لماذا يستهدف اللوبي الإسرائيلي بأميركا أسامة أبو ارشيد؟
مساء يوم الجمعة، الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي بعد خمسة أسابيع تقريبا من بدء عملية "طوفان الأقصى"، وفي ولاية فيرجينيا المحاذية للعاصمة الأميركية واشنطن، التقيتُ بأستاذ العلوم السياسية الدكتور أسامة أبو ارشيد، في مطعم بدعوة من صديق مشترك. كان مطعم "البوادي" الواقع بالقرب من مسجد دار الهجرة مزدحما، وصفُّ الانتظار يمتد إلى طريق أرلينغتون المجاور. أما علّة ذلك الازدحام -غير المعتاد- فهي أن صاحب المطعم، فلسطيني الأصل والمنحدر من غزة، قد استُشهد اثنان من أفراد عائلته في الحرب الدائرة، فخصَّص ريع ذلك اليوم بأكمله إلى أهل غزة.
وفي أجواء نوفمبر الباردة، جلسنا وسط ضجيج المطعم وضجيج السياسة. ولخصوصية الزمان والمكان، كان الحديث متمحورا حول تبعات "الطوفان" على المسلمين والعرب والفلسطينيين في الولايات المتحدة. وفي غير مرّة، كان أبو ارشيد يعرّج في حديثه على شراسة الاستهداف الذي يواجهه يوميا، دون الدخول في التفاصيل، إثر تصدّره للعمل المتصل بالقضية الفلسطينية، وهو المدير التنفيذي لمنظمة "أميركيون مسلمون لأجل فلسطين".
اقرأ أيضا
list of 2 itemsقصة إسلام إنجيلي أميركي.. كيف أصبح تديّن الغزيين نموذج هداية؟
انتهت الجلسة، وصحبته بعدها إلى سيارته المصفوفة بعيدا. وفي طريقنا، أخبرني أنه ذاهب إلى المكتب في منتصف الليل لإتمام بعض المهام المتراكمة. لكن الذهاب للمكتب لم يعد كما كان سابقا في ظل تهديدات القتل التي وصلته حتى باب منزله، وذلك على إثر اتهام المدعي العام لولاية فيرجينيا جيسون مايرز منظمة "أميركيون مسلمون لأجل فلسطين" بعلاقة مزعومة مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ورفعه قضية مدنية على المنظمة التي يرأسها أبو ارشيد. توالت التهديدات، مصحوبة بهجمة إعلامية شرسة قادت أسامة إلى الطلب من موظفي مؤسسته الحقوقية ألا يحضروا لمقر العمل إلا للضرورة، كما اضطرت عائلته للابتعاد والعيش في ولاية أخرى ليست قريبة من الولاية التي يقطن فيها أبو ارشيد.
لم تكن هذه الملاحقة أمرا مستجدا على أبو ارشيد، الذي وُضع على قوائم الترقب بسبب نشاطه السياسي لفلسطين وبتحريض من قِبَل المجموعات الداعمة لإسرائيل والمؤسسات التي تنتمي إلى "اللوبي الداعم لإسرائيل" لأكثر من سبعة أعوام، بين 2010-2017، وهي القائمة التي يُضاف إليها مَن تُثار حولهم شبهات العلاقة بأشخاص أو حركات أو منظمات تشك السلطات الأميركية بانخراطها في أنشطة إرهابية، بحسب وصف مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي).
لكن ما يتعرض له أبو ارشيد اشتدّ كثيرا، وهو يفسّر ذلك بالقول إن الإسرائيليين يريدون اجتثاث المقاومة من غزة، ويريدون اجتثاث كل مَن يدعم فلسطين في الولايات المتحدة، وهم يستخدمون هجوم السابع من أكتوبر ذريعة لهذا الأمر. وهذا الدعم هو الذي وُضع أبو ارشيد بسببه على قوائم الترقب مرة أخرى في مايو/أيار من العام الحالي بعد أن كان قد رُفع عنها منذ عام 2017.
لم يعد داعمو إسرائيل مهتمين بصورتهم، ولا لتحولات الرأي العام، ولا حتى باستعادة التعاطف الذي فقدوه من شرائح واسعة، خاصة الشباب. يقول أبو ارشيد إن أهداف هؤلاء تتمحور فقط حول سحق أي صوت مؤيد للحقوق الفلسطينية، حتى لو كانت أصواتا يهودية مثل ما استهدفت منظمتَيْ "كود بينك" و"أصوات يهودية من أجل السلام".
وعلى مدار الأيام والأسابيع اللاحقة، حكى لنا أبو ارشيد قصته، التي تسلط الضوء على الحملة الممنهجة لاستهداف العمل الفلسطيني الفاعل في الولايات المتحدة، وعلى المنظمات والشخصيات التي تقف وراء هذه الحملة، والإستراتيجيات التي يتبعونها لتحقيق أهدافهم، لا سيما مع تصاعد الأصوات الرافضة لجرائم إسرائيل والدعم الأميركي غير المشروط لها.
أما قبل أيام قليلة، فقد أعلن مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية رفع دعوى قضائية ضد مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي بسبب قائمة مراقبة سرية لأميركيين مسلمين أو من أصول فلسطينية، وأشار المجلس إلى أن ما يتعرض له أسامة أبو أرشيد "مثال على ما يواجهه مسلمو أميركا من تمييز".
ثقوب في الجدار
كان وقع المظاهرات الطلابية في أميركا وتزايد وتيرتها في الآونة الأخيرة مؤشرا واضحا على تحول يجري في المشهد السياسي والاجتماعي الأميركي. أدرك داعمو إسرائيل ذلك مبكرا، لذلك فقد أثارت تلك الجموع الغاضبة، التي انتشر صوتها في الولايات الأميركية المختلفة، ردود أفعال شديدة الحدّة من جانبهم. أدرك هؤلاء أيضا أن قضية إسرائيل لم تعد محصنة في الرأي العام بحسب ما أظهر أكثر من استطلاع رأي، وأن تهمة معاداة السامية والتشهير بمؤيدي فلسطين في مواقع مثل "كناري ميشن" لم تعد كافية لتخويف المعارضين لإسرائيل.
فمثلا، أجرت مؤسسة غالوب تقريرا يحلل جميع الاستطلاعات السابقة التي أجرتها حول فلسطين وإسرائيل، منذ عام 2010 وحتى نهاية 2016، وصدرت في عام 2017. أما النتيجة فقد لخصتها صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بقولها: "كلما عرف الأميركيون أكثر عن إسرائيل، كلما قلَّ حبهم لها".
صاحبت حزمة الإدراكات تلك حملات تشويه للحراك الطلابي، بدءا من تهمة معاداة السامية، ودعم الإرهاب، وصولا لادعاءات تلقّي الطلاب تمويلا من جهات خارجية. أتى كل ذلك مصحوبا بعنف شديد من الشرطة بما لا يتلاءم مع طبيعة الاحتجاجات السلمية التي انطلقت في بلد "ديمقراطي" يعتز بأن نموذجه "الحضاري" قائم على "حرية التعبير".
دفع هذا العنف المتظاهرين لاتهام إدارات الجامعات وأجهزة الأمن بالتحيز للرواية الإسرائيلية وداعميها. هذه المزاعم عضّدها تحقيق صحيفة "واشنطن بوست" بضلوع أثرياء في دعم وحث عمدة مدينة نيويورك إيريك آدامز بفض اعتصامات المدينة بالقوة، وسعيهم لتشذيب السياسة الأميركية والرأي العام الأميركي باتجاه معاداة مظاهرات الطلبة المناصرة لفلسطين. وللمفارقة، تُعد نيويورك المدينة التي تحوي أعلى نسبة لليهود خارج أراضي فلسطين التاريخية بإجمالي سكان يقرب من 1.8 مليون، بحسب آخر إحصائية صدرت في عام 2024، كما أن هذه المدينة هي التي انطلقت منها شرارة الاعتصامات من قلب جامعة كولومبيا. مع الإشارة إلى أن هذه المجموعة من الأثرياء لم ينحصر تأثيرها ونطاق عملها في نيويورك، بل امتد للرقعة الأميركية بأكملها.
وفق هذا الواقع، يذكر أبو ارشيد أن استهداف العمل الفلسطيني في أميركا والناشطين فيه تضاعف إثر التحولات الكبيرة في الرأي العام، خاصة لدى شريحة الشباب، والأقليات، وما يُعرف بالتيار التقدمي في الحزب الديمقراطي. يضيف أبو ارشيد أن هذا التحول لم يبدأ بعد السابع من أكتوبر، بل يمكن إرجاع آثاره بالتوازي مع تولي باراك أوباما مقاليد رئاسة أميركا منذ عام 2009، وهو الذي تبنى في بداية رئاسته تحديدا موقفا مختلفا عن أقرانه من الرؤساء السابقين تجاه إسرائيل، حيث دعا أن يكون للسياسة الأميركية مسافة تفصلها عن السياسة الإسرائيلية. وهذه المسافة الفاصلة لم تكن تعني بالتأكيد ضربا في مشروعية إسرائيل، أو تقليصا في أهميتها الإستراتيجية، بل عَنَت فقط أخذ مسافة، ربما تكون خطوة أو خطوتين لفك الالتصاق التام.
أما الإعلان عن سياسته الجديدة تلك، فقد جاء أثناء حديثه مع زعماء "المنظمات الصهيونية" في البيت الأبيض بعد توليه الرئاسة مباشرة، مما أثار ردود فعل شرسة في أوساط الحزب الديمقراطي ممن يؤيدون إسرائيل. بقيت هذه السياسة على حالها حتى خسر الحزب الديمقراطي انتخابات مجلس النواب النصفية عام 2010. لم تكن أسباب الخسارة عائدة إلى سياسة أوباما تجاه إسرائيل حصرا، بل لأسباب عدة كان أبرزها الأداء الاقتصادي. لكن على ما يبدو، ومع تعدد مناطق الهجوم والانتقاد ومساراته، بدأ أوباما بتعديل سياساته نحو الاقتراب الكبير مع سياسة أسلافه تجاه إسرائيل واسترضائها.
ورغم هذا التعديل، أدرك اللوبي الداعم لإسرائيل أن ثمة تحولات كبرى قد بدأت بالفعل. وبحسب أبو ارشيد، اعتقد أوباما أن قواعد الحزب الديمقراطي المستاءة من إسرائيل قد تسمح له بأخذ تلك المسافة. أي إن موقف أوباما ذاك لم يكن سببا لتحولات المواقف السياسية من إسرائيل، بل أحد إفرازاته.
ومنذ ذلك الحين، بدأ اللوبي محاولة حصر أسباب التغير في رؤية الحزب الديمقراطي، والكثير من الأميركيين، تجاه إسرائيل. رأى اللوبي الإسرائيلي أسباب هذا التغير في المنظمات الفلسطينية أو المسلمة، وحتى المنظمات اليهودية المناصرة لفلسطين، بالإضافة إلى أكاديميين مثل رشيد خالدي، المؤرخ الفلسطيني الأميركي في جامعة كولومبيا، الذي شُنت عليه حملة شرسة سابقا في عام 2008، لصداقته بباراك أوباما، وما وصفوه بتأثيره الواسع عليه فيما يخص القضية الفلسطينية.
مرّت الأعوام وصولا لعام 2015، العام الذي شهد خطاب نتنياهو في الكونغرس بعد دعوة الحزب الجمهوري له. كان ذلك الحدث لحظة فارقة في إبراز هذا التحول، حين قاطع 88 عضوا من الحزب الديمقراطي في مجلس النواب خطاب نتنياهو. أثارت تلك الدعوة جدلا أميركيا وإسرائيليا واسعا، كونها أتت دون تنسيق مع الحزب الديمقراطي ولا مؤسسة الرئاسة، مما جعلها تبدو وكأنها قضية حزبية تخص الجمهوريين حصرا، وليست قضية "فوق حزبية" أو تجمع الحزبين كما كانت سابقا.
وبالنظر لعناوين الصحف والمجلات الأميركية وقتها، كان ثمة إدراك بتلك التحولات، حيث وصفت مجلة "فوكس" (Vox) مساعي نتنياهو تقويض جهود أوباما بالتوصل لاتفاق مع إيران بشأن السلاح النووي، ومن ثم دعمه للجمهوريين في مواجهة أوباما والديمقراطيين، بأنها مخاطرة يقودها نتنياهو بما يجعل إسرائيل قضية حزبية، وبالتالي الإضرار بالعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
وأشارت المجلة إلى أن نتنياهو والجمهوريين بخطوتهم تلك لا يعملون فقط على تقويض جهود أوباما للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، بل أيضا سلطته الرئاسية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وسيطرته عليها. أشارت المجلة إلى ذلك السخط الديمقراطي بوضوح عبر قولها: "الديمقراطيون غاضبون من الإهانة الواضحة للرئيس".
لم يكن أوباما بالتأكيد عدوا لإسرائيل ولا حليفا للفلسطينيين، إذ رغم خلافاته مع بنيامين نتنياهو في ذلك الوقت، فقد وصلت المساعدات الأميركية السنوية لإسرائيل ذروتها في عهده، كما اتسعت المستوطنات في قضم أراضي الضفة الغربية دون رادع إلا بعض التصريحات الشكلية (تماما مثل التعبير عن القلق بعد قتل 10 آلاف، ثم التعبير مرة أخرى عن القلق بعد قتل 20 ألف، وهكذا). ولم ينتج في عهده حل للقضية الفلسطينية كما كان يردد دائما، مع بقاء إسرائيل رقما ثابتا في الإستراتيجية الأميركية الأمنية الأوسع وجزءا أساسيا من المنظومة الغربية.
أما موقفه من القضية الفلسطينية، فيُقرأ بوصفه متسقا مع إستراتيجيته التي ترمي لخفض التدخل الأميركي في الشرق الأوسط على إثر الحروب المستنزفة التي خاضتها أميركا في عهد سلفه جورج بوش الابن. لكن، وعلى غير تخطيط من أوباما نفسه، فقد كان لتلك التصريحات الكلامية أثر في التعبير عن التحولات التي بدأت تطرأ تجاه الموقف من إسرائيل.
ومع قدوم دونالد ترامب للرئاسة عقب انتخابات عام 2016، تصاعدت حِدَّة التوتر والاستقطاب المتصل بإسرائيل وعلاقة أميركا بها، خاصة مع إقامة الرئيس الجديد تحالفا مع بنيامين نتنياهو والخط اليميني في إسرائيل. دفع ذلك عددا من المسؤولين الإسرائيليين لتحذير الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من مغبّة تحول العلاقة الأميركية الإسرائيلية إلى علاقة حزبية، يمينية-يمينية، مما يجعلها قضيةً محلَّ خلاف.
هذا التحذير من الأوساط الأمنية الإسرائيلية لم يكن استشرافا لما يمكن أن يجري في المستقبل، بل إدراكا لتغيرات بدأت تطرأ بالفعل، ودخول القضية الفلسطينية على خارطة اللغة اليومية عند الأميركيين، ما يعني بالضرورة تفككا في السردية الإسرائيلية التي سادت لعقود، وإن تدريجيا.
في هذا السياق، يضيف أبو ارشيد أنه في عام 2017، أي حينما أتى ترامب للرئاسة، فقد "شنت حملته الانتخابية حربا على الكثير من الأقليات، حيث دعا ذوي الأصول المكسيكية بالمغتصبين، وهاجم النساء أكثر من مرة، وشنع على الديمقراطيين، والمسلمين والعرب الذي اعتبرهم إرهابيين، والإعلام الذي سماه عدو الدولة". هذا الخطاب الذي جاء به ترامب، أدى إلى تعزيز ما يُعرف بحركة العدالة الاجتماعية في أميركا، وحينها دخلت فلسطين في القلب من هذا الحراك بصورة أكبر مما سبق، وبات هناك ما يشبه الالتحام بين قضايا الأقليات.
الحرية و"أصنام العجوة"
"لقد تم اختيارنا، على نحو واضح، لكي نُهدي شعوب العالم كيفية السير في درب الحرية".
"أنا أؤمن بأن الرب هو مَن أشرف على نشوء هذه الأمة، وأومن بأنه غرس في نفوسنا رؤى الحرية".
- الرئيس الأميركي وودرو ويلسون (1913-1921)
منذ نشأة الولايات المتحدة على دماء السكان الأصليين، طغت روح رسولية (Messianic) على خطابات وأفكار الآباء المؤسسين. استندت هذه الروح إلى فكرة أساسية ومركزية في تمثيل الاستثنائية الأميركية (American exceptionalism)، وهي الحرية. يظهر ذلك جليا في التعديل الأول من الدستور الأميركي الذي ينص على حماية "حرية التعبير والصحافة والتجمع والحق في تقديم التماس إلى الحكومة من أجل معالجة المظالم".
مثّلت الحرية على مدى سنين طوال مدار الحلم الأميركي، فأنت حر في تبنّي وعبادة وقول وفعل ما تريد، وكان هذا هو المحدد الرئيسي لتلك الاستثنائية الأميركية. لكن كما كانت الحرية ركيزة أولى لوجه أميركا الحديث، فإن الركيزة الأخرى كانت هي "الكونية"، أي إن هذه الأمة الأميركية هي "أمة تتمتع بحظوة إلهية ومشربة بالدعوة المقدسة" ويجب عليها أن تنقل هذه الرسالة إلى العالم.
وكما يقول المؤرخ وعالم الاجتماع بيري أندرسون (Perry Anderson) في كتاب "السياسة الخارجية الأميركية ومفكّروها"، إن هاتين الركيزتين المتناقضتين في جوهرهما هما ما قادتا الولايات المتحدة، وهما اللتان ستخلقان شقوقا في الجدار الأميركي. فقد كان الإيمان الراسخ بالاستثنائية يسمح بالاعتقاد أن بإمكان الولايات المتحدة الحفاظ على "فضائلها الفريدة" من خلال انفصالها عن عالم متهالك. أما الالتزام بالكونية فقد كان يمنح الولايات المتحدة صلاحية القيام بأنشطة "تبشيرية" للتدخل في شؤون العالم بدعوى تحريره. وبين هذين المتناقضين، كان الرأي العام يتحول فجأة مرة بعد أخرى.
تبرز لنا مفارقة الانفصال والتدخل حاضرةً في أشد تمثلاتها في اللحظة الحالية. فتدخُّل الولايات المتحدة بدعم إسرائيل دون قيد أو شرط جعلها ضالعا وشريكا أساسيا في الحرب على قطاع غزة. لكن هذا الدعم ليس حديثا، ولا طارئا، بل علاقة عضوية تمتد لسنوات، أضحت معها إسرائيل المتلقي الأبرز للمساعدات الأميركية، وشريكا رئيسيا للإستراتيجية الأمنية والعسكرية الأميركية في منطقة الشرق.
كان ذلك التدخل المستمر عاملا في تفكيك استثنائية الولايات المتحدة. فلا الإعلام بات مركزيا، ولا الرجل الأبيض بات يُشكِّل الأغلبية الساحقة، ولا أميركا باتت قادرة على الالتزام بالقيم التي رسمتها لنفسها وسوَّقت خلالها "الحلم الأميركي" رافعةً لهيمنتها الثقافية خارج حدودها. كل ذلك دفع إلى تغيرات بدأت ملامحها تختمر سنةً بعد أخرى.
فعلى مدار العقود الأخيرة، اندلعت الكثير من الاحتجاجات الداخلية مدفوعةً بالتدخل الخارجي الأميركي الفج في دول أخرى. في فيتنام، والعراق، وأفغانستان، واليوم في غزة. كانت هذه المظاهرات تُمثِّل اختبارا على الدوام لتلك الاستثنائية الأميركية.
في وقت مبكر، أدركت المؤسسات الداعمة لإسرائيل أن التحولات التي تشهدها الرؤية الأميركية، حتى بين الشباب اليهود، تجاه إسرائيل تعود في جزء منها إلى مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ذلك دفع المؤسسات أيضا إلى النظر ناحية المؤسسات العاملة للقضية الفلسطينية في أميركا، ومن ثم استهدافها والأفراد العاملين بها.
ورغم ما أظهرته آلة القمع الأمنية في المظاهرات التي اندلعت إثر الحرب الإسرائيلية على غزة، والتشويه الإعلامي للمتظاهرين السلميين المحتجين على ما يصفونه بالتواطؤ الأميركي-الغربي على الفلسطينيين، فإن هذا الاستهداف بدأ منذ وقت طويل.
يقول أبو ارشيد إن سبب الاستهداف الذي طاله وطال غيره قديم. وللمفارقة، فقد كان سبب استهداف شخصه ووضعه على قوائم الترقب في المرة الأولى دراسة أكاديمية عمل عليها مع صديق يهودي اسمه بول شام (Paul Scham)، وهو رئيس قسم الدراسات الإسرائيلية في جامعة ميريلاند كوليج بارك، هذا الصديق يحمل الجنسية الإسرائيلية، وهو أميركي في الوقت ذاته، وكان مستشارا من الدائرة الواسعة في حملة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما للشرق الأوسط، ويعمل اليوم مع معهد دراسات الشرق الأوسط في واشنطن.
يضيف أبو ارشيد: "عرض عليّ بول شام في وقت سابق، حينما كان أوباما مرشحا للمرة الأولى في السباق الرئاسي، إعداد دراسة مشتركة مع معهد السلام الأميركي، وهو واحد من أكبر مراكز الدراسات في أميركا، ويتبع وزارة الخارجية الأميركية. وكانت الدراسة تتمحور حول إمكانية أن تكون حماس جزءا من العملية السياسية السلمية. وقمنا بإصدار الدراسة وتسليمها بعد الموافقة عليها ومرورها على عمليات تحرير وصياغة أثّرت على اللغة الأصلية المستخدمة فيها دون أن تؤثر كثيرا في جوهرها.
وقبل نشرها، أثار اللوبي الصهيوني حملة كبيرة جدا على هذه الدراسة، وكان جورج بوش الابن هو الرئيس الأميركي في ذلك الوقت. لذلك، وبعد مرورها على جميع مراحل الموافقة والتحرير، جاء قرار بعدم نشرها. لكن بعد مجيء باراك أوباما للبيت الأبيض، قرر معهد السلام الأميركي نشر الدراسة التي صدرت بعنوان: "حماس.. تشنج أيديولوجي ومرونة سياسية" (Hamas: Ideological Rigidity and Political Flexibility) في الأول من يونيو/حزيران 2009 وأُجري حولها منتدى نقاشي، شارك فيه سياسيون مرموقون على صعيد السياسة الأميركية".
صاحَبَ نشر الدراسة وإقامة المنتدى حملة تشويه ضخمة، إذ عدّوا هذه الورقة اختراقا بوصفها ترويجا لحماس. ويقول أسامة أبو ارشيد: "وصموني أنني تابع لحماس، وهذا كذب، ولم يروا أن الذي شارك معي في الدراسة هو يهودي يحمل الجنسية الإسرائيلية. كما أن حضور هذا الأكاديمي (بول شام) في الأروقة السياسية والبحثية الأميركية له وزن أكثر ثقلا من وزني الأكاديمي، نظرا لعلاقاته وحضوره الممتد في الأكاديميا الأميركية".
ورغم التعديلات الكثيرة على اللغة الأصلية للدراسة، فإن ما أثار غضب "اللوبي الصهيوني" كما يصف أبو ارشيد، هو أن الدراسة أخذت اتجاها يُفضي بأن حركة حماس هي "حركة سياسية عاقلة ولاعب سياسي يتحرك وفق المنطق السياسي الدولي، وهو ما استند على معلومات ووثائق الحركة الرسمية، وعبر تحليل لقرارات الحركة السياسية طوال السنوات التي سبقت الدراسة، دون أي انحياز".
منذ تلك اللحظة، بدأت الحملة تستهدف أبو ارشيد بشراسة، ومع نهاية عام 2010 كان قد وُضع على قوائم الترقب.
طبقات من "الكيد"
"الولايات المتحدة الأميركية تؤمن باستثنائيتها، أي بتفوق الأمة الأميركية على أي أمة أخرى، ولكن هذا أمر لا يدعمه الحقائق أو التاريخ".
- تسيانينا لوماوايما (Tsianina Lomawaima)
رئيس برنامج الدراسات الهندية-الأميركية بجامعة أريزونا
يقول أبو ارشيد: "انتبه "اللوبي الصهيوني" إلى تصاعد الصوت الفلسطيني وتأثيره في التحولات التي يشهدها المجتمع الأميركي. وهنا جاء الدور على مؤسسة "أميركيون مسلمون لأجل فلسطين"، وذلك عائد إلى أن المؤسسة انتقلت من المناصرة التعليمية ناحية إطلاق يوم سنوي معنيّ بالتحشيد السياسي لأجل فلسطين، وهو يوم المناصرة (Advocacy) لفلسطين في الكونغرس بمجلسيه. كان العام 2015 بداية انطلاق هذه الفكرة التي تتشابه مع ما تقوم به منظمة الآيباك عبر إطلاقنا مؤسسة سياسية هي "أميركيون من أجل العدالة في فلسطين""، التي يرأسها أبو ارشيد أيضا.
ويضيف: "نقوم في هذا اليوم بجلب مجموعة مختلفة ومتنوعة من جميع الأطياف المناصرة لفلسطين، سواء من اليهود، أو اللاتينيين، أو العرب، المسلمين، أو الفلسطينيين الأميركيين، وكل مَن له قدرة على القدوم إلى واشنطن، إذ نعمل على استضافتهم، ثم أخذهم إلى الكونغرس بقائمة من الأجندة والقضايا التي نطالبهم بالمدافعة عنها والمناصرة لها عبر اللقاء مع الممثلين في مجلسي النواب والشيوخ".
صاحب هذا التقدم على مستوى خطاب المؤسسة وتأثيرها في الأوساط الأميركية تطور مضاد على صعيد القضايا التي استهدفت المؤسسة. يوضح أبو ارشيد: "هذه المرة كان الاستهداف مبنيًّا على قضية بلا أسس -كيدية- من قِبَل اللوبي الإسرائيلي، حيث أقنعوا عائلة شاب إسرائيلي، اسمه ديفيد بويم (David Boim) برفع قضية على مؤسستنا عام 2017. هذا الشاب قُتل في شهر أبريل/نيسان عام 1996 في إحدى المستوطنات في الضفة الغربية، وقالوا إن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تبنت العملية في ذلك الوقت".
هذا الشاب أميركي يهودي يحمل الجنسية الإسرائيلية. في عام 2000، أي بعد أربعة أعوام من مقتله، قامت عائلته بدعم من "منظمات صهيونية" برفع دعوى على عدد من المؤسسات الأميركية الإسلامية البحثية والسياسية والخيرية، مثل مؤسسة الأرض المقدسة (هولي لاند فاونديشن)، ومؤسسة الدراسات والبحوث، وعدد من المؤسسات الأخرى. كانت فحوى تلك القضية أن هذه المؤسسات شريكة في جريمة قتل "بويم"، بحجة دعمهم لأجندة حماس في الولايات المتحدة، وأن مؤسسة الأرض المقدسة (هولي لاند فاونديشن) كانت ترسل أموالا لعائلات تنتمي إلى حماس، بحسب زعمهم.
وببحث سريع حول تلك الحادثة على المواقع الإلكترونية الأميركية، فقد عنونت أكثر من صحيفة "أميركية" تلك الحادثة بـ"الضحية الأميركية الأولى لحماس". وبمزيد من البحث، تستطيع أن تلحظ استدعاء عدد من المواقع الصحفية لتلك الحادثة للتحذير من خطر المؤسسات العاملة لفلسطين داخل أميركا اليوم. فهل ثمة ما يفوق في إثارته من استدعاء حادثة تاريخية التصقت بمنظمة فلسطينية للتحذير من الخطر الرابض والجاثم هنا: أي في قلب بلاد الحريات؟ وهل ثمة تفسير أسهل وأكثر نمطية من إلصاق هذا الحجم من المظاهرات الداعمة لفلسطين بالمؤسسات العاملة لفلسطين؟
تبدو المؤامرة مكتملة الأركان، والتهديد بات اليوم متغلغلا في البلاد التي يقف تمثال حريتها على شواطئ نيويورك مؤذنا بحمله شعلة الحرية والليبرالية للعالم أجمع. كل هذه الرمزيات تمتزج لتخلق فانتازيا العدو التي صُنعت بإتقان: مَن قتل الأميركي "بويم" بالأمس هو مَن أسر الرهائن اليوم.. ومَن يعلم ما الذي سيفعله غدا؟
كانت تبعات قضية مؤسسة الأرض المقدسة كبيرة في المحاكم الأميركية. وبسبب أحداث سبتمبر/أيلول 2001، وما تبعها من سُعار إعلامي وأمني على المسلمين، استهدفت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش المؤسسات المسلمة هناك، والقضايا التي رُفعت في وقت سابق أخذت زخما سرّع من وتيرة الحكم عليها.
أُغلقت "هولي لاند فاونديشن" بقرار حكومي مباشر عام 2001، بينما أغلق "الاتحاد الإسلامي لفلسطين" أبوابه عام 2004 -المؤسسة التي كان أبو ارشيد موظّفا فيها- اضطرارا وطواعية، نظرا لعدم امتلاكها الأموال الكافية للدفاع عن نفسها أمام سيل القضايا القانونية، بقضايا بلغ مجموعها 156 مليون دولار.
لم تقف القصة هنا. ففي عام 2017، قامت العائلة ذاتها بإعادة رفع الدعوى ذاتها على مؤسسة "أميركيون مسلمون لأجل فلسطين"، التي تأسست عام 2006، حيث ادعت أن هذه المنظمة (أميركيون مسلمون لأجل فلسطين) هي "انعكاس المرآة للمنظمات ذاتها التي أُغلقت على إثر تلك الدعوى"، مثل الاتحاد الإسلامي لفلسطين.
يضيف أبو ارشيد: "قالوا إن هذه المؤسسة استمرار لتلك، وبالتالي طالبونا بدفع مبلغ 156 مليون دولار التي لم يتحصّلوا عليها في المرة الأولى. إضافة إلى ذلك، لم يكتفوا برفع الدعوى على المؤسسة، بل رفعوا دعاوى شخصية على شخصي واثنين آخرين أتحفّظ على ذكر أسمائهم مراعاةً لخصوصيتهم".
ويكمل: "عَنَت تلك الدعوى تجميد جميع الأصول التي أمتلكها وعدم قدرتي على بيعها أو نقل ملكيتها، مثل السيارة والمنزل، على اعتبار أنها من الأصول التي يمكن الاستحواذ عليها في حال خسارة الدعوى لتكون جزءا من تلك الـ156 مليون دولار التي يطالبون بها".
لكن تلك الدعوى لم تستند إلى أي حقيقة. فلم يكن أبو ارشيد من المؤسسين للمنظمة، ولم ينضم إليها إلا عام 2010، ولاحقا تولى قيادتها في 2019.
ومنذ عام 2017، كسب أبو ارشيد وفريقه 3 جولات، حيث استبعده القاضي من الدعوى على اعتبار أنه لم يكن موجودا في أميركا حين قُتل ديفيد بويم عام 1996. كما أنه لم يعمل في الاتحاد الإسلامي لفلسطين إلا عام 2000. لكن القضية بقيت متصلة بالمؤسسة، يقول أبو ارشيد إن "الجهات الصهيونية المحرّكة للقضية لم تستسلم"، وأعادت القضية من محكمة الاستئناف مع تعديل لائحة الاتهام، إذ نُحي اثنان من الثلاثة المتهمين، وأُبقي على اتهام المؤسسة وشخص آخر من خارج المؤسسة.
وبالبحث، اكتشف المحامون أن إحدى تلك المنظمات التي قادت الحملة على مؤسسة "أميركيون مسلمون من أجل فلسطين" تعمل بشكل رئيسي على محاربة المنظمات الداعية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية. أما استهداف المؤسسة التي يرأسها، كما يقول أبو ارشيد، فهي محاولة لتكون عبرة ومثالا لجميع المنظمات الأخرى العاملة لأجل فلسطين.
لم تكن تلك نهاية القصة، فتبعات الاستهداف الممنهج كما يصفه أبو ارشيد امتد لحقِّه بالحصول على الجنسية الأميركية. يقول: "كنت مستحقا للجنسية منذ عام 2006، لكن حصلت عليها عام 2017، ولم آخذها إلا حينما قمت برفع دعوى عام 2015 على الحكومة".
فبعد أن رُفع الأمر للقاضي الذي اطلع على كل تفاصيل الرفض والتعنت، سحبت الحكومة بصورة مفاجئة اعتراضها على نيل أبو ارشيد للجنسية الأميركية. كانت النتيجة أنه حصل عليها يوم 11 سبتمبر/أيلول 2017، "وأنا اسمي أسامة، في دلالة عميقة على المفارقات في الولايات المتحدة".
ما بين عام 2010-2017، لم يستطع أبو ارشيد ركوب طائرة من ولاية لأخرى دون تفتيش وتعطيل وتحقيق. أما إذا أوقفه شرطي أثناء قيادته للسيارة، "يأتيني 6 أفراد بأسلحتهم من كل جانب"، وبقي على هذه الحال سبعة أعوام.
يقول أبو ارشيد إنه عاش معاناة كبيرة، وضاعت منه فرص عمل كثيرة داخل أميركا وخارجها. "في إحدى المرات، أوقفوا زوجتي وبناتي حينما كانوا صغارا لأن السيارة التي كانوا يقودونها كانت مسجَّلةً باسمي"، وكان الاستهداف على كل المستويات، قضائيا عبر دعاوى كيدية، وأمنيا عبر تحريض الحكومة الأميركية ضدي.
أما عمّن يقف وراء تلك الدعاوى، فقد أجرت الجزيرة الإنجليزية تحقيقا للكشف عمن يقف وراء هذه الحملات. جوناثان شانزر (Jonathan Schanzer)، وهو المحلل السابق لشؤون تمويل الإرهاب في وزارة الخزانة الأميركية، الذي يقول أبو ارشيد إنه ذكر مسألة جنسيته ثلاث مرات أمام مجلسي النواب والشيوخ عام 2015 لمنعه من الحصول على الجنسية الأميركية. الآن، يقود شانزر الحملة ضده بعد السابع من أكتوبر، وهو يُمثِّل تيارا أوسع من داعمي إسرائيل الذين يُسخِّرون أوقاتهم وأموالهم لمحاربة النشاط المؤيد لفلسطين في الولايات المتحدة.
جوناثان شانزر على برنامج د. فيل (Dr.Phil)، يعيد تكرار المزاعم ذاتها حول علاقة أبو ارشيد بقضية بويم ومن ثم علاقته بحركة حماس.
في المقطع أعلاه، يجلس المذيع الأميركي الشهير، والمعروف بتأييده الشديد لإسرائيل، د. فيل "مقدما محايدا"، ليسأل جوناثان شانزر عمّن يموِّل مظاهرات الطلاب. توضع صورة لأبو ارشيد مع شعار حماس، كرأس لهذا الحراك الذي "فاجأ" الجميع، وتُستدعى مع استدعاء صورته القضايا الفائتة جميعها. يعرض فيل على الشاشة زيارته لإسرائيل بعد السابع من أكتوبر، ومشاهدته لقصص "مروعة" للمستوطنين. بينما يومئ شانزر برأسه متأسفا، ليكتمل المشهد بعرض المخرج لصورة قريبة (Close-Up Shot)، وهو نوع من اللقطات التي تؤخذ عادة لإبراز المشاعر، لامرأة من الحضور ممسكةً برأسها من هول ما تسمع!
يستحضر هذا المشهد مقولة لأستاذ العلوم السياسية علي مزروعي الذي قال: "العالم يؤمرك ثقافيا، في حين تأبى أميركا أن تتأنسن أخلاقيا". فالرئيس هاري ترومان لم يتقلب في فراشه أرَقًا بسبب المدنيين اليابانيين حين أمر بإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي، وهو الذي قال في الخطاب الذي ألقاه يوم إلقاء القنبلة الذرية الثانية على ناغازاكي: "نشكر الله لأنها (القنبلة الذرية) كانت من نصيبنا، لا من نصيب أعدائنا. ونحن ندعو الله أن يرشدنا لكي نستخدمها فيما يُرضيه ومن أجل تحقيق أهدافه". لا يختلف الحال كثيرا مع سياسيي اليوم، الذين لم يؤرقهم قتل 40 ألف فلسطيني بأسلحة ودعم سياسي ودبلوماسي أميركي غير محدود لأكثر من تسعة أشهر.
عوّدت هذه "الأمركة الثقافية للعالم" الالتفات لـ"الإرهاب" بوصفه فعلا لجماعات دون الدولة، عوضا عن أن تفحص الإرهاب بوصفه مصطلحا سياسيا ضمن منظومة الحرب الثقافية، ودون أن تُعرّف الإرهاب في سياق الأثر الذي تُخلِّفه عوضا عن الفاعل الذي يقوم به. دفع ذلك علي مزروعي للقول: "إرهاب الدولة هو الذي ينجو عادة من الفحص الأخلاقي الدقيق".
لكن كل ما سبق أخذ أبعادا أكثر شراسة بعد السابع من أكتوبر، ولم يعد خاضعا للمنطق السابق ذاته، ولا للأسلوب ذاته. هنا، وجد الداعمون لإسرائيل الوضع ملائما لاجتثاث أي صوت يدافع عن الحقوق الفلسطينية داخل الولايات المتحدة، وصاحب ذلك ردة فعل عنيفة تجاه الطلبة، وتجاه عدد من الأكاديميين، والمؤسسات العاملة لفلسطين.
إذا لم تستطع مواجهته بالمنطق.. شيطنه!
كان كل ما سبق قبل السابع من أكتوبر، قبل الطوفان الذي وصلت أمواجه إلى الضفة الأخرى من الأطلسي. فمنذ ذلك الوقت، رُفعت 8 قضايا مدنية "كيدية" ضد أبو ارشيد ومؤسسته. كانت أول قضية من نصيب المدعي العام لولاية فيرجينيا والعضو في الحزب الجمهوري جيسون مايرز (Jason Miyares)، وهو ما يوازي وزير العدل على مستوى الولاية، الذي سافر لإسرائيل في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الفائت، وحينما عاد إلى أميركا، أعلن فتح تحقيق ضد المؤسسة بتهمة تمويلها للإرهاب، وفي اليوم ذاته وصلت أبو ارشيد مذكرة الدعوى.
وبالتزامن مع ذلك، بدأت تصل أبو ارشيد وغيره من موظفي المؤسسة تهديدات بالقتل والعنف، يقول أبو ارشيد: "وصلتني رسالة على هاتفي تهددني بالقتل بمجرد دخولي للمنزل"، لكن المفاجأة أنه "حينما اتصلت بالشرطة، لم يحضروا إلا بعد مرور أكثر من ساعة".
كما تواصل أبو ارشيد مع قسم الحقوق المدنية في وزارة العدل بشأن تلك التهديدات، ورغم وعود تلقاها بالتحقيق في المسألة، لم ترجع إليه السلطات بأي معلومة جديدة حتى نشر هذه السطور. ولا تزال التهديدات بالعنف تصل إلى "أميركيون مسلمون من أجل فلسطين". وحتى الآن، يقول أبو ارشيد: "لم أعد أسكن مع عائلتي، حيث اضطررت لأطلب منهم الانتقال إلى ولاية أخرى، كما أنني لا أسافر معهم في المطارات خشية استهدافهم".
لم تمر أسابيع بعد التهديدات حتى استقبلت المنظمة دعاوى من عائلات أميركية تحمل الجنسية الإسرائيلية ولهم أقارب من المستوطنين والجنود الذين تضرروا مما جرى يوم السابع من أكتوبر، إضافة إلى قضيتين أخريين تزعمان أن مؤسسة أبو ارشيد ومنظمات أخرى، بما فيها منظمة "كود بينك" التي يقودها يهود أميركيون، كانوا على علم مسبق بما جرى في السابع من أكتوبر! وتطالب الدعاوى بمئات الملايين من الدولارات تعويضا، وهو ما يضع كل ممتلكات أبو ارشيد وغيره من النشطاء تحت تهديد المصادرة في حال خسارة تلك الدعاوى الكيدية.
"ما شاهدته منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا من أشرس ما رأيته في حياتي". هنا يعود اسم جوناثان شانزر للظهور مرة أخرى، إذ زادت وتيرة تحركاته عقب الحراك الطلابي الذي اشتعل في ربوع أميركا، حيث قام أبو ارشيد بإلقاء كلمات مؤيدة لحراك الطلاب في جامعة كولومبيا وجامعة جورج واشنطن وغيرها من الجامعات.
لقد حاول الإسرائيليون وداعموهم في الولايات المتحدة أن يصنعوا وجها يتهمونه بالوقوف وراء حراك الطلاب من أجل شيطنة الدعم الهائل الذي حصلت عليه القضية الفلسطينية بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة، وكان أبو ارشيد هذا الوجه! "فأثناء مشاركتنا في إحدى التظاهرات أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، مرت شاحنات متنقلة تحمل صورنا، وتعرض صورة كُتب عليها "أميركيون مسلمون لأجل حماس"، وتحرّض ضدنا بصورة وحشية وقذرة".
ومع سيل الاتهامات، تنضم جهات منظمة داعمة لإسرائيل، فبالإضافة إلى د. فيل، أجرت قناة "فوكس نيوز" تحقيقات حول التبرعات المالية التي قدمها أبو ارشيد لأعضاء في الكونغرس، وهو تحقيق ستشعر معه وكأن أبو ارشيد عمل على شراء ولاءات أعضاء الكونغرس الأميركيين، في حين أن مجموع تبرعات أبو ارشيد لم تتجاوز ثلاثة آلاف دولار على مدار سنوات كما يقول. كذلك ظهر أبو ارشيد على الصفحة الأولى من صحيفة "أميركا اليوم" (USA today)، وكل ذلك في هجوم منسق ومتزامن.
ورغم وهن الادعاءات والقضايا الكيدية التي يُتهم بها أبو ارشيد، فإن أحد جوانبها هو الاستنزاف، إذ "تستهلك هذه الدعاوى من وقت وجهد ونفسية وأموال المدّعى عليه". ونظرا لطبيعة النظام القضائي الأميركي وإجراءاته الطويلة والمعقدة، فإن الدعوى قد تأخذ في المحاكم سنوات حتى يُبت فيها، كما أن داعمي إسرائيل جاهزون لتغيير بعض بنود الدعوى بعد البت في حكمها الأول، ومن ثم إعادة رفعها وفتحها مرة أخرى.
يقول أبو ارشيد مستاءً: "بينما نحن على الطرف الآخر، لا نمتلك الإمكانيات ذاتها، ولولا أن ثمة مؤسسات تدافع عن قضايانا دون مقابل، وإلا أفلسنا جميعا منذ مدة، وهذا هو الهدف".
خلص داعمو إسرائيل إلى نتيجة مفادها أن رفع مستوى الوعي حول القضية الفلسطينية هو الذي يقود إلى تراجع شعبية إسرائيل، وعلى أساس ذلك يزداد الهجوم شراسة، وبدل مقارعة الحجة بالحجة يلجؤون إلى تشويه الطرف المقابل لهم.
في شهر مايو/أيار الماضي، وحينما كان أبو ارشيد يتوجه للسفر في المطار، وجد نفسه مرةً أخرى على قائمة الترقب، وهي القائمة ذاتها التي أُزيل اسمه منها عام 2017. وحينما استفسر من أمن المطار عن السبب، "أشاروا لما يُثار حولي في وسائل الإعلام والكونغرس".
ويضيف أبو ارشيد: "أخبرتهم أني لم أكن أعلم أن الحكومة منحازة لطرف على حساب آخر، وأن الدعاوى المرفوعة هي قضايا مدنية لم يُبت فيها، فكيف تصبح الحكومة الأميركية طرفا في مواجهة مواطن أميركي لم يثبت عليه أي اتهام؟ لكن لم يستجب ولم يسمع أحد".
ما يحدث مع أبو ارشيد يعزز من نتيجة توصل إليها الداعمون لفلسطين في الولايات المتحدة، فالعدالة على المستوى التنفيذي، وليس على المستوى القضائي، باتت منتفية. تماما كفصل الطلاب، والأساتذة الجامعيين، والاعتداء عليهم. ومن ذلك ما حصل في مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا، من الاعتداء على المخيم الطلابي من قِبَل مجموعة من المناوئين للمظاهرات الفلسطينية، بمساعدة الشرطة، فلأول مرة يمكن ملاحظة هذه الصلافة في انتهاك الحقوق الدستورية الأساسية للأميركيين من قِبَل الشرطة مثل الحق في التعبير.
وهذا ما قاله أبو ارشيد للعميل الفيدرالي الذي التقاه في المطار: "أخبرته أنني اخترتُ أن أصبح أميركيا بإرادتي، وليس بالولادة. اخترتها لما كانت تمثله أميركا من صورة ومثال في حرية التعبير، وحرية الاعتقاد، وحرية التجمع، وحرية الممارسة الصحفية. وعلى اعتبار أنني كنتُ صحفيا، وأُستهدف لآرائي خارج أميركا، وإذا تجمّعنا نُعتقل، وإذا تحدثنا نُعتقل. أتيت إلى أميركا لأجل هذه الحقوق، لكننا اليوم نكتشف أن هذه القيم لا تنطبق علينا. فإذا عارضنا الخط الرسمي للدولة، نُشوَّه ونُهاجم تماما مثل ما يحدث في الديكتاتوريات".
أبو ارشيد ليس الوحيد، حيث يقول "إنما أنا حالة من آلاف الحالات". وبالنظر للسياق الأوسع، فقد هدد المحامي الأميركي آلان ديرتشويتز (Alan Dershowitz) في خطاب واضح للمتظاهرين الداعمين لفلسطين: "سوف نعرف مَن أنتم، وسنصل إليكم، ونذهب بكم إلى المحاكم حتى تصمتوا جميعا".
أما ديرتشويتز هذا فقد كان يدرس القانون في جامعة هارفارد، وقام بتدريس الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وهو أحد مَن ذُكر اسمهم في تسريبات فضائح جزيرة جيفري إبستين، لكن الإعلام لا يلتفت كثيرا لجرائمه والادعاءات ضده، رغم اتهام طفلة عمرها 13 عاما له باغتصابها.
واليوم، لم يعد خوف المؤيدين لفلسطين محصورا في المتطرفين، بل إن القلق يشمل حتى الشرطة، إذ يمكن لمخالفة مرور صغيرة في الشارع أن تتطور لأكثر من ذلك، إذا ما كان هناك شرطي غير متزن تصرف دون تفكير ومن منطلق عنصري في حال رأى اسم الموقوف على قوائم الترقب، وفسر أي حركة طبيعية على أنها تهديد لأمنه الشخصي، ما قد يبرر استخدام العنف! وعلى خلفية الاستهداف الحكومي غير المبرر، فإن أبو ارشيد في طور رفع قضية على الحكومة الأميركية الآن بسبب التعدي على حقوقه الدستورية والمدنية.
رغم ذلك، يقول أبو ارشيد، مثل ما أن تاريخ أميركا حافل بالعنصرية والتجاوز على الحقوق الدستورية وانتهاك الحريات المدنية لمواطنين، على أساس خلفياتهم العِرقية أو السياسية، فإن الدرس الأهم هو أن تلك الحقوق والحريات لا تُصان إلا عبر نضال مدني سلمي. هذا ما تُثبته تجربة السود الأميركيين الذي عانوا من العبودية والاضطهاد لقرون طويلة، والأمر ذاته ينسحب على اليابانيين والألمان الأميركيين الذين عانوا تمييزا واستهدافا ممنهجا خلال الحرب العالمية الثانية.
الأمر نفسه يقال عن مرحلة "المكارثية" في الولايات المتحدة، في خمسينيات القرن الماضي، التي استُهدف بها سياسيون وفنانون ومفكرون أميركيون بشبهة أنهم شيوعيون أو أنهم متعاطفون معها.
وفي العقود الثلاثة الماضية، أصبح العرب والمسلمون الأميركيون هم هدف حملة التمييز والاستهداف في أميركا، ومستقبل الحقوق الدستورية الأميركية والحريات المدنية يعتمد على كيفية التصدي لها، وعلى كيفية تجاوب الرأي العام الأميركي مع مطالباتهم، ذلك أن أي انتقاص من حقوق أقلية ما ينتهي به المطاف للانتقاص من حقوق الأميركيين وحرياتهم المدنية عموما.
الأهم من ذلك أنه مهما بلغ حجم الضغوط والاستهداف والتشويه، يقول أبو ارشيد: "لن نتخلى، كوننا أميركيين، عن رفض السياسات الخارجية الظالمة التي تتبناها الولايات المتحدة"، وعلى رأسها دعم الساسة الأميركيين لدولة فصل عنصري تمارس الإبادة الإنسانية، "وسنبقى نناضل حتى نغير ذلك السلوك المخزي الممارس باسمنا نحن المواطنين، وحتى تغيير السياسة الخارجية الأميركية وجعلها أكثر عدلا وتوازنا".
تلخص قصة أبو ارشيد تحوُّل واشنطن في تعاطيها مع الحريات، فالأميركي يتمتع بحرية التعبير إلى أن يتظاهر ضد حرب إبادة تمولها واشنطن، ليصبح المتظاهرون ضد إسرائيل "ممولين ذوي أجندات خارجية"، ويصبح المعادون للفصل العنصري "تهديدا للأمن القومي الأميركي".
يبدو الحال، كما يقول المفكر الأميركي بيري أندرسن، أن أميركا لم تعد معجبة بتفوقها وبقيمها، بل باتت تنحو أكثر نحو القبول بالواقع تفاديا للأسوأ. أما الأسوأ، فيحدده أصحاب المصلحة والمال والنفوذ، وأما القيم، فتوظَّف بحسب السياق والمرحلة. أما أبو ارشيد ورفاقه، فسيستمرون في مقاومتهم لاستثنائية إسرائيل، التي ما دامت مستمرة، فلن تستطيع واشنطن إقناع أحد بـ"الاستثنائية الأميركية"، لا خارج حدودها، ولا حتى بين مواطنيها.