إشكالات استقبال أفكار الشيخ جودت سعيد
قبل أيام، توفي الشيخ جودت سعيد بعد عطاء فكري مبدع ونشاط سياسي مديد، حتى آخر يوم في حياته. لن أتحدث عن فكر جودت سعيد، فقد تكاثرت المقالات حول ذلك، وآخرها مقال الصديق محمد أبو رمان في "العربي الجديد". ولكن ما يهمني هنا هو كيفية استقبال أفكاره من قبل جماهير متنوعة، وذلك عبر تحليل بعض المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.
دعوني أبدأ نظريا بالتذكير أن الأفكار التي يرسلها كاتب ما هي إلا رموز يتلقاها المتلقي ليفككها، ومن ثم تعطيه معنى معينا مربوطا بفهمه وسياقه الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهو ما نسميه بلغة الفلسفة "القراءة التأويلية" أو "الهرمونيتيكية". إذن، لا يمكن اعتبار المتلقي خاملا، وإنما فاعلا في إنتاج النص. وعندما تسافر الأفكار من مكان لآخر، يكون هناك إنتاج لأفكار جديدة، وليست ببساطة إعادة إنتاج الأفكار الأصلية. وأود أن أتناولها هنا 3 قضايا تتعلق باستقبال أفكار جودت سعيد.
القضية الأولى: اعتبار الفكر الإسلامي مجرد فتاوى فقهية بدل أن يكون تداولات أخلاقية
في أحد المنشورات على مواقع التواصل، كتب أحدهم عن جودت سعيد أن "دعوته ليست منطقية ولا عملية ولاواقعية، ولا تمت بصلة للقرآن والسنة"، وكتب آخر "أفكاره هي انحراف واضح عن الفقه الحنيف". إذا علمنا أن جودت سعيد لم يكن يوما من الأيام قد "أفتى" أو أدلى بدلوه في قضايا فقهية عباداتية، فمقصود هذه التعليقات هي أفكاره اللاعنفية وتنظيره لـ"سنن تغيير النفس والمجتمع". فهل هي مجال لأحكام فقهية أم مجال للتداول الفكري والأخلاقي؟ وطبعا، من التداول الأخلاقي ما يمكن أن يأتي بعد بعض الأحكام الفقهية؟ إذا لم ننظر إلى أفكاره هكذا، لن نتمكن من فهم لماذا كتب كتابه الشهير "مذهب ابن آدم" في نهاية الستينيات، عندما كان هناك إسلام حركي لجأت بعض تياراته إلى العنف، ولماذا استفاد منه قراؤه ومتابعو دروسه الدينية آنذاك ليتحصنوا من العنف. ولكن ليصبحوا في ما بعد ثوارا سلميين منادين في مظاهراتهم "سلمية! سلمية!"، قبل أن يلجأ بعضهم للعنف، في سياق عنف فظيع للنظام الدموي في دمشق؛ أي أن فك رموز أفكار سعيد هي التي جعلت هؤلاء يفهموا أن شروط اللاعنفية لم تعد تطبق في سياق الثورة في سوريا ما بعد 2012.
لا يمكن تناول هذه القضايا المعقدة ذات الطابع الأخلاقي والسياسي بقراءة حرفية للنصوص الإسلامية؛ أي باستجلاب آية كريمة -على سبيل المثال- تدعو للسلم أو آية أخرى تدفع لمحاربة الطاغوت. لذا، لا بد من إخضاع هذه القضايا للمداولات والحجج الأخلاقية قبل الحديث عن حكم أو مفهوم "إسلامي". وقد بين أستاذ الأخلاق الإسلامية السوري معتز الخطيب -في أكثر من مقالة له- كيف قام الفقهاء بعمل تداولات أخلاقية قبل إصدار أحكامهم الفقهية، حتى النصيين منهم، مثل الإمام أحمد ابن حنبل، رحمه الله.
القضية الثانية: عالم أحادي مقابل عالم تعددي
ما زال الكثير يظن -من خلال التعليقات على فيسبوك- أن هناك فكرا إسلاميا واحدا مثله مثل نظام إسلامي واحد؛ يمكن لفقيه ما بشرحه وتفسيره. نحن نعيش في مجتمع أصبح فيه التوق للحرية -وخاصة حرية الرأي والتعبير- من الأهمية بمكان؛ فالأفكار يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة بدون اللجوء إلى لغة التكفير أو التخوين. وفكرة الإيمان تتسع إلى جميع المجموعات من صوفية، إلى سلفية، وأزهرية، وإخوانية؛ ومن أدلى بدلوه، فله أجر إن أخطأ وأجران إن أصاب.
القضية الثالثة: أنماط مختلفة من التدين
لقد غمز البعض في فكر جودت سعيد، بإعادة نشر مقطع فيديو لمقابلة مع عفراء جلبي (بنت أخته)، التي ألقت خطبة العيد في جموع من المصلين بأحد المراكز الثقافية في تورنتو بكندا. دعوني أولا البدء بالقول إنني لم ولن أدعو لتجديد فهمنا للتراث الإسلامي من أجل التجديد، وإنما لضرورات سياقية في مجتمعات تتغير تحت تأثير مرتبط باكتشاف الإنسان للسنن الكونية وتأثير العلم والعولمة. ولذا، لا أدعو إلى تغيير طقوس إعطاء دور رئيس في الخطابة والإمامة للرجل، والإسلام في ذلك مثله مثل معظم الديانات. وبما أن هذا القضية عزيزة على الإسلام، فلا داعي بأن نعتبر أن ذلك ينتهك بشكل صارخ المساواة بين الرجل والمرأة. وقد كتب الباحثون عن علمنة هينة، مثل الفيلسوفة الفرنسية سيسيل لابورد التي كتبت عن ضرورة عدم تدخل الدولة في شؤون المؤسسة الدينية، خاصة في مثل هذه القضايا؛ إذن، أنا أختلف مع عفراء في ذلك، ولكن بأي حق يغمز البعض في جودت سعيد، وكأنه هو المسؤول عن أفكار ابنة أخته؟
هناك أنماط مختلفة من التدين في العالم العربي، ولها تبعات على ما أسميه العلمنة الجزئية من الأسفل. وتعني هذه العلمنة استعادة الجانب الأخلاقي في الشريعة والعلم. وهو استمرار للمدرسة الرحمانية (فضل الرحمن مالك) بالتنقيب عن الأهداف والقيم الكامنة خلف الشرائع وموضعة الإسلام في سياقه الأخلاقي
ما زال الكثير لا يمكنه استيعاب أن صيرورات التدين أخذت الطابع الفردي في العالم العربي (وفي العالم بشكل عام)، وإن كان ممزوجا دائما بالتدين المؤسساتي. يتميز المشهد الديني بوجود تعبيرات دينية عن صيغ مختلفة للحضور في المجال الاجتماعي بشكل متشرذم، حيث تطور عشوائيا في ظل ضعف الدولة أحيانا وقوتها الاستبدادية أحيانا أخرى، مما أدى إلى هروب كثير من الأفراد من الفضاء المجتمعي إلى تدين فردي متأثر بالعولمة: بعضه مرئي من متابعي الدعاة الجدد (مثل عمرو خالد وطارق رمضان)، وبعضه الآخر ترعرع في اتجاهات أكثر محافظة اجتماعيا أو راديكالية سياسية أو جهادية تحت الأرض.
إن هذا التنزيل الفردي لقضايا ثقافية -محلية كانت أم معولمة- مرتبط بالعولمة وبالقيم الكونية، حيث يكشف ذلك عن طمس الحدود القومية، وهجنة التمايزات الثقافية، وترميق أشكال الوجود الاجتماعي الثقافي، ومن تبعات ذلك ضروب من التوترات والتشنج، كما كتب الصديق منير السعيداني في تقرير الحالة الدينية في تونس. وعندما تكون هوامش الحرية كبيرة -كما في حالتي تونس ولبنان- تتزايد التعددية الفكرية والأخلاقية وحتى الدينية، وهو ما يسم الفضاء الديني بسمات التغير المستمر المفتوح على احتمالات شتى، والضبابية والالتباس.
كل ذلك سوف يؤدي بالضرورة إلى تململ اجتماعي وتأثر بالاختلافات الثقافية بين الكوني والمحلي، وينعكس لا محالة على العلاقة بين الثقافي والاجتماعي والسياسي. ما يهمنا هنا هو التأكيد على تعدد أنماط التدين، بما فيها الانتقال من أحادية التدين المربوط بمؤسسة دينية تقليدية إلى أنماط أخرى، وأهمها التدين الفردي الباحث عن طرق مختلفة للخلاصات الدينية.
إذن، هناك أنماط مختلفة من التدين في العالم العربي ولها تبعات على ما أسميه العلمنة الجزئية من الأسفل. وتعني هذه العلمنة استعادة الجانب الأخلاقي في الشريعة والعلم. وهو استمرار للمدرسة الرحمانية (فضل الرحمن مالك) بالتنقيب عن الأهداف والقيم الكامنة خلف الشرائع وموضعة الإسلام في سياقه الأخلاقي، وقراءة القرآن أيضا على ضوء ذلك. فما عدا الثوابت الكلية للدين من عقيدة وعبادات، هناك محاولات خجولة، كتلك التي قام بها سعيد، لقلب الأولويات بفهمنا للدين: اشتغال بالأخلاق أولا، ومن ثم الفقه والتشريع لمناسبة الأخلاق.
أي أننا نبدأ بالنظر في الفضائل المربوطة بروح الدين -وغالبا هي نفسها في كل الأديان وحتى النزعة "الإنسانوية" (humanism)- ومن ثم، اشتغال المعضلات الأخلاقية، ومن ثم إيجاد الحكم الفقهي المناسب لها. وكمثال على ذلك، إذا اعتبرنا أن السرقة مذمومة أخلاقيا في كل زمان ومكان، وفعلها لا يكتسب صفته الأخلاقية من المنفعة والمضرة التي تنتج عنه، بل من طبيعته بوصفه انتهاكا لوجه من وجوه الحق والعدل، والإنسان يرغب في العدل كما يرغب في اللذة، فإن حكم السارق يتناسب مع السياق الزمكاني وحجم السرقة ودوافعها (اشتغال السرقة بصفتها معضلة أخلاقية التي يمكن أن تخفف معناها الأخلاقي في حالة الجوع مثلا)، ومن ثم الاشتغال الفقهي لمنعها أو معاقبة فاعلها.
وهذا يختلف عن البحث عن فتوى حول السرقة صالحة لكل زمان ومكان. وبدلا من اعتبار الشريعة (الأحكام الفقهية) هي المصدر الرئيس للقوانين، سواء كانت أحوالا شخصية أو شرعية أو قوانين وضعية، والتناحر على الحدود الفاصلة بينهما، سيتم الاعتراف بأن العلاقات البشرية تحكمها نظم أخلاقية تتجاوز التقنين، فمنها ما هو مرتبط بالأعراف والتقاليد المتوارثة ببساطة، ومنها ما هو أحوال شخصية وأحكام شرعية، ومنها ما هو سياسي (المواطنة، وتقنيات الحكم، والضرائب…إلخ). وهكذا يمكن أن تتدخل الأخلاق الإسلامية في كل ذلك، بدلا من حصرها -باسم العلمانية الصلبة- في مجالات ضيقة.
تتجلى قوة الشيخ جودت سعيد في أنه لم يفهم الإسلام على أنه قراءة مغلقة للنصوص الدينية التأسيسية ويتم تفسيرها بالاعتماد على تأويلات من السلف الصالح، بل تميز عن كثير من المشايخ بمعرفته بما تنتجه العلوم الاجتماعية والإنسانية، حيث فهم أن ذلك هو شرط أساس لتأويل النص الديني وتقديم محكمات أخلاقية صالحة لزمانه ومكانه. لن أنسى الساعات الطويلة التي قضيتها مع الشيخ جودت سعيد في قريته بئر عجم جنوبي سوريا، حيث تناقشنا في فكر محمد عابد الجابري ومحمد أركون وحسن حنفي وميشيل فوكو وبيير بورديو. ومن طريف القول إنني كنت أجلب الكتب لقريته وأرجع بالعسل، حيث اشتهر سعيد بإنتاجه العسل اللذيذ في سهول القنيطرة وهضابها. رحمه الله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.