في لبنان وخصوصا بيروت أضعفت الروح المعنوية لحاضنة حزب الله وزادت في الحشد ضد سياسته.
- يرى نتنياهو أن حربا واسعة ضد حزب الله، وإن لم تحقق أهدافها كلها، ستضعف الحزب داخليا على المستوى العسكري والسياسي، بما قد يمهد لتغييرات في المشهد السياسي اللبناني تصبّ في مصلحة إسرائيل.
- يعتقد نتنياهو أن حزب الله هو اللاعب الرئيسي في محور المقاومة وأن توجيه ضربة قوية له سيؤدي إلى إضعاف هذا المحور بشكل كبير، كما أن إضعاف حزب الله يمهد لتنفيذ مخططاته في غزة والضفة.
- يرى نتنياهو أن لم يعد لديه ما يخسره على المستوى الشخصي والسياسي من التصعيد مع حزب الله، وخوض الحرب التي يصورها للرأي العام الإسرائيلي كمعركة وجود، وكلما طال أمد الحرب أُجّلت إمكانية محاسبته.
التمهيد بالضربة الأولى
بالمعنى العسكري، تعدّ الضربات الأخيرة التي وُجّهت لحزب الله (استهداف الاتصالات وأجهزة الاتصال واغتيال القادة وقصف مرابض الصواريخ) بمنزلة الضربة الأولى في أي حرب، والتي تستهدف غالبا خطوط الاتصالات والإمداد والضبط والربط والتنسيق، وقد ترافقت مع تحركات عسكرية أخرى لافتة.
وكانت صحيفة واشنطن بوست الأميركية (في عددها الصادر بتاريخ 18 سبتمبر/أيلول) قد ذكرت أن "تلك العملية كانت مقصودة لتكون ضربة أولى في صراع واسع النطاق ضد حزب الله".
من جهته، رأى رئيس الموساد السابق داني ياتوم أن عملية الأجهزة المتفجرة، واستهداف قادة فرقة الرضوان بعدها في هجوم دام بالضاحية الجنوبية "سيكون له ما بعده وقد تبدأ حربا أكثر حسما في لبنان".
وكان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قد أكد أن مركز ثقل الحرب ينتقل إلى الشمال، وأنه "لا يمكن إعادة السكان النازحين من دون تغيير جذري في الوضع الأمني في الشمال"، وذلك خلال اجتماع مع المبعوث الأميركي إلى لبنان آموس هوكشتاين.
كما تم تحريك فرقتين عسكريتين من غزة هما: الفرقة 98 وهي فرقة مشاة احتياطية تابعة للقيادة الإقليمية المركزية الخاصة، والفرقة 99، لتنضما إلى الفرقة 146 المدرعة والفرقة 91 المكلفة أصلا بحماية الحدود مع لبنان، إضافة إلى الفرقة 36 التي سحبت سابقا من غزة إلى الشمال. وتضم الفرقة العسكرية الإسرائيلية ما بين 10 آلاف إلى 20 ألف جندي.
وأجرت القيادة الشمالية والقيادة المركزية في الجيش الإسرائيلي تدريبات برية متواصلة (16 تدريبا)، آخرها في مايو/أيار 2024، كانت معظمها بالجليل الغربي وفي تضاريس تشبه إلى حد كبير ما ينتظر الجيش في لبنان.
كما تتواتر الدعوات الإسرائيلية لاستثمار ما يبدو أنه حالة ارتباك في صفوف حزب الله والهجوم على معاقله في الجنوب، فقد رأت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية أنه "إذا لم تبدأ الحرب على حزب الله في غضون 4-6 أسابيع، فإن من المستحيل شنها حتى ربيع 2025".
حدود القوة والوهم
يبني بنيامين نتنياهو اتجاهه في التصعيد ضد حزب الله والقفز فوق الخطوط الحمراء على إنجازات تكتيكية ونجاحات في عمليات استخباراتية وأمنية نوعية اعترف حزب الله نفسه بتأثيرها عليه، وعلى حالة الصمت من المجتمع الدولي على ما اعتبر جرائم بحق اللبنانيين واعتداء على السيادة اللبنانية، وكذلك على التردد الإيراني بالمقابل، لكن تلك الحسابات تبدو قائمة على مخاطر ومعطيات غير دقيقة من أبرزها:
- حزب الله ما زال يتمتع بقوة عسكرية كبيرة رغم فقدانه خيرة قادته العسكريين، ويمكنه إطلاق عشرات آلاف الصواريخ، إذ يمتلك منها نحو 150 ألفا، وفق أغلب التقديرات، بينها منظومتا صواريخ "ستريلا" بأنواعها المختلفة، و"إيغلا" الروسيتان، ومنظومة "الماس" الإيرانية وغيرها، ومئات المسيّرات المتعددة الأغراض.
- يمتلك الحزب أيضا صواريخ ثقيلة بقدرات تدميرية كبيرة وصواريخ "أرض-بحر" الروسية المتطورة المضادة للسفن من طراز "ياخونت" (أونيكس) بمدى 300 كيلومتر، وربما شبكة أنفاق هائلة تمتد تحت الحدود.
- يصعب على إسرائيل تحمّل ضربات كبيرة وموجعة على مدنها الرئيسية مثل تل أبيب وحيفا وعلى المرافق الحيوية والسكانية.
- تهديد إسرائيل بتدمير بيروت وفق "عقيدة الضاحية" سيقابله ضربات واسعة من حزب الله على تل أبيب وفق مبدأ "تل أبيب مقابل بيروت".
- التوغل الإسرائيلي البري داخل لبنان للسيطرة على معاقل حزب الله، إن وقع سيؤدي -بدروس حرب تموز/يوليو 2006- إلى خسائر إسرائيلية فادحة.
- لن تكون الجبهة الداخلية الإسرائيلية قادرة على تحمل تبعات الخسائر الفادحة وتكلفتها التي يرجح أن تكون أعلى بكثير من خسائر الحرب على غزة.
- قد تؤدي الحرب الواسعة على حزب الله إلى دخول أطراف "محور المقاومة"، منها إيران، بشكل كثيف في الحرب، فهذه الأطراف تدرك أن هزيمة الحزب تعني نهاية المحور.
- دخول إيران وأطراف "محور المقاومة" الأخرى (في العراق واليمن) بجهد عسكري كامل سيؤدي إلى تغيير في المعادلات العسكرية في غير مصلحة إسرائيل.
- لا يعد الجيش الإسرائيلي بناء على مجريات حربه الحالية على غزة أو حروبه السابقة مع حزب الله (خصوصا عام 2006) قادرا على كسب المعارك البرية بشكل حاسم.
وفي مقال بصحيفة جيروزاليم بوست (في عدد 23 أغسطس/آب 2024) يرى تامير هايمان -مدير معهد دراسات الأمن القومي ورئيس المخابرات العسكرية الأسبق- أنه "لا ينبغي أن تخوض إسرائيل حربا واسعة مع حزب الله إلا بعد معالجة الإخفاقات الحالية، وتثبيت استقرار قيادتها، وتحسين مكانتها الإقليمية والدولية".
وإذا كان نتنياهو يحظى بدعم من اليمين المتطرف في حكومته، فإن قطاعا واسعا من الإسرائيليين يعارض سياساته. ففي مقال بصحيفة هآرتس (21 سبتمبر/أيلول 2024)، يقول المحلل والكاتب إسحق بريك "لقد فقد (نتنياهو) إنسانيته وأخلاقه الأساسية ومعاييره وقيمه ومسؤوليته عن أمن إسرائيل، ولن ينقذ إسرائيل إلا استبداله هو ورفاقه في أقرب وقت ممكن. لقد دخلت إسرائيل في دوامة وجودية، وقد تصل قريبا إلى نقطة اللاعودة".
وفي ضوء حسابات خاطئة وفائض من أوهام القوة، وخسائر لم تكن محسوبة ومفاجآت غير منتظرة في الأداء القتالي لحزب الله وتكتيكاته، أو دخول أطراف أخرى في الصراع، قد يلقى بنيامين نتنياهو مصير رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت الذي أنهته حرب تموز 2006 سياسيا وبات لاحقا أول رئيس للوزراء يدخل السجن، وهو ما يريد نتنياهو تجنبه حتى الآن بالتصعيد المستمر والهرب إلى الأمام.