كيف تجنّد الإعلام الإسرائيلي طوعا في الحرب على غزة؟
حرب الإبادة في قطاع غزة لا تكاد تصل إلى الجمهور الإسرائيلي، ليس لأن إسرائيل أغلقت أبواب القطاع أمام وسائل الإعلام وأعملت سيف الرقابة العسكرية فحسب، بل لأن الأغلبية الساحقة من الصحفيين الإسرائيليين أغلقت على نفسها باب النقد أيضا، واختارت الاصطفاف مع المستويين السياسي والعسكري في معركة "ننتصر معا" على غزة وعلى الحقيقة.
فلم تعد إسرائيل في حاجة أصلا إلى تفعيل سيف الرقابة العسكرية، ولا حتى إلى تحريك وازع الرقابة الذاتية داخل الصحفيين.
من صحفي القناة الـ12 داني كوشمرو الذي ظهر في الأستوديو حاملا بندقية، إلى مذيعة القناة الـ14 ليتال شيمش التي تمنطقت مسدسا أثناء تقديمها نشرة الأخبار انقلب صحفيون إسرائيليون بندقية تقاتل مع الجيش، وأقصى مسافة يقتربون بها من الحقيقة هي نزولهم ضيوف شرف على ظهر دبابة تجوب قطاع غزة، وتعيد اجترار ما تكرره آلة الدعاية، حسب تعبير معلق إسرائيلي.
"اعذرونا"
لذلك، ليس صدفة ألا يسقط هؤلاء في الحرب، لأنهم خارج المعركة أصلا، وهم إن كانوا داخلها فغير مستهدفين بالسلاح الإسرائيلي.
تكفي بالنسبة لهم جملة تقال لرفع العتب وتسويغ كم الأكاذيب المتدفقة كما فعلت يونيت ليفي من القناة الـ12 عندما خاطبت جمهورها قائلة "هذا هو المكان المناسب لنقول لمشاهدينا ومشاهداتنا إننا في وضع غير مسبوق، دولة إسرائيل لم تُنكب أبدا بحدث بهذه الأبعاد (…)، لذا نقول: هنا، نحن أيضا لم نعرف حدثا بمثل هذه الأبعاد، نعتذر سلفا إن لم يستجب أمر ما لمقاييس معاييركم".
لذا لم يجد صحفي إسرائيلي حرجا وهو يصيح وسط الدمار مبتهجا وفي حالة هستيرية "اختفت غزة"، ولم يكن صعبا على زميل آخر الانضمام إلى قوة إسرائيلية وهو يخاطب مشاهديه منفعلا "إننا نحضر الآن عملية قصف يا رفاق".
كثير من المنتسبين إلى صناعة الإعلام في إسرائيل قرروا الانضمام إلى معركة الدعاية باسم الدفاع عن "الدولة"، فـ"الحديث عن الموضوعية أصبح بلا معنى"، على حد تعبير صانع محتوى ومدير شركة خدمات إعلامية اسمه ناعام شلو في لقاء مع هآرتس، فـ"أنا أقول كل يوم للزبائن: لو حدث في دولتكم أمر كهذا لما كان ردكم أقل قوة".
معركة نتنياهو
عدد من هؤلاء لم يختر الاصطفاف مع الجيش فحسب، بل مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أيضا، حتى وهو يعرف أن الأمر لا يتعلق بمعركة وجودية يواجهها الكيان فحسب، وإنما بمعركة مصيرية يواجهها رئيس الحكومة في سعيه لإطالة أمد الحرب ليطيل أمد الإفلات من الملاحقات القانونية.
لم يكن عبثا أن يعين نتنياهو في الأسبوع الأول من الحرب -وفي خطوة غير معتادة- همزة وصل بين مكتبه وبين المراسلين العسكريين الإسرائيليين، فقد اختار للمنصب إلي فلدستاين المتحدث السابق باسم وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير رغم وجود منصب الناطق باسم الجيش، في حين جرت العادة أن تكون وسائل الإعلام على تماس مع وزير الحرب وقائد الأركان لا مع رئيس الحكومة.
وسائل الإعلام النادرة التي تغرد -قليلا فحسب- خارج السرب يُسلط عليها سيف التهديد بحجب الإعلانات عنها مثلا، كما هو الحال مع هآرتس رغم أن الصحيفة تصطف إجمالا في خندق معركة "ننتصر معا"، وما ينشر فيها في باب النقد متروك لمقالات الرأي حيث يكتب معلقون مثل جدعون ليفي.
صور معقمة
من نافلة القول إن حجم الدمار في غزة غائب تماما عن الشاشات وصفحات الجرائد الإسرائيلية حيث لا تظهر إلا عمليات الجيش ونجاحاته المزعومة والمعقمة دائما من دم الأبرياء.
لا صور للدمار المروع، ولا للجثث الملقاة في الشوارع التي ينهشها الطير، ولا للمستشفيات التي انقلبت مقابر.
وعلى الجانب الآخر، اختار عشرات الصحفيين الفلسطينيين أن ينقلوا للعالم جزءا مما يجري في معركة يمكن تسميتها "معا ننتصر للحقيقة"، واكتست معداتهم بطبقة سميكة من غبار الخراب الذي لم يلامس أي منه كاميرات المراسلين الإسرائيليين التي حافظت على نقائها لبقائها خارج الخدمة أصلا.
دفع هؤلاء الصحفيون الفلسطينيون دون ذلك حياتهم، وكان حريا بالصحفيين الإسرائيليين أن يحنوا لهم الرؤوس احتراما لأنهم قرروا أن تبقى "التغطية مستمرة"، حتى وهم يراسلون من فوهة الجحيم نفسها، على حد تعبير الصحفية والكاتبة أورلي نو، ومع ذلك "يتقاسم هؤلاء وهؤلاء المهنة نفسها"، اسميا على الأقل.