في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2004 غاب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في مستشفى فرنسي لتطوى معه مرحلة من كفاح الشعب الفلسطيني للتحرر من الاحتلال الإسرائيلي ونيل حريته واستقلاله على ترابه الوطني، استمرت 4 عقود.
خلال تلك المرحلة ترك عرفات بصمته الخاصة عبر المسؤوليات التي تولاها أمين سر لحركة فتح أولا، ثم رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأخيرا رئيسا لسلطة مؤقتة أنشئت على أجزاء من أرض فلسطين بموجب اتفاق أوسلو للعام 1993.
الجزيرة نت تستعيد إرث عرفات السياسي بمناسبة مرور عقدين على وفاته، عبر حوار أجرته مع عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عباس زكي الذي تناول واقع فتح في ظل السلطة الفلسطينية.
ورأى زكي -الذي يمثل الجيل الثاني من قادة فتح- أن حركته تعاني من إرباك ولا تقود الحالة الفلسطينية في هذه المرحلة، معتبرا أن "قرارها مرهون بيد السلطة".
وقال إن منظمة التحرير الفلسطينية هي الأخرى أصبحت جزءا من السلطة، وأن هناك إرباكا داخلها لغياب مؤتمراتها ودوائرها ومؤسساتها ودورها، وتوقع المزيد من تهميش دورها لصالح "الدولة" في حال نجحت مساعي الحصول على دولة كاملة العضوية بالأمم المتحدة.
فيما يلي نص الحوار:
- بداية، في الذكرى الـ 20 لوفاة ياسر عرفات، ماذا خسرت فتح في غيابه؟ وماذا ترك لخلفائه؟
عرفات لم يغادر، بل إن حضوره أثناء غيابه أصبح كبيرا، حتى لدى خصومه والمنافسين له. عرفات بالنسبة لفلسطين لم يكن قائدا فلسطينيا فقط، إنما هو بالكاريزما والرمزية التي تميز بها أصبح بطلا على مستوى العالم، رغم أنه لم يكمل رحلته وينتصر.
كان عرفات من أولئك الذين يبشّرون بحقبة مختلفة بالتمرد على واقع فاشل. والحفاظ على اسم ياسر عرفات يجعلنا دائما نفكر ألا نقف في منتصف الطريق، بل لنستمر كطائر الفينيق الذي ينهض من بين الركام.
كان لعرفات أبجديات ومقولات كبيرة ما زالت حاضرة فينا، فعندما حوصر وسط آلاف القنابل في لبنان (1982) قال: هبت رياح الجنة، وكان يخرج من البنايات التي كانت تقصف إذا دخل أيا منها، رافعا سلاحه وليس رافعا يده، رغم محاولة اغتياله في آخر لحظة.
لقد عاد عرفات من الغربة إلى وهم الدولة ولم يستطع أن يحقق الدولة فقال: "يا جبل ما يهزك ريح"، كان متفائلا دائما بالانتصار ودائما داعيا إلى وحدة وطنية.
ما خسرناه بعد عرفات عقم العقل الفلسطيني تجاه الوحدة الوطنية، فقد كان قادرا على جمع الناس حولها، حتى جورج حبش (مؤسس حركة القوميين العرب ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) أشد منافسيه بحكم حركة القوميين العرب ذات الامتداد الواسع، قال عنه: "نختلف معه ولا نختلف عليه".
لقد بنى عرفات علاقاته مع حركات التحرر العالمية، وكان يدخل كل بيوت العالم بعدالة قضيته، قضية ذات طابع إنساني وأخلاقي وسياسي، ويقيم العلاقة مع الجميع، لأنه كان يعتبر قضيته أكبر بكثير من أن يكون تحت جناح أي قطر أو بلد كالولايات المتحدة مثلا، أو تحديد الانتماء في زاوية من الزوايا.
- بين قادة فتح التاريخيين تمسك فاروق القدومي (أبو اللطف) بموقفه المعارض لاتفاق أوسلو الذي وقعه عرفات، ورفض الدخول إلى فلسطين وفق أحكامه. من مِن الاثنين برأيك كان الأبعد نظرا من منظار تحقيق هدفي التحرر من الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية، ياسر عرفات أم فاروق القدومي؟
صحيح أن عرفات كان وراء أوسلو لأنه الرجل القوي، ولو وقف ضد أوسلو فلن يكون. لكنه انطلق من فكرة أن الفلسطيني يجب ألا يرفض فرصة تقام فيها دولة عام 1999، وبالتالي أقدم على الخطوة وقال مقولته المشهورة: "سلام الشجعان"، وحين أدرك أنه "لا سلام شجعان" في المنظور، وأن القدس ستكون عاصمة لإسرائيل، قال: لا.
في كامب ديفيد (2000) طُرح عليه دولة في 93% (من أراضي ال67، ورفضها إلا إذا تبين له أين تقع الـ 7% المتبقية). حينها قال له الرئيس الأميركي بيل كلنتون: عليك أن توافق، وأنا الرئيس الوحيد في الولايات المتحدة الذي يعطيك هذه الفرصة، فأجاب: أخشى أن تشمل الـ 7% القدس، وأنا لا أرى فلسطين دون القدس. وعاد ليهتف "على القدس رايحين شهداء بالملايين" و"يريدونني شهيدا أو طريدا أو أسيرا، وأقول لهم شهيدا شهيدا شهيدا".
لا نستطيع القول إن عرفات كان مع أوسلو قلبا وقالبا، أراد أن يطور هذه الفرصة وألا يضيّع شيئا على شعبه، وعندما وجد أن إسحاق رابين (رئيس وزراء إسرائيل السابق الذي وقع مع عرفات اتفاق أوسلو)، عنوان الطرف الآخر في السلام قُتل (1995)، والاستيطان في ازدياد مع إعطاء العرب غطاء كي يطبّعوا مع إسرائيل، كان ضدها، ودفع الثمن حياته.
إذا لا نستطيع القول إن أبو اللطف يتمايز عن أبو عمار بشيء كلاهما واحد.
أنا ممن كانوا ضد أوسلو لدرجة متطرفة حتى وصفتهم حينها بالخيانة، وكان (عرفات) يقول لي: "لو كنت أنا مقتنعا بهذا الاتفاق لما سمحت لك أن تصل لهذا الحد (من التهجم)، كنت بداخلي أشك في الاتفاق من أول يوم".
أعتقد أن أبو اللطف وعرفات بالمسار نفسه، سلام الشجعان كان كي لا تغلق أي فرصة أمام الشعب الفلسطيني.
- مع الراحل ياسر عرفات تمددت حركة فتح بوصفها حركة تحرر تولت قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية. مع الرئيس الحالي محمود عباس أصبحت فتح حزب سلطة، هل تعتقد بإمكانية بقاء فتح فاعلة ومؤثرة سياسيا خارج إطار السلطة؟ وما شروط أو متطلبات ذلك برأيك؟
فتح أضعف من كونها حزب سلطة، لأنها ليست الحزب القائد في هذه المرحلة. إذا كانت منظمة التحرير قد أخذت كل مؤسسات فتح، فالسلطة أخذت قرار فتح، ومنظمة التحرير أضحت جزءا من السلطة. فلا تستطيع القول إن فتح هي التنظيم أو القيادة السياسية للحالة الفلسطينية.
نحن نعاني من إرباك وفوضى داخلية نتيجة تحول العدو إلى الإرهاب المنظم والأبارتهايد، وممارسات يندى لها الجبين من تطهير عرقي وحرب إبادة وطغيان وتجاوز من فلسطين إلى لبنان لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى.
- ومتى يمكن أن تكون حركة فتح مؤثرة في الشارع؟
حينما يتم الفصل بين الثلاثي: منظمة التحرير، والسلطة التي هي ذراع المنظمة في الداخل، ولا مسؤولية سياسية لها لكن يجتمع فيها كل شيء: من المال إلى القرار إلى فتح، وأخيرا حركة فتح التي يجب أن تكون على يسار الجميع، على اعتبار أن لها إرثا نضاليا كبيرا.
يجب ألا يذهب إرث فتح الكبير في لُجة ما يجري اليوم من انقلابات على كل صعيد، سواء انقلاب على الأخلاق في العالم خاصة العربي الذي يرى الدم في غزة ماء لا قيمة له، بالتالي الوضع معقد كثيرا وخطير، وهذا يستوجب استحضار فتح بنهج وإرادة ونظام وتخطيط يسمح لها بالاستمرار.
بالتالي حركة فتح اتخذت في الماضي فكرة ملهمة هي أن الكفاح المسلح أقرب الطرق إلى فلسطين، وأن السياسية الدامية التي تنبع من فوهة البندقية هي التي اعتمدت، وأن المرحلية يجب ألا تكون على حساب الإستراتيجية.
يجب ألا نعدم أي إنجاز حققناه سواء على الصعيد المحلي سواء وحدة الشعب واستقطابها للأوفياء للعقيدة والدين والقيم الذين يدافعون عن وطنهم. أو على الصعيد الخارجي حيث حصلنا على مواقع مؤثرة ومهم جدا على صعيد مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
يجب ألا نفرط بأي منجز تحقق ويجب أن نضع سياسة واضحة للتعاطي، سواء مع العدو أو الصديق، وهذا يتطلب أن نعرّف فتح مرة أخرى أنها حركة تحرير وطن وليست حركة تمرير صفقات.
- هل تعتقد بوجود فرصة لاستعادة فتح مكانتها السابقة عبر العودة للانخراط في الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي مثل ما تقوم به حماس والجهاد وبعض الفصائل؟
لكل زمن فلسفة، طالما هناك احتلال للأرض فتح مطلوبة وموجودة، لكن النضال ليس على طريقة واحدة، نحن نقول الصمود على الأرض ثورة، الدكتور ومبضع الجراح، ريشة الرسام وقلم الكاتب، كل أشكال النضال وخاصة ثقافة التعايش مع بعضنا البعض.
هناك كثير من القضايا التي تظهرنا أقوياء دون استخدام شيء في غير مرحلته، يجب ألا يسقط خيار المقاومة، لكن استخدامه ينبغي أن يكون حين يكون مفيدا لك وضارا كثيرا لعدوك.
أعتقد أن أكبر خطر على إسرائيل هو السلام، لو نمارس السلام بالجماهير العريضة واستخدام ما وصلنا إليه من قرارات وعلاقات شديدة الوضوح مع المعسكرات العربية والإقليمية والدولية، وعدم الخضوع للتبعية والوصاية والاحتواء.
أمام فتح مشروع طويل لأنها لم تنجز مهماتها ولن تتخلى عن إرثها النضالي الكبير ولن تحنث بالعهد والقسم.
- بعد تعثر اتفاق أوسلو واندلاع الانتفاضة الثانية بسبب مماطلة اليمين الإسرائيلي في تنفيذه برز دور كتائب شهداء الأقصى في الضفة الغربية بوصفه ردا غير معلن من فتح على العدوانية والتعنت الإسرائيلي، هل ترى إمكانية لظهور جيل جديد من قادة فتح ممن يمكن أن يحيوا إرثها في العمل المسلح؟
كل من يتحرك بالشارع من كتاب شهداء الأقصى إلى أي مبادرات (مسلحة) عند القيادة مرفوضة، لا اعتراف بمن يمارس هذا الخط.
هذا الشعب قاعدته دائما أنه أكبر من قيادته، شعبنا يتناوب في حمل الراية، لا تسقط في ساحة إلا ترتفع في أخرى، لا يهدأ فصيل إلا يكمله فصيل آخر.
كل من يمارس الآن صمودا ومقاومة هو ينتصر لفكرة فتح التي بدأت تقول إن أقرب الطرق إلى فلسطين هي الكفاح المسلح.
نحن لا نحصر أنفسنا في هوامش يستفيد منها العدو، وآمل أن يكون الأوفياء لهذه الحركة والحريصون على دم الشهداء ومن يشاهدون ما يجري للحركة الأسيرة وحمامات الدم في غزة، هذا الأمر يجعل طريقة التفكير أن نصل وننتصر لا أن ننتحر.
- بعد معركة الكرامة عام 1968 تصدرت فتح وقادة الحركة الوطنية الفلسطينية، وبعد طوفان الأقصى عام 2023 أعادت حركتا حماس والجهاد الإسلامي إحياء القضية الفلسطينية وفرضها مجددا على صناع القرار الدولي، هل تعتقد أن فتح سيكون لها دور مؤثر في المرحلة المقبلة ، كما كان حالها قبل أوسلو؟
دور فتح يجب ألا نسقطه كحركة وسطية، تعبيرات الحالة الرسمية الفلسطينية ما زالت في الأمم المتحدة، دور فتح فاعل في المؤسسات الدولية كحركة ملتزمة لا تحمل بندقية، وهذا له تأثير كبير، يجب ألا نسقط أي ركن من أركان المواجهة السياسية الدبلوماسية القانونية.
ضروري جدا ألا نغادر العالم، آن الأوان لوحدة حقيقية، وإن غابت الوحدة الحقيقية بحكم الجغرافيا لكن بالتفاهمات على ألا ينفرد أي طرف بقرارات ذات بعد إستراتيجي في ظل حرب وجودية، لا يجوز الاجتهاد والخروج عن النص الإجماع الوطني.
- خلال قيادة ياسر عرفات لمنظمة التحرير الفلسطينية تحقق اعتراف بفلسطين ككيان سياسي للشعب الفلسطيني دون الوصول إلى هدف التحرير وإقامة الدولة. هل تعتقد أن هذا الإنجاز قابل للضياع في ظل تهميش دور منظمة التحرير الفلسطينية وابتلاعه من قبل السلطة؟
جرت محاولات عديدة لتهميش المنظمة، الآن في الخارج يعدون لمؤتمر بديل، حماس كانت تعد لتجاوز منظمة التحرير. لكن في نهاية المطاف لا يمكن لهذه المنظمة التي جاءت وليدة العرَق والدموع والدماء وليست هدية من أحد، أن تنتهي.
صحيح أن هناك إرباكا الآن في منظمة التحرير لغياب مؤتمراتها ودوائرها ومؤسساتها ودورها، لكن الذي يجب أن يكون في مراحل صعبة وخطيرة ليس التبعية للقرار الأميركي والعرب.
الضربة التي لا تميتنا تقوينا، طالما هناك بقايا منظمة يمكن أن تكون قوية إزاء اتخاذ إجراءات تستند إلى قانون ومراقبة وأيضا إستراتيجية تدرك المتغيرات وتكون بمستوى عظمة هذا الشعب الفلسطيني الذي في الأساس أكبر من قيادته.
- هناك مساع لترقية فلسطين إلى دولة كاملة العضوية بالأمم المتحدة، ما مصير منظمة التحرير بعد الترقية؟
نحن إذا حصلنا على الدولة فالمنظمة قد تكون ذات دور ثانوي، نحن نناضل أن تكون الدولة ذات سيادة وحرة وقادرة على أن تتبوأ مكانها على الصعيد العربي والدولي.
أي شيء قائم ليس صنما نعبده، بقدر أن دور المنظمة وفتح وكل الفصائل هو إيجاد طريق لتحرير الوطن، شعبنا -إن شاء الله- قادر إذا حقق التحرير أن يحتفظ بكل ما هو قيمي إلى جانب إحرازه الفوز وتحقيق النصر.