لماذا يشعل تحرك عمان الميادين العربية الأخرى؟
بدأت منذ الأسبوع الماضي الدعوات الشعبية لمحاصرة سفارة الاحتلال الإسرائيلي في العاصمة الأردنية عمّان، نصرةً لقطاع غزة وردًّا على المجازر التي يرتكبها الاحتلال في محيط مستشفى الشفاء. انطلقت المسيرات الملبية لهذه الدعوات يوم الأحد في الرابع والعشرين من مارس/ آذار؛ لتتجمع في محيط السفارة بأعداد غفيرة، لم يعهدها الشارع الأردني منذ بدء العدوان على قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلا في أيامه الأولى.
وفي اليوم التالي انطلقت الاحتجاجات في عدة عواصم عربية، منها بغداد والرباط، ولاحقًا القاهرة، ثم أخذت المظاهرات تتوسع في مدن عديدة عربية بعد أن كانت قد خمدت لمدة طويلة. واللافت هنا أن العديد من هذه المظاهرات – مثل تلك التي في القاهرة على سبيل المثال – كانت تتداول هتافات تتحدث عن الاستجابة لدعوات الشارع الأردني، مما يؤشر على تأثيره في تحريك الميادين في العواصم العربية المختلفة. هذا إضافةً إلى التفاعل مع الشارع الأردني في الفضاء الافتراضي، ومنصات التواصل من قبل ناشطين عرب، ومن مناطق منوّعة منها قطاع غزة ذاته.
"حراك شبابي"
لم تكن هذه المرَّة الأولى، هي التي يشار فيها إلى تأثير الشارع الأردني على الشارع العربي، عمومًا، ففي الموجة الثانية من الربيع العربي والتي انطلقت عام 2018، نسبَ كثير من التحليلات قدح تلك الشرارة إلى الاحتجاجات التي انطلقت في الأردن، وإضراب 30 مايو /أيار 2018، وذلك في الحراك الذي أطلقته النقابات المهنية؛ اعتراضًا على قانون ضريبة الدخل حينها، إلا أنه توسع ليشمل المكونات المختلفة، وصبغ الحراك بصبغة شبابية من كافة المحافظات الأردنية.
لم يكن للأحزاب السياسية ذلك الدور المحوري في توجيه هذا الحراك، وتدريجيًا توسعت مطالبه وتجاوزت النقابات المهنية، وبدأ الشارع بمطالبات بما سُمّي: "تغيير النهج" في إدارة الدولة؛ وهو ما أدى إلى إسقاط حكومة هاني الملقي، واستبدالها بحكومة وصفت بأنها أكثر قدرة على الاتصال بالشارع.
تتالت بعدها الاحتجاجات في العواصم العربية؛ في العراق، وفي السودان، حيث أسقطت نظام البشير، وفي الجزائر، حيث دفعت الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى التعهد بعدم الترشح لفترة رئاسية جديدة، ثم تفعيل المادة 102 من الدستور ليزاح من كرسي الرئاسة. وأخيرًا إسقاط حكومة سعد الحريري في لبنان بعد سلسلة احتجاجات.
تناولَ الكثير من التحليلات الأكاديمية ما تمت تسميته: "بعدوى الشارع"، ونُسب إلى تونس قدحها شرارة الربيع العربي، فيما نسبت تحليلات أخرى تحركات الشارع ابتداءً من عام 2010 إلى تأهيل الشارع العربي للنشاط بعد حراكه على إثر الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2008 -2009.
والمشترك هنا بين هذه التحليلات وتحليلات أخرى عديدة، تأكيدها على فكرة أن الشارع في الدول العربية – وعلى الرغم من خصوصياته في كل دولة وظروفها – يمتلك اتصالات معقدة، كما أنه متأثر إلى حد بعيد ببعضه بعضًا. وذلك نتيجة لوجود أرضية اتصال وثيق بين مكونات الوطن العربي، على رأسها أن المجتمعات العربية التي تمتد أراضيها على مساحة 13 مليون كم2، تمتلك لغة واحدة مشتركة، في حين يملك الاتحاد الأوروبي الذي يمتد على ثلث هذه المساحة 24 لغة.
ولا نشير إلى اللغة هنا إلا كمثال على مشتركات ثقافية عديدة توثق اتصال المجتمعات، على عكس المسافات الثقافية في نموذج الاتحاد الأوروبي على الرغم من وجودها في فضاء معولم.
إن خصائص الوطن العربي الثقافية وظروفه السياسية تجعل من تأثر مجتمعاته ببعضها بعضًا سهلًا إلى حد بعيد، ولكن يبقى السؤال المشغل هنا؛ لماذا قد تكون دولة أو مجتمع ما أكثر تأثيرًا من غيرها؟ وما هي محددات هذا التأثير؟ وكيف يتم تحصيل هذا الموقع المؤثر على الساحة العربية؟ ولماذا تَحضُر عمّان اليوم كمحرك ذي تأثير كبير على الشارع العربي؟
"شوارع الغضب"
هنا لابد من الإشارة إلى نقطة مهمة قبل التوسع في التحليل الذي يخصّ الأردن ومجتمعَه، وهي أن هذا الدور المتقدم في التأثير لم يبدأ بالتطور حسب اعتقادنا إلا في السنوات العشر الأخيرة، وبالتزامن مع تراجع أدوار عواصم عربية كان لها دور مركزي في صناعة الرأي العام العربي وتوجيهه. على رأسها دمشق، وبيروت، والقاهرة، وبغداد.
حيث بدأ تراجع دور العراق منذ حرب الخليج الأولى، وتم طحن هذا الدور تقريبًا مع الاحتلال عام 2003، أما مصر ومنذ عام 2013 بدأ دورها في التراجع؛ نتيجة القيود التي فرضت على الفضاء العام، لحد يمكن معه القول إنه بدا مقتولًا في فترات زمنية محددة. أما سوريا ومع انحراف مسار الثورة إلى الحرب، وتفكك الجغرافيا والمجتمع، وموجات اللجوء، فقد تعطل فيها أي نوع من أنواع الإنتاج. كل هذه العوامل جعلت الساحة مفتوحةً أمام دور متقدم وجديد لعمّان.
تناولَ العديد من الدراسات تأثير مكان محدد في إشعال ثورة ما، إلا أن هذه الأبحاث كانت تدرس إلى حد بعيد دور مدينةٍ مثلًا، أو ميدانٍ معين في تحريك مواقع أخرى، أو إكساب الزخم للتحرك الشعبي، وعلى الرغم من ذلك؛ تبقى هذه الفرضيات والمحددات في دراسة أهمية الميادين ورمزياتها قابلة للاستخدام في دراسة أهمية دولة أو عاصمة ما في التأثير على السياق العربي.
وما يمكن أن أقوله هنا؛ هو أنه وبالطريقة التي أثّر فيها ميدان التحرير مثلًا، أو شارع الثورة – شارع الحبيب بورقيبة- على كل من مصر وتونس، فإنه يبدو أن لعمّان تأثيرًا مشابهًا اليوم على الوطن العربي.
يناقش الباحث المعروف بتعامله مع قضايا الربيع العربي آصف بيات في كتابه "الحياة كسياسة" أهمية "شوارع الغضب"، ويضع لها خصائص اجتماعية ورمزية ترفع من فرص تأثيرها على محيطها. فهو يصف هذه الميادين بأنها أماكن يمكن أن تجمع الحشود المتنوعة بسرعة، كما أنها تملك زخمًا ورمزية ثقافية، وهي مرنة وتتيح الفرصة للمناورة، ويمثل الالتقاءُ فيها مكانًا يسهل انتشار الأخبار، وتناقل المشاعر والمواقف.
وروح هذه الفكرة، هي أن هذه الأماكن تمثل نقطة التقاء كثيف لتنوعات كبيرة، وتمتلك رمزية ثقافية عالية، وفي الوقت نفسه الذي يمثل ميدان التحرير نقطة التقاء لتنوعات اجتماعية بتفاوتات طبقية، فإنه يمثل أيضًا مساحة ذات رمزية ثقافية بتواجد المقاهي التي تمثل مساحة حوار ثقافي في محيطه، مثل مقهى ريش مثلًا، وبوجود متاجر الكتب في شوارع مؤدية أو قريبة منه مثل، شارعَي طلعت حرب وقصر النيل؛ بحيث يكسب الميدان زخمًا أكبر بهذه الرمزية، إضافةً إلى موقعه الإستراتيجي الذي يمكّن من الالتقاء. وفي ذات الوقت يجعله موقعه محط الأنظار ومصدرًا للأخبار والمشاهدات وانتشارها عن طريق وسائل المواصلات. يضاف إلى ذلك طبيعة شوارع الميدان، ومرونة هذه المساحة، والقدرة على المناورة فيها والاحتشاد والانسحاب بما يقلل خسائر التجمهر.
إن كل هذه العوامل التي وضعت في وصف مكانة ميدان ما في التأُثير على حيوية حراك اجتماعي واسع، أو ثورة شعبية، يمكن أن نقيس عليها؛ لفهم دور مجتمع أو دولة ما بالتأثير على الشارع العربي عمومًا، وعلى المزاج الشعبي المطالب للحكومات أو المتضامن مع قضاياه المشتركة، وهنا نسأل كيف وما هي خصائص الميدان الحيوي والمؤثر التي اكتسبها الأردن؟
أولًا: الأردن كمحطة التقاء:
نرى أن عمان تمتلك تلك الخصائص المتعلقة بوصفها محطة التقاء لتنوعات كثيفة، وهذا في شقين: الأول؛ المتعلق بذات المجتمع الأردني وتركيبته الداخلية، فالأردن يحوي حالة من التنوع الكثيف والمتجانس إلى حد بعيد، والتي يمكن القول؛ إنها فريدة في محيطه.
ومن المهم الانتباه إلى أنَّ هذا الخليط ليس خليطًا قديمًا كليًا، فعلى الرغم من عراقة مكونات عديدة فيه وتاريخيتها، فإن الصورة النهائية لهذا المجتمع شديد التنوعات والتي نراها اليوم، هي حصيلة تفاعلات القرن الأخير على عكس التنوعات التي شكلتها قرون طويلة في دول محيطة.
يحوي المجتمع الأردني تنوعات دينية بين مسلمين ومسيحيين، إضافةً إلى إثنيات مختلفة تضم إلى جانب الأردنيين من أصول أردنية والأردنيين من أصل فلسطيني، وبعض الأردنيين من أصول شامية وغيرها، مكونات مثل الأردنيين من الشركس والشيشان. وصنعت هذه المكونات مجتمعًا كثيف التنوع في مساحة جغرافية صغيرة، ومدة زمنية قصيرة، وهو ما طور لديه أدوات اتصال وحضور نوعية ومميزة؛ ليتمكن من المحافظة على انسجامه وسلامة تفاعله.
عبور اجتماعي وجغرافي
إن هذه القدرات الاتصالية والحضورية العالية مكّنت المجتمع الأردني مبكرًا من العبور الجغرافي والاجتماعي إلى العالم العربي افتراضيًا أو واقعيًا. ففي عديد من الدراسات والإحصاءات مثلًا، يظهر المحتوى الذي يخرج من الأردن كأحد أهم المحتويات وأكثفها حضورًا وتأثيرًا على منصات التواصل الاجتماعي على صعيد عربي.
ثانيًا؛ يضاف إلى هذه العناصر الذاتية عناصر أخرى متعلقة بسكّان الأردن، وليست فقط بمواطنيه، ففي حين يصل عدد المواطنين الأردنيين إلى 8 ملايين، فإن سكان الأردن بلغوا في نهاية عام 2023 ما يقترب من 11.4 مليون فرد، أي أن المجتمع الأردني يستضيف ما يكافئ نصف عدد سكانه من المجتمعات العربية الأخرى، حيث إن ثلث سكّان الأردن ليسوا مواطنين. تضم هذه النسبة الكبيرة التي تزيد على ثلاثة ملايين نسمة مكونات فلسطينية، وسورية، وعراقية، ويمنية، وليبية، ومصرية مستقرة منذ سنوات طويلة في داخل المجتمع الأردني بصيغة لجوء، أو كعمالة وافدة، وخصوصًا المصريين منهم.
إن كل هذا التنوع بين سكان الأردن يبقي المجتمعات التي تمتلك جاليات ومقيمين في داخله على اتصال دائم به. ومن الجدير بالذكر هنا، أن طبيعة تواجد هذه المكونات في الأردن لا تحمل صيغة العاملين المقيمين في الخليج، فطبيعة الإقامة هناك مختلفة إلى حد بعيد. إضافةً إلى أن اللاجئ تحديدًا يكوّن فضاءً اجتماعيًا مختلفًا عن ذلك الذي يبنيه المقيم، خصوصًا عندما يعيش خارج المخيمات ويتصل بالمجتمع المستضيف. عدا عن خصوصيات مجتمع الخليج وطبيعة علاقاته بالعاملين فيه، والتي قد لا توفر فرصًا كبيرة لاندماج المكونات الأخرى معه، ما يبقي حالة التمايز موجودة بشكل واضح، وهو ما لا يظهر بهذه الصرامة في المجتمع الأردني؛ لاعتبارات متعلقة بالمساحة وطبيعة العمل وظروف أخرى عديدة.
يضاف إلى هذا أن الأردن من الدول التي تمتلك ثلاثة قطاعات مهمة تستقطب الوافدين وتبقيه على اتصال كثيف بمحيطه، الأول؛ هو قطاع الصحة، والذي يستقبل مئات الآلاف من المستفيدين كل عام، والذين هم بغالبيتهم من العرب أو الإقليم على الأقل، حيث إن الأردن استقبل في عام 2023 فقط قرابة 200 ألف مريض.
وأما القطاع الثاني؛ فهو قطاع التعليم، ففي ظل توسع القطاع التعليمي بشقيه: الخاص والعام، فإن الأردن استقبل قرابة 46 ألف طالب دولي في العام الدراسي 2022/2023.
وأخيرًا؛ فإن الأردن وفي الأعوام الأخيرة وفي ظل اضطراب الإقليم من حوله، قد تحول إلى وجهة سياحية مركزية في الإقليم، وحتى على مستوى العالم. حيث نمت واردات قطاع السياحة في عام 2023 بنسبة 27%، مما جعل الأردن في المركز التاسع على مستوى العالم من حيث نمو القطاع السياحي.
محطة التقاء واتصال
إن كل هذه العناصر التي ذكرناها – ابتداءً من تنوع المجتمع الأردني ذاته وتطويره أدواته الاتصالية الواقعية والافتراضية، وتواجد أعداد كبيرة من المقيمين واللاجئين العرب الذين يبقون المجتمع الأردني على اتصال بمحيطه العربي، مضافًا إلى ذلك القطاعات الاقتصادية التي تستقبل أعدادًا كبيرة من العرب – تجعل من الأردن محطة التقاءٍ واتصالٍ عربي مهمة للغاية، يدعّم هذا الموقع الجغرافي الوسيط بين عدد كبير من الدول العربية.
ثانيًا: الأردن والرمزيات:
إن من أهم النقاط التي تم تناولها في خصائص الميادين الحيوية والمؤثرة، امتلاكَ تلك الميادين رمزية ثقافية وسياسية. وهو ما يمكن معه القول؛ إن عمّان بدأت بتحصيله وتنميته في العقد الأخير. ففي ظل اختفاء دور سوريا والسينما التي كانت تنتجها، وفي ظل الظروف السياسية والتضييقات، وتحديد سقف الحريات في مصر مما أثر على إنتاجها المعرفي الكبير في فترات سابقة، إضافةً إلى تراجع دور لبنان، خصوصًا فيما يتعلق بالإعلام وبطباعة الكتب ودور النشر في ظل الأزمات المتلاحقة التي تعرض لها، فإن عمّان كانت تنمي في هذا الوقت سوق كتب مميزًا، وتوسعت دور النشر فيها بصورة ملاحظة، كما توسع قطاع الإعلام والإعلام البديل فيها، ولعب دورًا مهمًا في استضافة المؤتمرات.
إن ما يتعلق بسوق الكتب والنشر والإعلام لا يمثل علامة فارقة جدًا في رفع قيمة الأردن على الصعيد الثقافي على الرغم من تقليص المسافة بين عمّان والقاهرة وبيروت عما كانت عليه سابقًا في هذا السياق.
ويبقى الأثر الأهم، وهو بنوع جديد من الرمزيات، ففي حين كانت الرمزيات مرتبطة في مرحلة ما بالكتب والسينما والإعلام الرسمي؛ فإن الرمزيات بعد الربيع العربي أصبحت أكثر ارتباطًا بمواقع التواصل الاجتماعي التي يحقق الأردنيون – على ما يبدو فيها – نجاحًا كبيرًا وحضورًا كثيفًا. وبالمؤتمرات الشبابية التي تجمع الشباب من مختلف مناطق الوطن العربي. وهو ما حصلته عمّان بتحولها إلى منصة استقبال لأعمال المؤتمرات والندوات الثقافية والسياسية.
فمع نموّ قطاع المنظمات غير الحكومية في الأردن، أصبحت العاصمة الأردنية – ودون مبالغة – "مدينة مؤتمرات". وقد يتساءل كثر عن ضخَامة حجم قطاع الفنادق الذي تزدحم به عمان على الرغم من صغر حجم السياحة فيها، والسر هنا أن هذه الفنادق تعتمد بشكل كبير على أعمال المؤتمرات والأنشطة المحلية والدولية التي تستضيفها عمّان. مما حول المدينة إلى فضاء نقاش عام واسع، منح المدينة رمزية ثقافية مهمة. وهو بالمناسبة ما كانت تزاحمها فيه تونس قبل أن يتراجع هذا الدور مع قدوم قيس سعيد إلى السلطة.
يضاف إلى النقاط السابقة، وقوع الأردن إلى جانب فلسطين. حيث يكتسب الأردن نتيجة ارتباطه بفلسطين جغرافيًا واجتماعيًا مكانة مميزة تجعله في كثير من الأحيان محط الأنظار، ويحفز هذا متابعة الأحداث فيه، خصوصًا تلك التي ترتبط بالقضية الفلسطينية. لدرجة يمكن القول معها أحيانًا؛ إن عمان تصبح تحت المجهر العربي. كما منحها هذا رمزية عالية في أدبيات متنوعة قومية وإسلامية، وحتى على الصعيد العاطفي البسيط.
وأخيرًا؛ يمكن القول؛ إن الأردن اكتسبَ من بعض النقاط التي أوردناها في المحور السابق، رمزيةً أخرى على الصعيد الثقافي نتيجة وجود قطاعَي الصحة والتعليم خصوصًا. حيث خرّج أعدادًا كبيرة من المعلمين والأطباء والمهندسين الذين عملوا في مناطق عديدة أهمها الخليج، ولم يشتبكوا بالمجتمع الخليجي فقط، بل بجاليات المجتمعات الأخرى هناك. وغالبًا ما كان الأردني والفلسطيني يمثلان صورة يمكن القول؛ إنها نخبوية إلى حد ما نتيجة الأعمال التي قاموا بها في مراحل مبكرة في الخليج، مكرسين بذلك صورة ثقافية واجتماعية خاصة، منحتهم مكانة، بغض النظر عن حجمها، إلا أنها عززت نوعًا ما مستوى التأثير والحضور المميز لهذا المجتمع.
ثالثًا: الأردن والمرونة ومساحة المناورة
إن من خصائص الميادين الحيوية والمؤثرة، أن تكون ميادين ذات مساحات مرنة، توفر فرصًا للمناورة، حيث تحتشد الجماهير وتستطيع أن تتفرق بسهولة في حالة التهديد، ثم تتمكن من العودة إلى تجميع نفسها. إن هذه الخاصية تتيح للميادين أن تبقى مشتغلة دون أن يتحطم حراكها أو يتوقف النشاط فيها، وتبقى في حالة كرّ وفرّ، ما يتيح استدامة صورتها كفاعل. في إسقاط لهذه الشروط المكانية والمتعلقة في المساحة، يمكن أن نفهم دور طبيعة التفاعل السياسي إجمالًا في الساحة الأردنية، وليس فقط حراك الشارع في تعزيز تأثير الأردن على محيطه.
ترسيخ التوازنات
إن طبيعة البناء السياسي الأردني، تاريخيًا، لم تحمل صفات النظم السياسية الشمولية التقليدية، بل كانت ممارسات السلطات الرسمية دائمًا تترك مجالًا مضبوطًا للمناورة والتفاعل مع القوى السياسية. وينبع ذلك من تعاقد اجتماعي معقد بين الدولة ومجتمعها المركب. فهي أولًا؛ تمتلك، منذ وقت مبكر، تيارات سياسية ومساحة تمثيل سياسي برلماني، وتشهد منافسات بين الحكومات وهذه التيارات، إضافةً إلى منافسات بين هذه التيارات. وثانيًا؛ أن الحالة السياسية في الأردن- وعلى الرغم من كونها مملكة يحضر فيها وزن تنفيذي للمؤسسة الملكية، وتظهر قوتها بوضوح في معالم الحكم – فإنها مع ذلك لا تقتصر عليها كفاعل وحيد، بل تلعب الملكية دورًا يقوم بالأساس على ترسيخ التوازنات بين كل التنوعات السياسية والاجتماعية التي أشرنا إليها سابقًا، مع المحافظة على موقع قوة متقدم.
إن هذه الخصائص كانت تدفع – وباستمرار – نحو حالات من التوسع والانحسار للفضاء العام والمجال السياسي في البلاد وفقًا للظروف الإقليمية التي تمر بها، إضافةً إلى توازنات القوة في داخلها. وهي صفة للشارع الأردني على ما يبدو أنه قد تم تناولها جديًا في بعض الدراسات والأبحاث، مثلما يتحدث به لاري دايموند في كتابه "روح الديمقراطية"، عن أن كلًا من الأردن، ومصر في فترة مبارك اتبعتا نهجًا متشابهًا في توسيع وتضييق الفضاء العام ظرفيًا، بما يضمن مصالح النظام السياسي، ويمنع الأوضاع من التدهور إلى صدامات حادّة ونهائية.
جعلت هذه الصورة الفضاء السياسي الأردني يبدو أكثر مرونة مقارنةً بالمحيط العربي. فلا تظهر في الأردن حالات إعدام لِبِنى سياسية، أو حظرها بالشكل الذي عرفته كثير من الدول العربية. في حين أنه إذا كان هناك تقدير بخطورة جسم سياسي ما، فإن مؤسسات الدولة لا تدخل في صدام مباشر معه، بل تتبع إستراتيجيات احتواءٍ، أو تفكيكٍ تدريجي في حال فشلت الأخيرة.
كما أن الأردن لم يعهد حالات من الصدام الدموي في ميادينه ولا في محاكمه، ما جعل فرص التحرك والذهاب والإياب باستمرار فيه ممكنة، وذات كُلَف غير عالية نسبيًا. أبقت هذه الصورة الأردن ساحة تفاعل مستمر لم يُعدم فيها الفضاء العام كلّيًا، وإن تراجعت فاعليته بجعل الأحزاب ضعيفة الحضور في المعادلة السياسية مثلًا، أو بقوانين انتخاب حدّت من التمثيل السياسي على حساب تمثيل البنى الاجتماعية، وهو ما جعل من دور مجالس النواب دورًا خدميًا في فترات متعددة.
ساعدت هذه الاستمرارية بغض النظر عن تفاوت فاعليتها عبر المراحل المختلفة على تناقل موروث العمل السياسي بين الأجيال المختلفة، حيث لم ينقطع اتصالها كليًا رغم التفاوتات والاختلافات بينها، وطورت خبرات عديدة، منها ما بنى على ما سبق من خبرات بالتصالح معه، أو نقده والعمل على تجديده؛ إلا أنه وفي كلتا الحالتين يبقى الاتصال بين خبرات الأجيال مهمًا، وهو ما وفره عدم وجود قطع كلي في العمل السياسي في البلاد. كما طوِّرت نتيجة هذه الاستمرارية مهارات خاصة بالشارع، وأدوات مميزة للتعبير، وحافظت على حضور للنشاط الأردني في الساحة العربية، خصوصًا مع حالة واضحة من المهارة العالية والحضور الكثيف في مواقع التواصل الاجتماعي.
دور محفز ومشجع
يمكن القول؛ إن هذه العوامل السابقة مجتمعة منحت الأردن دورًا مهمًا في التأثير على الساحة العربية ككل، وجعلت من قدرته على استنهاض المجتمعات الأخرى ودفعها نحو التحرك أكبر منها عند غيره. ومن الجدير بالذكر هنا أن ننوّه إلى أننا لا نعتقد بأن السلطات ومؤسسات الدولة الأردنية غافلة عن هذه الخصائص التي يمتلكها شارعها، بل إنها وفي كثير من الأحيان استثمرتها واستفادت منها في مواجهة معادلات إقليمية لا تحتملها وضغوطات اقتصادية استدعت إيصال رسائل معينة للإقليم والخارج، وهو ما نعتقد أنه قد تم مع حراك 2018 مثلًا، الذي تزامن مع تحديات صفقة القرن وأزمة اقتصادية كبيرة في الأردن. ما دفع الأردن إلى التعامل مع الشارع بصورة معينة، سمحت لتأثيره بالعبور نحو الخارج، في محاولة لإيصال رسائل لجيرانه وحلفائه الدوليين ليتحركوا نحو إيقاف المخاطر التي كان يراها النظام السياسي، أو المساهمة في تجاوز أزمته الاقتصادية.
إن من أهم ما يعتمد عليه الشارع في تحفيز تحركه وإنعاشه هو الأمل، الذي يلعب دورًا أساسيًا في إقناع ودفع القواعد الشعبية نحو التحرك. مرت المنطقة العربية بفترة منذ انعكاس الربيع العربي وتحوله إلى مجموعة من الانقلابات والنزاعات الأهلية، تكرست فيها حالة خيبة أمل ثقيلة ثبطت تحرك المجتمعات. وأصبحت نماذج الانهيار للثورات وتحولها لفوضى عارمة وتفتيت المجتمعات صورة حاضرة في الخيال الشعبي. وعملَ العديد من القوى السياسية المستفيدة من إخماد موجة ثورات الربيع على تكريس هذه الصورة من الفشل، والمآلات غير المحمودة لتحرك الشارع، لنفي جدوى التحرك وتعطيله. في حين أن لحظة واحدة من إعادة إثبات الجدوى التي قدمها الشارع الأردني في عام 2018 بتمكنه من إسقاط حكومة دون دفع فواتير تفتت للمجتمع وتدمير للدولة؛ كان لها -على ما يبدو- دور مهم في التأسيس لموجة ثانية من الثورات في دول عربية عديدة.
ولابد أن نؤكد هنا أننا لا نقول؛ إن تحرك الشارع الأردني كان السبب في تحريك تلك الشوارع، بقدر ما أنه لعب بالتوازي مع ظروفها واحتقان واقعها والأسباب الذاتية التي تمتلكها للثورة؛ دور المحفز والمشجع. وهي الثنائية التي يشير إليها عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاستلز في كتابه "شبكات الغضب والأمل"، كما أشارت له العديد من الأعمال الروائية والسينمائية المهمة، التي شرحت تأثيرات الخوف والأمل على تنشيط التحرك أو تحفيزه وفكرة العدوى وإيجاد القدوة. ونعتقد أن التحركات على الساحة الأردنية، وخصوصًا فيما يتعلق بفلسطين تبثت شيئًا من الأمل لدى المجتمعات الأخرى، وتصنع حالة من التحفيز لما يرتبط به الأردن بالقضية الفلسطينية من اعتبارات سياسية وجغرافية واجتماعية تبقيه محط الأنظار.
مسؤولية مشتركة
ونخلص هنا إلى إن لكل مجتمع عربي خصائص مميزة، وظروفًا خاصة، تحدد طريقة تفاعله مع واقعه وميله نحو استخدام أدوات الشارع أو غيرها، وتدفعه نحو التحرك في أنماط معينة؛ استجابةً لمطالبه وتفاعلاته الداخلية. إلا أنه ومع ذلك، يبدو أن للمجتمعات العربية قاعدة مشتركة واسعة، تجعل من تفاعله المشترك وتأثره ببعضه بعضًا مشهدًا معتادًا وواضحًا، ويبدو أن لمجتمعات معينة تأثيرًا أكبر من غيرها على المجمل العربي؛ نتيجة خصائص معينة تمتلكها، إما نتيجة سياقها الداخلي أو نتيجةً لظروف إقليمية محددة ترفع من حضورها وتأثيرها. ولكن هذا التأثير لا يمكن له أن يكون مولدًا لتحرك المجتمعات، ولا أن يصنع حراكها، بقدر ما أنه يلعب دورًا محفزًا في حال توافرت الظروف والحاجة للتحركات عند هذه المجتمعات. وهو الدور الذي يبدو أنه- ونتيجة تقاطع مجموعة من الظروف- بات اليوم مرتبطًا بالمجتمع الأردني وشارعه وتحركاته.
وختامًا؛ لابد أن نشير إلى أن هذه الخصائص – التي تمتلكها شوارع معينة كما هو في الأردن اليوم والتي تمنح المجتمعات والدول دورًا فاعلًا وأوراق قوة على الساحة العربية- هي في ذات الوقت تضعها في موقع مسؤولية بالصورة التي تبنيها عن حراكها ومدى نجاحه واتزانه، والتي ستنتقل إلى المجتمعات الأخرى وتأثر عليها وعلى معنوياتها.
فهي تقف كمؤثر على حافة بناء الأمل أو صناعة الخوف، وحافة تزيين أو تشويه فكرة العمل السياسي في الشارع أو غيره، والتأثير على مدى جدواه من عدمه في مخيال المحيط الذي تؤثر فيه. وهي مسؤولية تشترك فيها القواعد الشعبية والمؤسسات الرسمية. مضافًا إلى ذلك، فإن هذه الخصائص أيضًا تضع هذه الدول والمجتمعات التي تمتلك هذه القدرة من التأثير في حالة من الخطر أحيانًا، وخصوصًا خطر التدخلات الخارجية التي قد تسعى لاستخدام قوة شوارعها لإيصال رسائل معينة، أو استهداف مكونات وفواعل سياسية، وهو الذي يرفع من مستوى المسؤولية التي ذكرناها سابقًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.