لماذا عجزت أميركا عن رعاية السلام في الشرق الأوسط؟
بلغ العدوان الإسرائيلي على غزة درجة لا درجةَ بعدها في إفادة معنى الهمجية والتوحش، هذا في وقت يحاول فيه الإعلام المُبارِك لهذا العدوان إلصاقَ صفة الهمجية والتوحش بالمعتدى عليهم، وهم في غالبيتهم أطفال ونساء يلوذون بالمدارس والمشافي. يقف الإنسان أمام هول ما يحدث من دمار وقتل وتشريد وتهجير وتجويع عاجزًا عن الفهم، يتساءل: هل يدخل هذا كله في خانة شرعية الدفاع عن النفس، أم أن ما يحدث لا ينضبط بضوابط أخلاقية على التحقيق.
إنّ مبتغانا في هذه السطور هو الخروج من دائرة التفاصيل اليومية الدامية للنظر فيما تؤشر عليه الأحداث من معانٍ كبرى تجلي لنا طبيعة النظام العالمي الذي تنتظم داخله الأمم قسرًا لا طواعيةً. ولا يعنينا هنا الخوض في مظاهر الضعف والهوان والعجز أمام حرب الإبادة التي تطال فلسطينيي غزة؛ وإنما يعنينا النظر في القوة التي تقف وراء هذه الإبادة. ومعلوم أن ما يقع يجري بالدرجة الأولى بمباركة الولايات المتحدة الأميركية في المقام الأول.
لقد دخلت أميركا مأزِقًا يصعب الخروج منه، وهي تصر على تقديم الدعم العسكري والمعنوي والمادي لإسناد إسرائيل في عدوانها الهمجي الذي لا هدف من ورائه سوى معاقبة شعب بأكمله؛ إشباعًا للرغبة في الانتقام ليس إلا
تتذرع أميركا بالاصطفاف وراء حليف إستراتيجي؛ كي تبرر انخراطها في العدوان الشنيع على أهل غزة؛ وهذا يقودنا إلى التساؤل: إن كان فيما يحصل- من تدمير ممنهج لمقومات البقاء لشعب بأكمله- تحقيقٌ لمصلحة جيو-إستراتيجية، أم على العكس من ذلك، إضرار بهذه المصلحة؟. ويُخيَّل إلينا أن مصلحة أميركا الجيو- إستراتيجية تقتضي احتواء الأوضاع العسكرية واستمالة أطراف النزاع، على اعتبار أن لهذا النزاع انعكاسات تمتد لتصل المنطقة العربية كلها، ما يخشى معه أن تتقوض صورة أميركا في العالم العربي والإسلامي، وفي ذلك إضرار ليس بمصالحها الجيو- إستراتيجية فحسب، بل الثقافية والأيديولوجية والاقتصادية كذلك.
الواقع أن أميركا- في حقيقة الأمر- تعمى عن مصالحها الإستراتيجية، وما يعميها هو سقوطها في منطق الإمبريالية، هذا المنطق الذي ظلّ يملي على الإمبراطوريات عبر التاريخ التوسّع بغرض إخضاع الآخرين بقوّة السلاح وإرغامهم على الاستسلام. لقد تأتّى لأميركا خلال القرن العشرين إخضاع ألمانيا واليابان بالقوة وإجبار جيوشهما المحاربة على الاستسلام. ولن يقنع العقل العسكري الأميركي بأقل من استسلام غزة استسلامًا تامًا يتأكد معه اجتثاث حس المقاومة من النفوس. هذا هو المقصود بالنصر، كما يتحدد معناه في القاموس الإمبريالي؛ وإلا فهي الهزيمة التي تخدش كبرياء الإمبراطورية التي يبلغ بها الإحساس بالعظمة درجة تبيح لنفسها الفصل في مَن يستحق البقاء على الحياة، وفي مَن تجوز في حقه الإبادة.
كل شيء يوحي بأن عصر الولايات المتحدة الأميركية في إدبار؛ ذلك أنها بلغت المرحلة التي يسميها المؤرخ الأميركي بول كينيدي (Paul Kennedy) في كتابه عن صعود وسقوط القوى العظمى (The Rise and Fall of the Great Powers ) بمرحلة "الامتداد الإمبراطوري المفرط" (Imperial overstretch )، وهي المرحلة التي تفتقر عندها القوة العظمى للوسائل اللازمة لتحقيق ما تصبو إليه من أهداف تَوسعِية.
لقد دخلت أميركا مأزِقًا يصعب الخروج منه، وهي تصر على تقديم الدعم العسكري والمعنوي والمادي لإسناد إسرائيل في عدوانها الهمجي الذي لا هدف من ورائه سوى معاقبة شعب بأكمله؛ إشباعًا للرغبة في الانتقام ليس إلا. لقد ظلت أميركا تسعى- على امتداد العقدين السابقين على أقل تقدير- لاستمالة العالم العربي حتى يصبح شريكًا إستراتيجيًا لمواجهة التمدد الصيني. وقد كانت هناك مؤشرات كثيرة تحمل المراقبين على الاعتقاد بأن الأمور في طريقها إلى الاستتباب، خصوصًا المؤشر المتعلق بالصراع العربي- الصهيوني الذي تَوهّم صناع القرار في أميركا أن حدته في انخفاض.
عبثًا تحاول أميركا إخفاء حقيقة ما يقع على الأرض من مجازر في حق شعب غزة، وعبثًا تحاول الترويج لفكرة "احتواء الصراع"، وهي الفكرة التي تفيد في عمقها تطويق المكان للسماح لإسرائيل بإتمام عملها دون أن يشوش عليها أي طرف ثالث؛ فصور الإبادة الممنهجة لغزة تفتح جبهة صراع جديدة أمام أميركا. مهما كانت نتيجة الحرب ومخرجاتها، فستجد أميركا نفسها مجبرة على خوض معركة الرأي العام، ليس في العالم العربي والإسلامي فحسب، بل عبر العالم. ولئن استطاعت أن تحسم الصراع على الأرض، فإنه يصعب عليها حسم المعركة على مستوى جغرافيا العواطف والمشاعر.
من يتأمل في المظاهرات التي تجوب شوارع العالم العربي والإسلامي، يجد أن ما يعتمل فيها من مشاعر الغضب والاستياء والإحساس بالغبن والذل يصب في تغذية خطاب الكراهية للنموذج الأميركي في فرض القوة وتدبير الصراعات، ولا نحسب أنه باستطاعة أميركا تدارك الأمر بسهولة. إن الموقف الأميركي من العدوان على غزة ساهم ويساهم في تقويض فكرة التحالف الحضاري مع الإسلام. من يحسن الإصغاء للسان حال العالم العربي والإسلامي اليوم يجده ينزع المصداقية عن الخطاب الغربي عمومًا، والأميركي خصوصًا، المتعلق بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكأننا بشعوب المنطقة العربية والإسلامية، أو بشعوب الجنوب كلها، تشعر بأن أميركا بلغت المنتهى في الاستعلاء الذي لا ينضبط بقوانين أو مبادئ أو قيم.
كتب كل من "جيمس بيتراس" و "موريس مورلي" كتابًا تحت عنوان: "الإمبراطورية أم الجمهورية؟ قوة أميركا العالمية وتفككها الداخلي" (Empire or Republic? American Global Power and Domestic Decay ). ترد في هذا الكتاب إشارة إلى أن نجاح الولايات المتحدة في المجال الأيديولوجي والثقافي كان يقاس بتراجع التأثير الماركسي والأيديولوجيات القومية، وتنامي رواج صيغ الهيمنة الأميركية، خصوصًا ما بين نخب أميركا اللاتينية التي صارت- تحت ذريعة الواقعية البراغماتية- لا تتحرج في اعتناق التجارة الحرة، ومشاريع الإدماج الجهوية، وتأدية الديون وغيرها من الأشياء التي كانت تنكرها سابقًا.
لقد وقع الأمر نفسه في العالم العربي، حيث أصبح خطاب الواقعية البراغماتية يغطي على جميع الخطابات الناقدة للنموذج الأميركي في الهيمنة الثقافية والاقتصادية؛ وقد ساهم تشظي الفضاء العمومي- بفعل وسائل التواصل الرقمية- في تضييق ساحة التضخم الأيديولوجي، والتمكين لخطاب المال والأعمال والمصالح تحت سقف ثقافة جديدة تكاد تمحى فيها الحدود بين الهويات الثقافية والدينية. إلا أن العدوان على غزة جاء ليحرض الوعي على طرح أسئلة جديدة متعلقة بمصير الشعوب أمام الإمبريالية الأميركية.
إن ما يحدث في غزة كفيلٌ بأن يضيق ساحة الخلاف الأيديولوجي بين مختلف مكونات العالم العربي الثقافية والفكرية، هذه المكونات التي يبدو وكأنها- وإن اختلفت مشاربها الأيديولوجية- تجتمع حول مساءلة النموذج الإمبريالي الأميركي. ليس هذا فحسب، بل إن ما يحدث في غزة يقسم الداخل الأميركي إلى قسمين: قسم ينساق وراء منطق أميركا الإمبراطورية، وقسم آخر يمارس الاحتجاج؛ انتصارًا لمنطق الجمهورية. وهذا الانقسام- الذي يذكرنا بانقسام المجتمع الأميركي حول حرب فيتنام- سينهك أميركا داخليًا ويزيد في قلة تركيزها خارجيًا، الأمر الذي، لا محالة، يخدم مصلحة القوى الصاعدة، ويعزز مكانتها في عالم الغد.
هل كان في إمكان أميركا القيام بشيء أفضل مما قامت به؟ هل كان بإمكانها اتخاذ موقف أفضل من الموقف الذي اتخذته؟ الجواب هو أنه- في جميع الأحوال- يصعب تصور موقف أسوأ من الموقف الذي اتخذته؛ ذلك أنه موقف فيه تمادٍ في منطق التوسع، وفرض القوة، وهو من شأنه أن يسد الطريق في وجه كل المبادرات المستقبلية، ويسقط عن أميركا- بطريقة لا رجعة فيها- صفة الراعي للسلام في المنطقة.
وهل هناك أفق للسلام؛ أفق لحل معضلة القضية الفلسطينية؟ قد يصعب تصور هذا الأفق في سياق الحرب الدائرة رحاها اليوم، لكن المسؤولية الأخلاقية تقتضي العمل على إيجاد حل يجنب المنطقة مزيدًا من الدمار والخراب والخسائر في الأرواح. وجزء من الحل يكمن في فك الارتباط بين فكرة إسرائيل الدينية وسياسات أميركا الإمبريالية. إن الدمج بين الأمرين يعِد بمستقبل مظلم لا مكان فيه إلا لحروب العقيدة. أليس من المفارقات الكبيرة أن نسمع المتطرفين الدينيين في حكومة إسرائيل يخاطبون الغرب قائلين، إن الحرب ضد غزة هي حرب لحماية المنظومة الغربية الليبرالية المتحضرة؟ إن المضي في هذا الضرب من التلفيق يقودنا بأعين معصوبة نحو الهاوية، نحو حروب دينية تقوم على التصلب العقدي، فضلًا عن أنها تنفخ الروح من جديد في خطابات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الاستعمارية.
لو كان الغرب- تحت إمرة الولايات المتحدة الأميركية- منسجمًا مع ذاته، لَسَعى إلى تلمس سبل الخروج من مأزق الصراع الوجودي الذي يجمع الإسرائيليين والفلسطينيين منذ ما يقرب من قرن من الزمن، ولَعَمِل على إقرار معاهدة أشبه بمعاهدة "فستفاليا"، تمنح المحاربين فرصة للاستراحة، وتنتزع منهم الإقرار باستحالة إبادة الآخر، ثم ترسم لهم أفقًا لاقتسام الفضاء قسمة تضمن للجميع العيش الكريم مع احترام الخصوصيات الدينية والأماكن المقدسة. إلا أن الواقع هو أن الغرب سقط في التناقض الصارخ، وهو يحاول الجمع بين التبشير بقيم المواطنة القائمة على الليبرالية الديمقراطية والمساواة في الحقوق من جهة، وبين الاصطفاف الأعمى وراء دولة تقوم على أسس التمييز الديني والعرقي. وبهذا يثبت أنه عاجز عن الارتقاء إلى مستوى القيم التي ظل على امتداد قرن من الزمن يبشر بها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.