كيف أضرت سياسة إنجاب طفل واحد بالصين؟
مثلت زيادة أعداد السكان في الصين كابوسًا حقيقيًّا لكل النظم التي تعاقبت على حكم الصين خلال القرنين الأخيرين. وأدرك الحزب الشيوعي الصيني منذ سيطرته على مقدرات البلاد، في نهاية أربعينيات القرن الماضي، ضرورة مواجهة أزمة زيادة السكان.
وبعد إحكام الحزب سيطرته على كل مفاصل الدولة الصينية، اتخذ قرارا دراكونيا حاسما في نهاية سبعينيات القرن الماضي لمواجهة الزيادة السكانية عرف بسياسة "الطفل الواحد" التي تم تنفيذها بين عامي 1980 و2015 عن طريق تقييد العائلات بعدم إنجاب أكثر من طفل واحد.
كانت هذه المبادرة جزءًا من جهد أوسع تضمن رفع الحد الأدنى للسن عند الزواج والإنجاب. واتبعت الحكومة الصينية أساليب متعددة لتنفيذ القانون وفرضت غرامات مالية كبيرة على من تجرأ على مخالفة القواعد، كما لجأت إلى فرض استعمال وسائل منع الحمل الإلزامية، وتبني سياسة التعقيم التي تمنع القدرة على الإنجاب.
الكثير من العائلات الصينية حرصت على إجراء عمليات إجهاض انتقائية من أجل الرغبة في الحصول على طفل ذكر، وسبّب ذلك اختلالاً كبيرًا في التوازن بين الذكور والإناث، لذا توجد فجوة كبيرة واضحة في أعداد البنات بين الأطفال الصينيين
وينسب الحزب الشيوعي الصيني لهذه السياسة الفضل في الصعود الاقتصادي الاستثنائي الذي شهدته الصين خلال نصف القرن الأخير، ويقول إنه منع نحو 400 مليون ولادة جديدة. وفي عام 2015 ألغت الحكومة الصينية جميع سياسات الطفل الواحد، وسمحت للعائلات بإنجاب طفلين كحد أقصى، وفى مايو/أيار 2021، تم تخفيف هذه الحدود والسماح بإنجاب 3 أطفال كحد أقصى.
وفي نهاية عام 2022، جاءت أنباء تتعلق بسكان الصين سبّبت ما يشبه الصدمة المجتمعية، إذ تراجع نمو الاقتصاد الصيني خلال 2022 إلى أحد أسوأ مستوياته في قرابة نصف قرن بسبب تبعات سياسة الإغلاقات الصارمة المرتبطة بـ"كوفيد-19″. كما جاء خبر انخفاض عدد سكان الصين عام 2022 بـ850 ألف نسمة مقارنة بسكانها 2021 ليمثل صدمة، إذ لا يرى الخبراء هذه الظاهرة كشيء إيجابي على الإطلاق.
وعلى الرغم من محاولات الحزب الشيوعي الصيني لعقود من الزمان هندسة النمو السكاني ليصبح بطيئا، فإن تباطؤ نمو الاقتصاد وانخفاض عدد المواليد يشكلان تحديًا كبيرًا للرئيس شي جين بينغ.
فالتركيبة السكانية للصين ليست جيدة على الإطلاق، فقد نتج عن عقود من تطبيق سياسة "الطفل الواحد" اضطراب اجتماعي هائل، خاصة أن الكثير من العائلات الصينية حرصت على إجراء عمليات إجهاض انتقائية من أجل الرغبة في الحصول على طفل ذكر، وسبب ذلك اختلالا كبيرا في التوازن بين الذكور والإناث، لذا توجد فجوة كبيرة واضحة في أعداد البنات بين الأطفال الصينيين.
من ناحية أخرى، عندما رغب الحزب الشيوعي في تشجيع العائلات على إنجاب أكثر من طفل، اكتشف أن أغلب الصينيين غير راغبين أو غير قادرين على إنجاب المزيد من الأطفال، وهو ما يجعل هناك نقصًا كبيرًا في أعداد الصغار مقارنة بالكبار.
وحدث ذلك ويحدث في العديد من الدول المتقدمة مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وأغلب دول أوروبا الغربية، التي تعرف انخفاضاً في عدد المواليد، لكن الفارق في التجربة الصينية أن ذلك حدث سريعًا جدًّا خلال عقد واحد من الزمن، وهو العقد الأخير، في حين استغرق الوصول لهذه النقطة في الدول الأخرى نصف قرن على الأقل، وجاء تدريجيًّا بطيئًا.
عصر النمو السريع الزائد على 10% وتوافر العمالة الرخيصة، والقوى العاملة الأصغر سنا، في طريقه ليصبح جزءًا من تاريخ الصين وليس مستقبلها
من ناحية أخرى، ومع حدوث تطور اقتصادي مذهل في الصين، تراجعت رغبة الكثير من النساء -اللواتي حصلن على تعليم جيد ووظائف مهنية- في الزواج، ناهيك عن الرغبة في الإنجاب.
وأصبح المجتمع الصيني يتميز بنسبة ذكور مرتفعة، ونسبة مرتفعة للغاية من كبار السن، ممن تقاعدوا، أو سيتقاعدون قريبًا، وتشير تقارير إلى أن 25% من القوة العاملة الصينية ستتقاعد بنهاية هذا العقد، وهو ما تنتج عنه تغييرات اقتصادية واجتماعية كبيرة، سواء فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي أو توفير الرعاية الصحية لكبار السن.
وجاءت البيانات الرسمية الصينية لتظهر أن الاقتصاد نما بنسبة 3% فقط العام الماضي، وهي نسبة نمو محدودة لدولة لا تزال تعمل على انتشال مئات الملايين من مواطنيها من الفقر.
ولا يمكن تجنب إلقاء اللوم على سياسة الرئيس شي جين بينغ المدمرة للاقتصاد والمعروفة باسم "صفر كوفيد" والتي تسبب فشلها في مظاهرات واحتجاجات شعبية غير مسبوقة في الصين خلال ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهو ما دفع بكين للتوقف عن هذه السياسة والعودة لفتح الاقتصاد.
ودفعت هذه الأنباء الاقتصادية السيئة بالصين إلى تغيير لهجة خطابها السياسي كما ظهر في كلمة نائب رئيس مجلس الدولة الصيني، ليو خوه، أمام منتدى دافوس، حيث أظهر موقف أقل عدائية تجاه المستثمرين الأجانب والشركاء التجاريين. وقال ليو "سيلعب رواد الأعمال، بمن فيهم المستثمرون الأجانب، دورًا حاسمًا لأنهم العناصر الرئيسية لخلق الثروة الاجتماعية". وجاء هذا الموقف الصيني الجديد بعدما بدأت واشنطن جهودًا جادة لسحب الكثير من سلاسل التوريد العالمية من الصين، ونقلها لدول أخرى كفيتنام والمكسيك والهند، إضافة لخلق تلك الخاصة بها.
وكانت سياسات الرئيس الصيني الاقتصادية تعكس رغبة في السيطرة السياسية من أعلى إلى أسفل على الأنشطة الاقتصادية، إلا أنه يبدو وقد تراجع بسبب تأثير تفشى وانتشار فيروس "كوفيد-19″، إضافة لخطأ سياساته في الإغلاق الكامل.
وخلال كلمته الشهر قبل الماضي في الاجتماع العام للحزب الشيوعي الصيني، تحدث الرئيس الصيني عن أزمة السكان في بلاده مطالبا بزيادة الإنجاب لكن يبدو أن أغلب الصينيين لم ينصتوا له هذه المرة. ويعني ذلك أن عصر النمو السريع الزائد على 10% وتوافر العمالة الرخيصة، والقوى العاملة الأصغر سنا، في طريقه ليصبح جزءًا من تاريخ الصين وليس مستقبلها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.