انتخابات "قسد".. تفاوض على استحياء وإلغاء بنكهة التأجيل
دون سابق إنذار، وبعد سنوات من السيطرة العسكرية والتجنيد الإجباري للشباب والفتيات والأطفال في الشمالِ الشرقي لسورية، وفق تقارير حقوقية ودولية، أعلنت الإدارة الذاتية -الوجه السياسي لقوات سورية الديمقراطية المسيطرة في المنطقة وتقودها وحدات حماية الشعب الكردية- عن خطوة سياسية، تحاول بها الانتقال من سلطة الأمر الواقع إلى مظلة الإرادة الشعبية.
فقد أعلنت الإدارة الذاتية عن إجراء انتخابات بلدية كان من المقرر عقدها في 11 يونيو/حزيران الجاري في مناطق الشهباء وعفرين ومنبج بريف محافظة حلب، ومقاطعتي الفرات والطبقة التابعتين لمحافظة الرقة، إضافة إلى مدن وبلدات ريف دير الزور الشرقي ومناطق الجزيرة السورية في محافظة الحسكة، لكن هذا الإعلان أثار موجة تصريحات من كافة الفاعلين السياسيين والعسكريين في الميدان السوري، كان من أبرزها تصريح الخارجية الأميركية بأن "أي انتخابات تجري في سوريا يجب أن تكون حرة ونزيهة وشفافة وشاملة، كما دعا قرار مجلس الأمن رقم 2254، ولا نعتقد أن الظروف المناسبة لمثل هذه الانتخابات متوفرة في شمال شرق سوريا في الوقت الحاضر".
في نهاية المطاف، رضخت الإدارة الذاتية وأعلنت تأجيل الانتخابات إلى أغسطس/آب القادم، وذلك "استجابة للمطالب الواردة من قبل الأحزاب والتحالفات السياسية المشاركة في الانتخابات، والتي طالبت المفوضية العليا للانتخابات بتأجيل الانتخابات لموعد آخر، وذلك لضيق الوقت المخصص للفترة الدعائية ولتأمين المدة الكافية من أجل مخاطبة المنظمات الدولية لمراقبة سير العملية الانتخابية"، بحسب بيانها الصادر يوم 6 يونيو/حزيران الجاري.
تأجيل أم إلغاء؟
هذا التبرير السياسي اعتبره ناشطون ومحللون استخفافا بالرأي العام وبالمجتمع السوري، بل شبهوه بوصف الحكومة السورية المتظاهرين في بدايات الثورة، بأنّهم لم يخرجوا احتجاجا عليها، بل ليشكروا الله على نعمة المطر!
الرئيس المشترك السابق لمجلس سوريا الديمقراطية عضو الهيئة الرئاسية في المجلس الحالي رياض درار، أكّد -في حديثه للجزيرة نت- أن "الموقف الأميركي لم يكن السبب في تأجيل الانتخابات، لكن لا شك أيضًا أنّ هناك تقديرَ موقف للمحيط، فنحن لا نريد أن نكرر تجربة كردستان العراق في مسألة الرفض، خاصة أن الحوكمة أمرٌ مطلوب من الاتحاد الأوروبي والأميركي، ولا حوكمة دون انتخابات نزيهة. لذا، فإنّ التأجيل لمرحلة قادمة يمكن أن يحصل".
ويبقى التساؤل المطروح عمّا إذا كان هذا البيان تأجيلا حقيقيا أم إلغاءً بنكهة التأجيل، بهدف الحفاظ على ماء الوجه السياسي. فقد اعتبر الباحث في الشأن الكردي مهند الكاطع -أثناء حديثه للجزيرة نت- أنّ "هذا التأجيل جاء بضغط أميركي وتهديد تركي، وسينتهي بإلغاء الانتخابات وربما دون إصدار قرار بذلك".
وفي حديثه للجزيرة نت، يرى عبد الحكيم بشار نائب رئيس الائتلاف الوطني السوري والرئيس الأول للمجلس الوطني الكردي وأحد أهم مؤسسيه، أنّ تراجع الإدارة الذاتية عن الانتخابات المزمع عقدها لم يكن بسبب الموقف الأميركي فقط، بل كان "نتاج الرفض السياسي من قبل معظم القوى السياسية السورية والكردية، وحتى تلك المقرّبة من حزب الاتحاد الديمقراطي، مثل هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي، إضافة لعزوف طيف شعبي كبير عن المشاركة في الانتخابات ورفضه استلام البطاقة الانتخابية. لكن الإدارة لم تقرّ أن تأجيلها للانتخابات كان بسبب الضغط الداخلي والخارجي، بل قدّمت ذرائعها المعتادة مستخفة بعقل الجماهير وإرادتهم ورغبتهم، فعزت سبب التأجيل لضرورة وجود مدّة كافية لمراسيم الدعاية بالنسبة للمرشحين".
خطوة الانتخابات المفاجئة وما تلاها من أحداث ومواقف وتصريحات، طرحت العديد من التساؤلات بشأن ما إذا كان الهدف منها هو فعلا إشراك أهالي المنطقة في الحكم، أم أنها كانت استعراضية ومحاولة لتشريع سلطة الأمر الواقع والالتفاف على الحراك الشعبي والحراك العشائري الذي يشكّل أحد أهم الشرائح السكانية في تلك المنطقة، أم أنها كانت بالون اختبار ومحاولة سياسية أميركية لشرعنة وجود قاعدتها العسكرية وتكريسه على المدى البعيد؟!
الموقف الأميركي
وقد تباينت التحليلات والتخمينات السياسية بشأن موقف الحليف الأميركي تجاه ما يوصف بـ"ولده المدلل" في سوريا، لكنّ الاستراتيجية الأميركية تقوم على سياسة التحكم بالمشاكل والإمساك بخيوطها لا حلّها، لذلك فإن الموقف الأميركي بالرغم من أنه أسعد المعارضةَ السورية وطمأنها، فإنّه لم يزل الشك في كونه مناورة تكتيكية أو استراتيجية سياسة.
لكنّ رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية هادي البحرة كان أكثر تفاؤلاً بالرفض الأميركي، وإن كان رفضا على استحياء، مؤكدا أن "الموقف الأميركي هو رسالة واضحة تؤكّد أن الولايات المتحدة ما تزال تلتزم بالحل السياسي وفق القرار 2254، على الرغم من التراخي العام في تطبيق بنوده!".
في السياق ذاته، استبعد البحرة ما تداوله محللون من أنّ غرض الرفض الأميركي هو دفع حلفائهم في قوات قسد إلى الانخراط بالمفاوضات السورية التي ترعاها الأمم المتحدة، مبيّنًا -في حديثه للجزيرة نت- أنه "لا يمكن مشاركة أي أطراف ذات ارتباطات بتنظيمات غير سوريّة أو تابعة لتنظيمات مصنفة كتنظيمات إرهابية بهذه المفاوضات. يتوجب فك كل الارتباطات بأي تنظيمات أو مليشيات أجنبية، أو إرهابية، والعودة للبيت السوري بعيدًا عن الأجندات اللاوطنية"، في إشارة إلى ما تُتهم به قسد من ارتباط بحزب العمال الكردستاني، وأكّد البحرة "أنّ الأطراف الشرعية المنخرطة ضمن هيئة التفاوض السورية محدّدة، والمجلس الوطني الكردي هو ممثل إخوتنا الكرد فيها".
بالمقابل، أعلن رياض درار عضو الهيئة الرئاسية لمجلس سوريا الديمقراطية أنهم لا مانع لديهم من المشاركة في الهيئة العليا للمفاوضات، لكن المعترض هو الائتلاف الوطني لأسباب خارجية، مضيفا -في حديثه للجزيرة نت- أنه "لا يمكن للائتلاف الوطني إلى اليوم أن يجري انتخابات، لأنّه لا قرار له، والمتحكم في القرار هم الفصائل العسكرية".
بينما انتقد البحرة سياسات الإدارة الذاتية، واصفا إياها باللاوطنية، لأنّها "تسعى لتثبيت خطوات لا شرعية، بدءًا مما سمته بالعقد الاجتماعي الذي لم يساهم الشعب السوري بصياغته، وتلاه قرار إعادة التقسيمات الإدارية، ومن ثم قرار الانتخابات البلدية، وبذلك تسعى لتثبيت حالة التقسيم الديموغرافي التي قامت بها، تهيئةً لمشاريعها الانفصالية".
أزمة شرعية
في السياق ذاته، يرى الكاطع أنّ الإدارة الذاتية تعاني منذ تأسيسها أزمة شرعية، لذلك فإنها تحاول بكل الوسائل -وعلى رأسها الانتخابات- أن تصدّر نفسها على أنّها قوى شرعية وطنية مستقلة، لا ترتبط بأجندات غامضة، وذلك في ظل الاتهامات الموجهة إليها بوصفها سلطة أمر واقع ترتبط بمنظومة أجنبية، إضافةً لعلاقتها المباشرة مع النظام الذي سلّمها هذه المناطق في بداية الثورة. لذلك فإنها إلى إجراء انتخابات "يتنافس فيها فقط الأحزاب والتيارات التي قامت هي بإنشائها، لإيصال رسالة مفادها أنها سلطة شرعية".
وهذا ما ذهب إليه أيضا عبد الحكيم بشار، فهو يرى أن الإدارة الذاتية "تريد أن تزيف الحقائق وتقول إننا أجرينا انتخابات محلية شرعية، وإن سكان المنطقة هم من يديرون المنطقة. لكن أي انتخابات تجرى هناك لن تغيِّر الوقائع على الأرض، إلاَّ من خلال فك ارتباط الإدارة بحزب العمال الكردستاني، وإخراج كافة العناصر الأجنبية من المنطقة".
وبذلك، فإن رئاسة الائتلاف الوطني السوري أكدت للجزيرة نت أنّ موقفها الصارم من هذه الانتخابات لا ينطلق من المواقف السياسية المسبقة تجاه الإدارة الذاتية، بل ينطلق من مبادئ وطنية وقانونية ودولية، فالائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة ضد أي انتخابات محلية حتى داخل مناطق الائتلاف والحكومة المؤقتة، وهذا ما أوضحه رئيس الائتلاف بقوله: "لا شك أننا ندعم الانتخابات الحرة والنزيهة بإشراف الأمم المتحدة والمنصوص عليها في القرار 2254، والتي يشارك فيها جميع السوريين بمن فيهم أبناء المهجر، على أن تجرى هذه الانتخابات بعد تحقيق البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة، من قبل هيئة الحكم الانتقالي. وحاليًا نحن بعيدون عن تلك البيئة بسبب استمرار رفض النظام وإعاقته للعملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة".
وهذا ما أشار إليه رئيس الحكومة السورية المؤقتة في الشمال السوري عبد الرحمن مصطفى، في لقاء خاص أجرته معه الجزيرة نت، أكّد فيه أنّه لا يمكن إجراء انتخابات في الشمال السوري في الوقت الراهن، لأنّه لا وجود أصلاً لبيئة انتخابية آمنة، وإنّ إجراء أي انتخابات محلّية قبل إعادة المهجّرين وإعلان هيئة حكم انتقالي وتأمين البيئة الآمنة؛ هو سير باتجاه التقسيم، بحسب وصفه.
وأضاف أن أي انتخابات في الوضع الراهن هي "إقرار سياسي بحالة التهجير والتغيير الديموغرافي الذي يسعى إليه النظام وحلفائه، فلا انتخابات حتى يعود الناس لأماكنهم، فهم الجزء الأساسي في الآلة الانتخابية! وهذا ما تسعى قسد إلى تكريس نقيضه، ليس إيمانًا بالديمقراطية بل محاولة للالتفاف على الشرعية. وفي حال انفصلت مناطق قسد جدلاً، حينها حتى لو سقط النظام مستقبلاً فسنبقى دولة فاشلة، لأنّ كل خيراتنا ستكون مسلوبة من قبل هذه القوى الانفصالية المرتهنة إلى القرار الخارجي!".
كل ذلك يدفع الرأي العام السوري إلى التساؤل الجاد: هل حقّاً لا يسمح القانون الدولي بإجراء أي انتخابات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بقصد الحفاظ على مصلحة الشعب السوري، أم أنّ الأمر متعلق بالحفاظ على مصالح أطراف الصراع ولو كان على حساب الإنسان والمجتمع السوري؟!