كمين الأبرار.. مقايضة الأرض بالأهداف السِّمان
بعد 120 يومًا من الصمود الأسطوري لمقاتلي لواء خان يونس، تمكن مقاتلو كتائب القسام في نهار يوم السابع والعشرين من رمضان، من تسجيل ضربة دقيقة جعلت هذا اليوم من أشد الأيام قسوة على الفرقة 98، تبعها بعد ذلك بسويعات انسحاب شامل لقوات العدو الإسرائيلي من كافة محاور القتال في خان يونس، تمامًا، كما حدث في كمين القصاصيب، الذي نفذه "القسام" على تخوم معسكر جباليا في الشهر الثالث للحرب، والذي أفضى إلى انسحاب قوات العدوّ من لواء الشمال.
وقد نشر "القسام" فيديو يوثق العملية بعد تنفيذها بـ48 ساعة، وإليكم قراءة بشأن تفاصيل العملية والفيديو المنشور حولها في عدة محاور:
1- ما الذي يميز هذه العملية؟
يمكن القول؛ إن ما قدمه لواء خان يونس على مستوى العمل العسكري في الحملة البرية المتواصلة – خاصة فيما يتعلق بالهجمات ذات الأغراض الخاصة كالكمائن والإغارات السريعة في معظم بقع القتال – تُرفع له القبّعات، ويشار له بالبنان، أيضًا ما قدّمه اللواء من ناحية الجهد الهندسي الكبير – والمرتكز على النسفيات وحقول الألغام – لافت ومهم، خاصة أمام الجهد الهندسي الهائل لقوات العدوّ، وهو ما يشي بأن اللواء استفاد كثيرًا من تجربة لواءَي الشمال وغزة في المعركة الحالية، مما أتاح له فرصة لإجراء تعديلات على تكتيكات القتال.
ربما يعتبر هذا الكمين (كمين الأبرار) أكثر العمليات العسكرية الدفاعية الموثّقة ذكاء ودقة على طول أيام المعركة الدفاعية، وربما على طول تاريخ المقاومة الفلسطينية. في هذا الكمين نفّذ مقاتلو القسام عملية توصف بالمركبة، وهي أْعقد العمليات الدفاعية قاطبة، بحيث تم تركيب مجموعة عمليات وكمائن بعضها فوق بعض، بالاستفادة من استثمار نجاحاتها.
وهذا يدلّل على الأريحية الكبيرة التي يقاتل بها "القسام"، في رسالة بليغة يريد إيصالها، أنه جيش مرتاح لا مأزوم، فالعمل المركب هو عمل قتالي يشترك فيه عدة أنواع من أسلحة الدعم القتالي، وبتراتبية معد لها مسبقًا، ضمن تخطيط دقيق؛ لتنفيذ عملية الهجوم بشكل منسق ومتكامل، لتحقيق أكبر نسبة من النجاح، وهو أكثر صنوف العمليات الدفاعية تطلّبًا للتنسيق الناري، وانضباطية القوات وكفاءتها.
2- على صعيد تجهيز مسرح العمليات:
قام العدو، وعلى طول أيام العملية البرية بتدمير منطقة الزنة تمامًا، حتى بات من يقف على شارع صلاح الدين يرى القرارة والحدود الشرقية دون أن يحول بينه حائل، وكأنه لم يكن هناك أحياء ولا بيوت، وذلك ضمن الأعمال الهندسية الكبيرة التي مارستها قوات العدو؛ بغرض تدمير البيوت والأحياء، والبحث عن الأنفاق، إلا أنّ المقاومة استطاعت التغلّب على ذلك، من خلال الاستخدام الصحيح للأرض في مسرح العملية، والاستفادة من الركام الهائل للاختفاء والتغطية، وتوفير حقول الرؤية وميادين الرمي.
من الواضح أيضًا استفادة المقاومة من ركام مسرح العمليات في إخفاء وتطويع لأدوات مثل كاميرات ذات استخدام مدني في عملية التجهيز والتحضير للكمين، وتجهيز هندسي للعبوات المتنوعة، من خلال إنشاء حقل ألغام واسع ومحكم لتشكيل دائرة ناجحة للموجات الانفجارية التي ستحيط بفصيل كامل من العدو، وتمنعه من الخروج منها مهما كانت الظروف.
3- على صعيد طبيعة المقاتلين:
يدافع عن منطقة الزنة ما قوامه سرية مقاتلين، ويهاجمها ما قوامه تشكيل لواء مختلط من مكونات الفرقة 98 (لواء كوماندوز بشكل أساسي، ولواء غفعاتي مشاة، واللواء السابع المدرع بشكل مساند)، هذا الفارق الكبير في القوة يحتاج إلى مقاتلين أشداء يملكون من الجلد والجسارة والعقيدة ما يعوضون به فارق العدة والعتاد والنار والتقنية.
في عادة الحملات العسكرية، يمتلك الجندي المهاجم معنويات أعلى من المدافع، نظرًا للروح التعرضية، لكن من الملاحظ في فيديو القسام، أن المقاتلين يمتلكون معنويات أسطورية، ربما نبعت من العقيدة القتالية التي يمتلكونها وراكموها من مرور الوقت، وهذه هي اللبنة الأساسية التي ساهمت في بناء هذا النجاح العملياتي.
بداية من قائد الكمين بخطبته العصماء الذي لا يُشق له في الخطابة غبار، مرتديًا كوفية العياش وعماد عقل وأبي عبيدة، ومن ورائه بندقية التافور، التي من الواضح أنهم غنموها من الكمين، يحمل ذلك دلالة كبيرة على العمق الفكري والوعي السياسي اللذين يمتلكهما هؤلاء القادة، ما يجعلنا نكوّن صورة أكثر عمقًا عن طبيعة جيش القسام.
أيضًا، رسائل المقاتل السياسية، وحديثه عن نتنياهو تظهر قوة المقاتلين وإدراكهم ووعيهم وأنهم ليسوا مجرد مقاتلين يجيدون إطلاق النار، بل هم جنرالات عسكرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ويمكن قراءة ذلك بشكل أدقّ من خلال متابعة المصطلحات ولغة التخاطب بين قادة الكمين في المشهد الثاني الذي يشرح عملية التخطيط للكمين، والذي يدلل على فهم عسكري عميق، وعلم أكاديمي رصين يتحلى به هؤلاء الرجال، الأمر الذي يشي بحجم الإعداد والتدريب العالي الذي خاضوه تحضيرًا لهذه الحرب.
أما عن طبيعة قادة المجموعات المشرفين على الكمين، فهم يمتلكون دراية ميدانية ومهارة عالية ويبدو أنهم عايشوا الميدان بالحملة البرية جيدًا، واكتسبوا معرفة جديدة بمسارات وتحرّكات القوات الغازية، وفهموا تكتيكات عدوّهم جيدًا في عملية التقدم والانسحاب ومسالك الاقتراب، وهذه ميزة تفوُّق مهمة في عملية التخطيط، وأيضًا في عملية القيادة والسيطرة على القوة القسّامية التي ستقوم بتنفيذ العمل المركب.
4- على صعيد تفاصيل العملية:
تمكّن المقاتلون من استهداف فصيل مشاة معادٍ من لواء كوماندوز في مقتلة معدّ لها بشكل ممتاز، تضمنت جهدًا كبيرًا على صعيد الرصد والاستدراج والتضليل وإخفاء القوات على مدار خمسين يومًا، ثم بعد ذلك كمن المقاتلون مجددًا، ولم ينسحبوا من مسرح العمليات؛ لانتظار تقدم قوات الإنقاذ المعادية التي جرى إعداد كمين مسبق لها مخصص لاستهداف المدرعات، وفور وصولهم لوسط بقعة القتل المنتخبة تم استهدافهم بقذائف الياسين والعبوات المضادة للمدرعات.
جرت بعد الكمين الثاني عملية مطاردة للقوات المعادية، حيث عاود مقاتلو القسام استهداف قوات النجدة والجنود الذين فرّوا من المكان وتحصنوا في أحد المنازل المحيطة بمنطقة الحدث بعبوة مضادة للأفراد وأكدوا مقتل 3 جنود، وتحولهم لأشلاء وإصابة عدد آخر بجراح.
في الكمين الأوّل (ضد الأفراد)، تمّ فتح النار على فصيل المشاة من لواء الكوماندوز بالعبوات المضادة للأفراد، ومن ثم إمطارهم بوابل من الرّشاشات وبنادق القنص، مما أدّى إلى إيقاع إصابات دقيقة فيهم قتلت بعضهم وأصابت آخرين.
في الكمين الثاني (ضد المدرعات)، تمّ رصد قوات النجدة من مربضها (مكان تجمعها)، وتم انتظار قدومها بعد نداء الإغاثة الذي أرسله لهم الفصيل الذي وقع في الكمين، وعند وصولهم إلى نقطة القتل المنتخبة، تمّ تحييدهم فورًا، ومن الملاحظ عدم تحرّك الدبابات من مكانها أبدًا بعد استهدافها، في إشارة إلى دقّة الإصابة وأثرها.
ثم كانت المرحلة الأخيرة، مرحلة تطهير مسرح العمليات من أي جنود أحياء، عبر مطاردة القوات الناجية وتصفيتها، بنسف المباني التي تحصنوا بها، والقضاء على الآخرين بالرصاص.
هذه العملية تمثل نقطة انكسار مهمة في العملية العسكرية على خان يونس، وهي تدق ناقوس خطرٍ كبيرٍ عن العدوّ، وتطرح تساؤلات متعددة حول جدوى العملية البرية برمتها، فإذا كانت المقاومة قادرة على فعل عسكري يشبه في تنظيمه وقوته عملية "طوفان الأقصى" بعد 6 أشهر، فماذا كانت تفعل 8 ألوية في خان يونس كل هذا الوقت؟ وما هي حدود قوة هذا الجيش الذي لا يبدي أي ملامح تصدُّع أو انكسار تلوح في الأفق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.