الهوية الإسلامية.. أصل من الإسلام أم رد فعل على عنصرية الاستعمار؟
نواصل تناول كتاب الدكتور جميل أيدن "فكرة العالم الإسلامي: تاريخ فكري عالمي"، والذي يطرح فيه أن العالم الإسلامي مفهوم كولونيالي علماني. يجادل أيدن بأن العالم الإسلامي لم يستمد مفاهيميا وتاريخيا من مفهوم الأمة القرآني، وإنما هو مفهوم مفارق له، إذ ثمة انقطاعات بين كلتا الكلمتين. فالأمة تشير إلى جماعة من المؤمنين، أما العالم الإسلامي فهو وحدة تحليل جيوسياسية. وهو يشير إلى جماعة عالمية تتشارك العادات والاهتمامات والخبرة السياسية على نحو مختلف عن الآخر غير المسلم. والعالم الإٍسلامي كمفهوم هو مقابل الغرب المسيحي وفي صراع أبدي معه.
وهو مفهوم يقوم على فكرة الإسلام المجرد الجامد المنزوع من سياقاته التاريخية الاجتماعية والثقافية. وهو مفهوم يقتضي وحدة سياسية شاملة ويشهد سيولة في ترتيب كلٍ من الأولويات الدينية والإستراتيجية عبر الزمن. وهو في النهاية يؤشر إلى فئة عرقية وحضارية لا جماعة من المؤمنين. وهو مفهوم يعيش دائما عملية مستمرة -من الخلق، والانقطاعات، والطفرات، وإعادة الخلق- تدور حول الخلافة، والأمة، والحراك الأممي الإسلامي. وهو في النهاية ليس أكثر من مجرد وهم ما زال مستمرا.
فالإسلاميون والغربيون على السواء يتحدثون عن "الغرب" وعن "العالم الإسلامي"، لكن أيدن يعتبر هذه الثنائية نوعا من "القَبَلية"، ويحاجج بأنها دعاية كولونيالية خطيرة. يبني أيدن حججه عبر سردية تاريخية جينالوجية نقدية عابرة للقرون، ليبين حداثة فكرة العالم الإسلامي وكيفية تشكلها وتطورها، والجهود الدائمة لاستغلال هذه الفكرة لأغراض سياسية من قبل القوى الإسلامية والغربية على السواء.
وينتهي أيدن إلى أن مفهوم العالم الإسلامي ذاته مفهوم علماني مخترع، وليس ثمة دليل أفضل على ذلك من حقيقة أن "العالم الإسلامي" أُنتج خطابيا في إطار الفعل ورد الفعل بين حملات التبشير والاستشراق من ناحية، وناشطي الحراك الأممي الإسلامي والحداثيين/الإصلاحيين الإسلاميين في الـ150 سنة الأخيرة. فيما يلي نتناول أفكار وحجج أيدن الرئيسية والمحطات التاريخية التي توقف عندها.
الفعل ورد الفعل
إن المسلمين لم يتخيلوا كونهم ينتمون إلى وحدة سياسية عالمية إلا بعد وصول الهيمنة الأوروبية إلى أوجها في أواخر القرن التاسع عشر، فالعالم الإسلامي كمفهوم ليس الدين مصدره بل هو قرين العولمة الإمبريالية وما رافقها من عنصرية. وظهر المفهوم من ميراث الرؤية الإمبريالية العنصرية للمسلمين، وكذلك من الإستراتيجيات الفكرية والسياسية التي قاوم المسلمون من خلالها هذه الهوية العنصرية التي صنعها الاستعمار.
في الفترة من 1814-1878 التي تعزز فيها النظام الدولي الامبراطوري، بدأت الهوية الإسلامية تأخذ طابعا عالميا في إطار استجابتها لسردية الدونية العرقية المنبعثة من أوروبا، هنا نشأ ما يسمى بالهوية الإٍسلامية، ولذلك فهي ليست أصيلة في الإسلام وإنما ادعاء ظهر كرد الفعل، وهو ادعاء بنيت عليه كل الجماعات الإسلامية التي ستظهر لاحقا في القرن التالي.
كان العلماء المسلمون يدفعون الحجج التبشيرية بحججهم الخاصة، وكان لتقنيات الاتصال والمواصلات في ذلك العهد دور أساسي في نشر هذه الحجج عبر المجتمعات الإسلامية، وقد أدى ذلك لانطلاق ما سيكون لاحقا تقليدا جديدا يكون فيه الإسلام في مكانة دين كوني وعالمي، يستطيع أن يستجيب لتحدي التبشير المسيحي ودعاويه عن الدونية الإسلامية. من هنا بدأت عولمة الإسلام سياسيا.
وتحكي قصة "الطربوش" حكاية دالة على منطق الفعل ورد الفعل الذي كان وسيظل سائدا، فالفعل يستفز رد الفعل والذي بدوره يؤدي إلى عكس مبتغاه ويثير فعلا جديدا. فمع مضي القرن التاسع عشر بدأت العلاقة بين المجتمعات الإسلامية والحكام والجيران المسيحيين في التحول، إذ بدأت تتفاعل بشكل متزايد على أساس التمايز والاختلاف الديني، والذي كان منطق الإمبراطورية قد غطى عليه سابقا. ويأتي الطربوش كمثال مهم في هذا السياق.
كان قانون الطربوش جزءا من منظومة أكبر من الإصلاحات التحديثية العثمانية الرامية إلى تعزيز وتأكيد المساواة بين الرعايا العثمانيين. فعندما يرتدي التركي والأرمني واليوناني الملابس ذاتها، لن يكون باستطاعة أحد تحديد هويته الدينية من مظهره. مع تسعينيات القرن التاسع عشر، كان الإصلاحيون المسلمون عبر العالم قد تبنوا الطربوش لتأكيد التوافق بين إيمانهم الديني والتقدم الحديث، لكن الأوروبيين رأوا في الطربوش رمزا للعدو الإسلامي لا نسخة إسلامية من الحداثة الكوزموبولتانية. وهكذا أصبح الطربوش -الذي كان رمزا للهوية الإمبراطورية الكوزموبوليتانية- رمزا للهوية الإسلامية العالمية في نصف قرن من الزمان.
كان الحراك القومي المسيحي في القرن التاسع عشر مصدرا مهما، وربما مفاجئا، لإلهام هوية إسلامية معولمة. فقد شكلت وأدت الثورات القومية المسيحية ضد حكامهم العثمانيين بقوة إلى تسييس الهوية الإسلامية، وقد ساعدت الثورة اليونانية ضد العثمانيين على تحفيز التحول في الرأي العام الأوروبي ضدهم، وتحركت الإمبراطوريات الأوروبية لدعم القومية اليونانية.
وفي نفس وقت الاستقلال اليوناني تقريبا، هز مشروع أوروبي آخر بنية النظام الامبراطوري. فبينما كان الأوروبيون يدعون المسيحيين لتقرير مصيرهم، غزت فرنسا الجزائر العثمانية، وهو ما شكل تناقضا فجا. وقد أسس التناقض بين التحرر اليوناني والغزو الكونيالي للجزائر نمطا مستمرا.
وينطوي القرن التاسع عشر على مفارقة دالة. فإصلاحات الإمبراطورية العثمانية وكفاحها للحفاظ على منطق الإمبراطورية في وسط موجة القومية المسيحية المتزايدة ينطوي على مفارقة، فبينما كان العثمانيون قد بذلوا كل ما في وسعهم للحفاظ على عالمية النادي الأوروبي، أصبحوا يتم تعريفهم بهوية إسلامية متمايزة، سواء في الحواضر الأوروبية أو في المستعمرات الإسلامية. وكان لدى الفكر الأممي الإسلامي وعي متزايد بمدى توسع الأقاليم ذات الأغلبية المسلمة والشعوب الضخمة الموجودة فيها، ولعبت الحملات التبشيرية الإنجيلية دورا مهما في تأسيس العالم الإسلامي الموحد المتخيل. إن حساب أعداد المسلمين عزز العنصرية الأوروبية، إذ عظم من حجم الخطر المتصور الذي يواجه الهيمنة الغربية.
أعطى الإسلاميون صورة زائفة عن كونهم الممثلين الأصليين للمسلمين الملتزمين، واستُخدم هذ الوهم لتبرير الإسلاموفوبيا الغربية. وكما هي العادة دائما، فإن الافتراضات الخاطئة عن عالم إسلامي موحد وقائم بذاته أفادت ظاهريا ناشطي الحراك الأممي الإسلامي، الذين استغلوا هذه الوحدة المتصورة لكسب دعم المسلمين عبر العالم. ومع منتصف التسعينيات، فإن هذه الحلقات المفرغة من الفورات الإسلاموية والإسلاموفوبيا، والتي يغذي بعضها بعضا، قد رسخت وهم العالم الإسلامي وخنقت الأصوات المتنوعة الأخرى والمطالب السياسية للمسلمين الفعليين في مناطق مختلفة من العالم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.