"توبوليف باك دا".. هل تهدد القاذفة الشبحية الروسية التفوق الجوي الأميركي؟
حتى نهاية عام 2022 تقريبا، اعتقد المسؤولون في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن روسيا لا تمتلك الخبرة الكافية أو الموارد اللازمة لإنتاج قاذفة شبحية إستراتيجية في وقت قريب، رغم إعلانها أنها تمتلك مشروعا متطورا لإنتاج واحدة. والقاذفات هي نوع خاص من الطائرات المقاتلة ليس مصمما للاشتباكات الجوية بقدر ما هو مجهز لاختراق دفاعات العدو وتدمير الأهداف الإستراتيجية، ويشير وصف القاذفات "بالشبحية" إلى قدرتها على التخفّي من الدفاعات الجوية المتقدمة، في حين يُلمح وصف "إستراتيجية" غالبا إلى قابلية هذه القاذفات لحمل أسلحة نووية.
رغم ذلك لا يمكن أخذ توقعات الأميركيين بشأن قدرات الروس بأنها مسلّمة، إذ غالبا ما تقع في فخ التحيز والإحساس الدائم بالتفوق، وهو ما تسبب في إخفاق واشنطن غير مرة في توقع قدرة موسكو على تحديث قدراتها العسكرية. فمع تصاعد حدة التوترات في الحرب الروسية على أوكرانيا، بثت مواقع عسكرية في مطلع أغسطس/آب الفائت معلومات تفصيلية عن القدرات التكنولوجية لأحدث قاذفات الجيل السادس الروسية، التابعة لبرنامج "باك دا"، والتي من المتوقع أن تحل محل اثنين من قاذفات موسكو الرئيسة، هما "تو-160″ (Tu-160) الملقبة بالبجعة البيضاء (White Swan)، و"تو-95 إم إس" (Tu-95MS) الأقدم التي دخلت الخدمة العسكرية عام 1956.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsجون هاغي.. القس الأميركي الذي يدفع نحو الحرب العظمى باسم المسيح
قبل ذلك كشفت وكالة الأنباء الروسية (تاس) في ديسمبر/كانون الأول 2023 أن موسكو شرعت فعليا في إنشاء قاعدة لاختبار القاذفة "باك دا" التي من المقرر أن تخوض أولى رحلاتها عام 2025، على أن يبدأ الإنتاج التسلسلي للقاذفة عام 2027، وذلك ما يدفعنا إلى التساؤل عن إمكانات القاذفة الروسية الجديدة ومدى قدرتها على منافسة القاذفات الأميركية المتطورة، وفي مقدمتها قاذفة "بي-2 سبيريت" التي يعتمد عليها الجيش الأميركي حاليا، والقاذفة "بي-21" رايدر المقرر أن تدخل الخدمة في غضون سنوات، وكلتاهما من إنتاج عملاق الصناعات العسكرية الأميركي "نورثروب غرومان".
قاذفة موسكو "الشبحية"
تعد القاذفة "باك دا" أخطر سلاح روسي قيد التطوير حقيقة لا مجازا، إذ صُممت لتكون المنافس للقاذفة الشبحية "بي-21 رايدر" (B-21 Raider) المُنتظر أن تصبح القاذفة الرئيسة للقوات الجوية الأميركية خلال العقود الثلاثة المقبلة. وعلى الرغم من حداثة التطورات الجدية حول "باك دا"، فإن تاريخ المشروع يعود إلى تسعينيات القرن الماضي عندما سعى الكرملين أول مرة لتطوير قاذفة شبحية إستراتيجية، غير أن تمويل البرنامج لم يبدأ فعليا إلا في عام 2008، بينما لم يُعلَن عن القاذفة "باك دا" على مستوى رسمي إلا في عام 2019، عندما أعلن نائب وزير الدفاع الروسي آنذاك أليكسي كريفوروتشكو الموافقة على مشروع تصميم قاذفة شبحية إستراتيجية من الجيل السادس، مزودة بأسلحة فرط صوتية.
بدأ العمل على إنتاج النموذج التجريبي الأول للقاذفة في العام التالي مباشرة (2020)، وحملت الاسم الرمزي "المنتج رقم 80" أو "Poslanik"، الذي يعني بالروسية (المبعوث أو الرسول)، وأُسندت مهمة تصميم القاذفة وإنتاجها إلى شركة "توبوليف" ( (Tupolevالروسية التي أُسّست قبل أكثر من قرن (عام 1922) وصممت أسطول روسيا التاريخي من القاذفات الثقيلة بأكمله.
وقد استوحي الروس تصميم "باك دا" من منافستها الأميركية الأقدم "بي-2 سبيريت" (B-2 Spirit)، خاصة في شكل الجناح المدمج مع جسم الطائرة، كما يميز القاذفة الروسية غياب وجود تكوينات بارزة وهو ما جعل التصميم شبحيًّا بامتياز. كذلك، زودت موسكو القاذفة "باك دا" بأجهزة كمبيوتر متقدمة قادرة على التحكم في الطيران ومراقبة تحركات العدو، مع تجهيزها بأنماط الطيران من دون طيار، وأحدث أنظمة الاتصالات والحرب الإلكترونية، وذلك ما يمنحها القدرة على شن هجمات إلكترونية.
يبلغ وزن القاذفة عند الإقلاع 145 طنًّا، ويشمل ذلك حمولة تزن 30 طنًّا من الذخائر النووية والتقليدية، وقد صممت لتكون قاذفة إستراتيجية بعيدة المدى، إذ يصل مداها إلى 12 ألف كيلومتر، كما أنها قادرة على البقاء في الجو 30 ساعة. أما في ما يتعلق بسرعة "باك دا"، فمن المرجح أن تطير بسرعة تحت صوتية (أقل من سرعة الصوت)، وذلك لأن القاذفات ذات المدى البعيد تركز على ميزات التخفي أكثر من السرعة، وهو ما يمنحها أيضا القدرة على حمل وزن أكبر من الذخائر.
تشير التقديرات أيضا إلى أن القاذفة الروسية بإمكانها حمل ما يصل إلى 12 صاروخا، على رأسها صواريخ كروز من طراز Kh-BD"" قيد التطوير، والتي يبلغ مداها الأقصى 6500 كيلومتر، بالإضافة إلى صواريخ "كينجال" ((Kinzhal الباليستية الفرط صوتية المعروفة باسم "الخنجر" نظرًا لقدرتها على إصابة الأهداف بدقة عالية. وتمتاز صواريخ "كينجال" بمدى يصل إلى 3 آلاف كيلومتر، وقابلية حمل رؤوس نووية أو تقليدية، وتبلغ سرعتها 14 ألفا و800 كيلومتر في الساعة. ومن المقرر أن تتمتع "باك دا" أيضا بخاصية تخفيض المقطع العرضي للرادار (RCS)، إلى جانب استخدامها لمواد ممتصة لترددات الرادارات، وذلك مما يعزز قدراتها في التخفي ويجعلها قادرة على اختراق المجال الجوي دون أن تكتشفها رادارات العدو.
"باك دا" في مواجهة "بي-21 رايدر"
إبان الحرب الباردة، أدى ظهور القاذفة الأميركية "بي-2 سبيريت" (B-2 Spirit) إلى تغيير قواعد اللعبة، إذ قُدّمت إلى العالم بوصفها أول قاذفة إستراتيجية شبحية قادرة على حمل أسلحة نووية، ولا يمكن لأجهزة الرادار الكشف عنها، وهو ما أسهم في تكريس هيمنة الولايات المتحدة على المجال الجوي، بعدما أصبحت الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك هذا النوع من القاذفات القادرة على التخفي.
لكن المفارقة الأبرز في هذا الصدد تكمن في أن الفضل في اكتشاف خصائص التخفي التي استخدمت في الأسلحة الأميركية طوال عقود يعود بالأساس إلى علماء روس. فقد كانت أبحاث العالم الفيزيائي الروسي بيتر أوفيمتسيف، التي ترجمت إلى الإنجليزية، هي حجر الأساس الذي بنى عليه مهندسو شركة "لوكهيد" (Lockheed) الأميركية نظرياتهم المتعلقة بانكسار الموجات الكهرومغناطيسية الخاصة بالرادار، وهو ما أسهم بالنهاية في تفوق الولايات المتحدة على مستوى العالم في تقنيات التخفي. وكانت طائرة "إف-117 نايت هوك" ( (F-117 Nighthawkالتي دخلت الخدمة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي نتاج هذا الجهد كأول طائرة شبحية مقاتلة.
يدعونا ذلك إلى الإشارة سريعا إلى الفوارق الرئيسة بين الطائرات المقاتلة والقاذفات الإستراتيجية، فعلى الرغم من أن كلا النوعين ينتمي إلى مصاف الطائرات العسكرية، فإن كلا منهما يلعب دورًا مختلفًا في الحروب والصراعات. وغالبا ما تتسم المقاتلات بسرعة أكبر ومدى أقل، وهي مصممة بالأساس لخوض معارك جوية مع طائرات العدو، ولهذا تتمايز المقاتلات عن بعضها من خلال الأداء العالي والسرعة والقدرة على المناورة. أما القاذفات فهي مصممة للقيام بمهام الاختراق العميق للمجال الجوي للعدو وتدمير الأهداف العالية القيمة، وتستخدم لإضعاف القوة القتالية للخصوم، إلا أنها أقل قدرة على القيام بالمناورات الجوية.
كما أن مصطلح "القاذفات الإستراتيجية" عادةً ما يشير إلى القدرات النووية كما ذكرنا آنفا، ولهذا تشكل القاذفات الإستراتيجية جزءًا من الثالوث النووي بجانب الصواريخ الباليستية البرية والبحرية. وهكذا، تتسلح القاذفات غالبا بمدى أطول (حتى لو جاء ذلك على حساب السرعة)، كما تمنحها تكنولوجيا التخفي ميزة إضافية تمكنها من الهيمنة على المجال الجوي دون التعرض لمخاطر الكشف عبر الرادارات المتطورة.
لا تزال القاذفة "بي-2 سبيريت" التي يمتلك الجيش الأميركي 21 قطعة عاملة منها هي القاذفة الرئيسة لسلاح الجو الأميركي ومن المقرر أن تظل في الخدمة حتى عام 2040، لكن واشنطن تخطط بنشاط لاستبدالها لمصلحة نسخة أكثر تطورا. وفي عام 2021، أعلنت الولايات المتحدة عن القاذفة الإستراتيجية الجديدة من الجيل السادس "بي-21 رايدر" والتي من المرجح أن تدخل الخدمة في غضون سنوات قليلة، وهو ما جعل موسكو تسابق الزمن لتطوير القاذفة "توبوليف-باك دا" لتجنب اتساع الهوة الجوية مع المنافس الأميركي، رغم الصعوبات والتكاليف الكبيرة التي ينطوي عليها المشروع.
وعند مقارنة القاذفة الروسية بنظيرتها الأميركية، نجد أن "باك دا" تتفوق بحمولة أثقل من الذخائر، إذ تقلع "بي-21" بحمولة أخف تصل إلى 15 طنًّا، وهو ما يعد ميزة لمصلحة الروس وعيبا في الوقت ذاته، لأن الحمولة الأثقل تعيق أداء القاذفة وتقلل من فاعليتها الشبحية وتجعلها أكثر عرضة للتهديدات من الدفاعات الجوية الحديثة، فضلا عن أن ثقل الوزن يطيل من زمن المهمة. أما في ما يتعلق بالمدى، فتتمتع القاذفتان بمدى متقارب مع أفضلية نسبية للقاذفة الروسية، كما تتقارب القاذفتان أيضا في قدراتهما التسليحية النظرية مع القدرة على حمل الأسلحة النووية والتقليدية وإطلاقها.
معضلة "باك دا"
لكن الفارق الرئيسي بين القاذفتين الأميركية والروسية يكمن ببساطة في حجم الدعم الذي يتلقاه كلا المشروعين، إذ تعدّ القاذفة الأميركية مشروعا قيد التنفيذ الفعلي، وتعمل الشركة المنتجة "نورثروب غرومان" على إخراج 6 وحدات بالفعل بتكلفة 700 مليون دولار للواحدة، بينما تخطط القوات الجوية الأميركية لشراء 100 قاذفة من هذا النوع خلال العقود الثلاثة المقبلة.
في المقابل، لا تزال هناك العديد من الشكوك التي ترافق القاذفة "باك دا"، ويرجح خبراء أن روسيا لن تكون قادرة على إنتاج أكثر من نموذج أولي بسبب الصعوبات المالية واللوجستية، وعدم واقعية التكلفة المبدئية المقدرة بـ160 مليون دولار فقط للطائرة الواحدة. وتذهب التقديرات المتشائمة إلى أن "باك دا" لن تكون أكثر من "نمر على ورق" وأنها لن تحلق في السماء في أي وقت قريبا، حتى إن الموقع الأوكراني المتخصص في الصناعات العسكرية "Defence Express" أطلق عليها مصطلح "Wunderwaffe" الذي يعني بالألمانية "السلاح العجيب"، وهو اصطلاح كان شائعا إبان الحرب العالمية الثانية لوصف الأسلحة الخارقة التي كانت تعلن عنها وزارة الدعاية النازية دون أن يكون لها أي وجود فعلي.
تجعل الحرب الروسية الأوكرانية وتركيز روسيا على المجهود الحربي الميداني، واستنزاف مواردها الاقتصادية في ساحة المعركة، فضلًا عن العقوبات الاقتصادية المفروضة على الكرملين التي تحد من قدرة موسكو في الحصول على المواد والمعدات اللازمة؛ هذه العوامل تجعل من بناء قاذفة شبحية مشروعا أكثر صعوبة. وكل هذا قد يؤدي في أفضل الأحوال إلى تأخير مرحلة الإنتاج المتسلسل، والتي من المحتمل أن تتخطى الخطة الزمنية المُعلن عنها لعام 2027، وذلك يمنح الولايات المتحدة الأميركية ميزة إستراتيجية كبيرة، في حالة دخول القاذفة "بي-21" إلى الخدمة، ويجعل لواشنطن الهيمنة الجوية في المرحلة المقبلة.
أكثر من ذلك، في الوقت الذي يتوق فيه الروس إلى تخفيف الفارق الواضح في القدرات الجوية مع واشنطن، دخلت الصين إلى المعادلة بإعلانها عام 2016 تطوير القاذفة الشبحية المتقدمة "إتش-20" (H-20)، والتي يفترض أن تدخل الخدمة في غضون السنوات القادمة. تطير القاذفة الصينية التي تعرف باسم "العاصفة" بسرعات تحت صوتية، مع مدى يصل إلى 8500 كيلومتر، وحمولة تزن 45 طنًّا من الذخائر عند الإقلاع، وهو ما يجعلها منافسا قويا لكلا القاذفتين الروسية والأميركية. وتنتظر الصين أن تحقق لها "إتش-20" قدرا من التوازن الإستراتيجي مع الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادي.
هذا التطور يضع روسيا في موقف صعب، خاصة إذا تمكنت القاذفة الشبحية الصينية من التحليق في السماء، وذلك يعني أن موسكو ستكون متأخرة عن بكين أيضا وليس عن واشنطن فقط، وهو ما يجعل مشروع القاذفة الروسية "أولوية إستراتيجية" رغم كل التحديات المحيطة به. يؤكد هذه الحقيقية جون فينابل، زميل السياسة الدفاعية في مؤسسة التراث الأميركية، قائلا إن الاعتقاد بعدم قدرة شركة "توبوليف" الروسية على تطوير قاذفة شبحية هو نوع من الغطرسة، وإن السؤال الحقيقي ليس عما إذا كانت روسيا ستنتج قاذفتها الشبحية الخاصة أم لا، ولكن متى ستفعل ذلك، وما القدرات التي ستقدمها بحلول ذلك الوقت.