مصير عمران خان أم مصير باكستان؟
لم تعد مواجهة الجيش الباكستاني بقفازات سياسية أو قضائية أو إعلامية، كما تميّزت مواجهاته على مدى تاريخ باكستان الذي يعود إلى انفصالها عن الهند عام 1947، فقد كانت مواجهاته السابقة مع القوى السياسية تتم عن بُعد، ومن خلال قفازات سياسية أو قضائية أو إعلامية، تخفف عنه كُلف الغضب الشعبي الذي عادة ما تُفرّغ في الأدوات والأذرع.
لقد كشفت المواجهات الأخيرة بين الجيش الباكستاني وحزب "إنصاف" بزعامة عمران خان عن قواعد اشتباك سياسية جديدة، فرضت على الجيش الخروج من ثكناته، والتصدي للمعركة بشكل مباشر، مما وضعه في ظروف صعبة للغاية، تجرّأ من خلالها ناشطو وأتباع عمران خان لأول مرة في تاريخ باكستان على مهاجمة مقرات الجيش والعبث بمحتوياتها، بعد أن كان الجيش والمؤسسة العسكرية الباكستانية محل إجماع بين القوى السياسية والشعبية، لكن في المواجهة الأخيرة غدا طرفا أساسيا في المواجهات الدامية التي راح ضحيتها قتلى وجرحى، بعد أن نجح عمران خان في جره لساحة الصراع الداخلي، بعد أن كانت ساحات الصراع هذه حكرا على الأحزاب السياسية، وهو ما سيضع البلاد في خطر حقيقي كما يرى كثير من العقلاء، لسبب بسيط أن القوة الحقيقية التي تمثل الوحدة الوطنية، والمجمع عليها شعبيا كانت ولا زالت المؤسسة العسكرية.
اعتقال عمران خان على خلفية فساد مالي، وقضية بيعه هدايا أُهديت إليه خلال فترة رئاسته للحكومة، عبارة عن دخان يُخفي وراءه الكثير من الحقائق والصراعات الداخلية والإقليمية والدولية، ولعل عمران خان المتهم في بداية صعوده الصاروخي، فتمكن من هزيمة أهم حزبين تقليديين سياسيين في باكستان مثّلا الإقطاعية السياسية في باكستان لعقود.
لم يكن صعوده ممكنا من دون دعم ومساندة القوى العسكرية والأمنية في باكستان، التي سريعا ما سعى خان إلى التخلي عنها، وبدأ بالسعي إلى تقليم أظافرها أسوة بالمدرسة الأردوغانية حين نجح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تقليص دور العسكر في السياسة التركية، لكن "شتان بين التجربتين"؛ إن كان من حيث الوقت الطويل الذي استغرقته تجربة أردوغان حتى أفلح في ما وصل إليه، أو من حيث الوقائع والظروف الباكستانية التي تختلف وتتباين مع الحالة التركية، حيث تمكن وتجذر العسكر في باكستان، مع ضعف المؤسسات الديمقراطية الأخرى مقارنة بتركيا، وفي كثير من الأحيان نفوذ العسكر وتأثيره على تلك المؤسسات؛ إن كانت القضائية أو الإعلامية وحتى التشريعية.
الظاهر أن عمران خان حسم خياراته في مواجهة العسكر؛ فرفض منذ البداية أن يتعامل مع الوكلاء السياسيين، فعمد إلى تعيين قائد للجيش، ومعه رئيس للاستخبارات، وهو ما أغضب الجيش، حيث لا بد أن يتخذ مثل هذه القرارات بالتشاور والتنسيق والتناغم مع المؤسسة العسكرية، وحين فُرض عليه رئيس الاستخبارات عاصم منير سعى إلى تشويهه ومهاجمته، واتهمه بأنه خلف محاولة الاغتيال التي تعرض لها، كما شن هجوما إعلاميا مركزا ومتواصلا على المؤسسة العسكرية، وهو ما دفع الناطق باسم الجيش الباكستاني إلى نفي كل ما ردده عمران خان.
الملفت والمهم في شخصية عمران خان أنه بشتوني، وهي الشخصية المعروفة بقبولها التحدي ورغبتها فيه، بالإضافة إلى أنه شخصية أقرب إلى جيل الشباب، وهو الجيل الذي يشكل أكثر من 60% من الناخبين الباكستانيين، بالإضافة إلى تأثيره الكبير وسط الفتيات؛ وهي كلها عوامل مهمة شكلت رافعة حقيقية في وصوله إلى السلطة أولا، بالإضافة إلى أنها رافعة حقيقية في قدرته على حشد الأتباع والمؤيدين، ولذا فإن أي تغريدة على تويتر ينشرها يعيد في غضون ساعة أو أقل تغريدها عشرات الآلاف من المتابعين، مما يعني قدرته الفائقة على الوصول إلى العنصر الشبابي، وهو العنصر الأهم في التعبئة والحشد والتضحية، وقد رأينا ذلك في مهاجمتهم مراكز الجيش بشكل غير مسبوق لم تعهده باكستان من قبل.
ما يُقلق الخبراء والمحللين اليوم أن يتم حظر حزب عمران خان بعد التعدّيات التي قام بها أتباعه بحق المؤسسة العسكرية ومنشآتها، مما أضرّ صورتها وسط الجمهور الباكستاني، وهو الأمر الذي يجعل باكستان إن هي أقدمت على ذلك أن تكرر الخطأ الذي ارتكبته سابقا في حظر حركة المهاجرين القومية، مما أدى إلى خروج زعيمها ألطاف حسين للمنفى الاختياري في لندن، فأسفر ذلك عن انشقاقات في الحركة، وهو ما فرض حالة جديدة على السياسيين والعسكريين الباكستانيين، مع فقدان الرأس الواحد الموجه وهو زعيمها ألطاف حسين، وحتى الرأس الموجه بدأ العسكريون والسياسيون يتوافدون إلى لندن من أجل أخذ رأيه وطلبًا لتدخلاته.
إن ما حققه عمران خان خلال السنوات الماضية ليس بالسهل، ولا يمكن شطبه بقرار حظر ونحوه، ولذا لا بد من التعاطي مع مسألة اليوم بذكاء وحرص، وتفهم الحالة الجديدة التي وصلت إليها باكستان، إذ إن معالجة الواقع بأدوات الماضي لم تعد تجدي نفعا، فلا بد من أدوات حديثة في معالجة واقع أحدث، يتطور بشكل سريع، مع سرعة وسائط التواصل الاجتماعي، وتطورات الجيل الجديد.
الحالة التي أراد عمران خان نقل باكستان إليها بعيدا عن النفوذ العسكري ربما طمح الكثير إليها من قبل، ولكنهم ذهبوا ضحية أحلامهم الكبيرة التي اصطدمت بالواقع على الأرض؛ وعلى رأسهم ذو الفقار علي بوتو ثم ابنته بينظير بوتو، فكلاهما ذهبا ضحية ذلك. اليوم المؤسسة العسكرية ينبغي أن تكون في المحل الآخر، بحيث تستوعب دروس الماضي والحاضر، وأن الزمن لم يعد كما كان، والأمر نفسه ينطبق على عمران خان، وهو أن القفزات في الهواء لن تحقق شيئا لحزبه، ولا لباكستان، فمن الصعب شطب عامل رئيسي في السياسة الباكستانية، ألا هو المؤسسة العسكرية بهذا الشكل، وهي التي ظلت عقودا أمينة على الأمن القومي الباكستاني، الذي لا يمكن تسليمه وإسناده لأحزاب سياسية، يسارع قادتها إلى الإقامة في الخارج في حال خروجهم من السلطة، فهم في باكستان ما داموا في السلطة، وحال خروجهم منها يفضلون الإقامة في المنفى الاختياري.
الواقع الدولي والإقليمي مضطرب؛ سواء في كان في روسيا أو في أفغانستان وإيران، وحتى عند حلفاء باكستان في السعودية ونحوها، مما سينعكس على الواقع الاقتصادي الباكستاني الهش، حيث إن الكل في باكستان يضع أياديه على قلبه إذا استمرت المواجهة بهذا الشكل، الأمر الذي سينعكس سلبا على الاقتصاد وعلى التماسك المجتمعي، وهو ما يعني أن دولا إقليمية عدة ستستغل الظرف الباكستان هذا للتمدد سياسيا واجتماعيا على حساب هذه الفوضى، وكل ذلك على حساب باكستان وحلفائها.
المطلوب اليوم هو خلية حكماء باكستانيين ترتقي إلى مستوى الحدث، بعيدا عن الفصائلية والحزبية والشخصية، لتضع خريطة طريق حقيقية مقبولة للطرفين، فتوقف الهدر والاستنزاف في باكستان بشكل يومي، وإلا فإن الكل سيخسر، والكل سيدفع الثمن، وعلى رأسهم الشعب الباكستاني.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.