خيار الحرب المحدودة ومفاوضات سد النهضة
يأتي الخيار العسكري أو قرار الحرب ضمن إستراتيجية وسياسة عامة تضعها الدولة في إطار تحقيق أهداف محددة، فكل قيادة تذهب إلى استخدام الأدوات الخشنة التي يعد استخدام القوة العسكرية أعلى ما فيها، إلى جانب استخدام الأدوات الناعمة التي تعد الدبلوماسية إحدى أدواتها الرئيسية.
تتحرك أي دولة في سبيل تحقيق أهدافها وحماية مصالحها من خلال اتباع إستراتيجية تعظم فيها المنافع وتحد من الأضرار قدر الممكن.
والمتابع الجيد لأزمة سد النهضة سيجد أن الهدف الرئيسي الذي تسعى مصر إلى تحقيقه في المفاوضات مع إثيوبيا هو توقيع "اتفاق قانوني ملزم" حفاظا على حصة مصر المائية من نهر النيل، وهو ما يمكن أن نسميه الهدف الإستراتيجي، ليس فقط في المفاوضات مع إثيوبيا، بل وأيضا في بناء سياساتها مستقبلا مع دول حوض النيل.
فالمشكلة أعمق من سد النهضة ومن التعبئة الثانية التي ستبدأ بها إثيوبيا قريبا، المشكلة الحقيقية تكمن في بناء سدود أخرى في المستقبل قد تؤثر بشكل مباشر على مصر، وفي حال تم بناء سد النهضة دون إبرام اتفاق قانوني وملزم مع إثيوبيا فسيشجع ذلك دول حوض النيل الموقعة على مبادرة حوض النيل على بناء سدود في المستقبل.
تعتبر جيبوتي أحد المواقع الهامة في منطقة القرن الأفريقي والتي يمر من خلالها قرابة 80% من تجارة إثيوبيا، والتي توجد فيها قواعد عسكرية أميركية وفرنسية وإيطالية وإسبانية وصينية ويابانية وسعودية، وهو ما يحد من فاعلية السلاح البحري المصري في تهديد إثيوبيا التي لا تمتلك سواحل
إن الخيار العسكري ضد سد النهضة الإثيوبي تحوم حوله تحديات عدة، سياسية وعسكرية ومجتمعية، وقد سعت مصر خلال الفترة السابقة إلى البحث عن موضع قدم لها في جيبوتي وإريتريا والصومال، وهي الدول التي تحد إثيوبيا شمالا وشرقا.
لكن لم تستطع مصر حتى الآن أن تنشئ قاعدة عسكرية لها أو تنشر قوات عسكرية بالمنطقة، وعلى الرغم من مشاركتها في عاصفة الحزم مع السعودية في اليمن فإن مشاركتها محدودة وغير فعالة، بل يقتصر وجود بعض القوات على استخدام القواعد العسكرية السعودية.
كما أن القواعد العسكرية المنتشرة في منطقة القرن تجعل إجراء عملية عسكرية شرق إثيوبيا أمرا غاية في التعقيد، حيث يوجد ما يقارب 19 قاعدة عسكرية لـ16 دولة، إلى جانب 4 قواعد عسكرية يحتمل أن تنشئها تركيا وروسيا والسعودية قريبا.
وتعتبر جيبوتي أحد المواقع الهامة في منطقة القرن الأفريقي والتي يمر من خلالها قرابة 80% من تجارة إثيوبيا، والتي توجد فيها قواعد عسكرية أميركية وفرنسية وإيطالية وإسبانية وصينية ويابانية وسعودية، وهو ما يحد من فاعلية السلاح البحري المصري في تهديد إثيوبيا التي لا تمتلك سواحل، في حين أن المناطق الحدودية الإثيوبية في الشمال والغرب تتميز بأنها ذات تضاريس وعرة، وهو ما يجعل تنفيذ عملية إنزال عسكري أو عملية برية أمرا معقدا لوجستيا، مما يجعل السودان خيارا مفضلا لمصر.
السودان رمانة الميزان
المشهد الداخلي في السودان معقد جدا في ظل المرحلة الانتقالية الحالية، حيث توجد مكونات وأطراف عدة، ولعل الأطراف الرئيسية هي القوات المسلحة السودانية بقيادة رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، وقوات التدخل السريع التي يقودها محمد حميدتي نائب رئيس المجلس السيادي، و"التيار المدني" الممثل بقوى الحرية والتغيير، وكذلك "التيار الإسلامي" و"الجماعات المسلحة المتمردة" التي توجد في الأطراف، مثل جيش تحرير السودان.
كل هذه الأطراف غير المتناغمة مع بعضها البعض تجعل المشهد الداخلي معقدا ويصعب الخروج بقرار جامع تتفق عليه كل الأطراف، خاصة أن لكل طرف رؤيته في إدارة المرحلة الانتقالية، إلى جانب مرجعية أيديولوجية مختلفة وانتماءات قبلية وعرقية تمتلك رصيدا لا بأس به من العداوة، هذا بخلاف أن لكل طرف علاقاته الخارجية التي يديرها على نحو يحقق أهدافه السياسة الداخلية ويحد من توسع الأطراف الأخرى.
الخلاصة أن السودان يشهد صراعا على السلطة وتغييرات سريعة تتطلب الاستعداد لأي تغييرات داخلية، وسيعمل كل طرف على توظيف الأحداث بالشكل الذي يحقق له مكاسب شعبية داخلية حتى يضمن استمراره في السلطة ويزيح الأطراف الأخرى، فعند زيارة مدير المخابرات العامة المصرية عباس كامل السودان يحرص على مقابلة جميع الأطراف، ويمثل ذلك المشهد أحد التحديات التي تضع عقبات أمام مصر في حال قررت توجيه ضربة للسد، وإن كانت العلاقات بين النظام المصري ووزارة الدفاع تعد الأفضل مقارنة بالأطراف الأخرى إلا أنها يجب أن تعمل على الحفاظ على علاقات متوازنة مع الأطراف الأخرى، إلى جانب أن لإثيوبيا علاقات جيدة مع الأطراف المدنية والجماعات المسلحة المتمردة، مما قد يدفعها للضغط عليهم في تبني خيارات معادية لمصر أو الوقوف على الحياد، فيما قد يتسبب ضرب السد خلال التعبئة الثانية بإغراق عدة مدن وقرى سودانية، خاصة التي تقع بالقرب من الحدود مع إثيوبيا جهة السد، إلى جانب احتمالية تأثر سدود سودانية، وهو ما يجعل من خيار توجيه ضربة عسكرية قرار يضع الإدارة السودانية في حرج وموضع ضعف يجعلها لا تغامر به وتعيد حساباتها، بل قد يدفعها لتبني مواقف معادية ضد مصر إذا لم يحدث تنسيق جيد معها.
وعلى الرغم من التقدم الذي حققته مصر مؤخرا في تطور العلاقات مع السودان وإقامة تدريبات مشتركة تحت مسمى "حماة النيل" والتي تحمل رسالة واضحة لإثيوبيا وهي أن استخدام القوة العسكرية أمر ممكن فإنه بالنظر إلى منظومة اتخاذ القرار عند المؤسسات المصرية سنجد أن مصر لم تقدم على خطوات هامة، منها تفويض مجلس النواب بإرسال قوات عسكرية للخارج أو إعطاء الضوء الأخضر للجيش في استخدام القوة الخشنة مع إثيوبيا، كما لم نسمع عن انعقاد معلن لمجلسي "الدفاع الوطني" و"الأمن القومي" كما حدث في ليبيا التي بدأت بالتفويض وحشد القوات المصرية على الحدود الغربية وإجراء اجتماعات موسعة مع عدة قبائل ليبية من الشرق وحشد الإقليم وبعض الأطراف الدولية ضد تركيا، وهو ما ساهم بلا شك في وقف التصعيد العسكري ودفع الأطراف الدولية إلى الضغط في سبيل تفادي تطور الصراع وتحوله إلى مواجهة عسكرية واسعة.
وجميع تلك الخطوات جاءت بالتزامن مع تصريحات السيسي بالخط الأحمر، فيما لم نجد خطوات جادة على نفس المنوال في ما يخص تصريح "الخط الأحمر" الذي تحدث عنه في نهر النيل، حيث قال السيسي إن المساس بالخط الأحمر سيكون له تأثير على استقرار المنطقة، وهذا قد يرجع إلى وجود ضغوط دولية.
إن إجراء المقارنات العسكرية بين الجيشين المصري والإثيوبي هو أمر مضلل يمكن استهلاكه عبر مواقع التواصل الاجتماعي وإلهاء بعض القطاعات من الجماهير، لكن قرار الحرب أمر معقد جدا، حيث إنه قد يتسبب في مشكلات لمصر على المستويين القصير والمتوسط في بناء علاقات جيدة مع الدول الأفريقية، خاصة دول حوض النيل.
ولعل الخطوة التي قامت بها مصر ببناء سد "جيوليوس نيريري" لتوليد الكهرومائية على نهر "روفيجي" في تنزانيا بقدرة 2115 ميغاواتا والذي يقوم تحالف شركتي "المقاولون العرب" و"السويدي إلكتريك" ببنائه بتكلفة تقدر بنحو 2.9 مليار دولار، وكذلك سد "واو" في جنوب السودان، ويعتبر ذلك سياسة جيدة لم يتم توظيفها جيدا على الصعيد الدبلوماسي مع الهيئات الدولية المختلفة، خاصة مع الاتحاد الأفريقي، حيث إن الأفضل لمصر هو الدخول وبناء السدود في دول حوض النيل حتى تضمن ألا ينعكس على مصر سلبا ويؤثر في حصتها المائية، عبر ضبط الأمور الفنية والتشغيلية للسدود.
وعلى الرغم من أن آبي أحمد يحاول أن يظهر أن الشعب الإثيوبي يقف خلفه ويدعمه إلا أنه توجد صراعات عرقية واسعة، آخرها تمرد منطقة التيغراي في شمال إثيوبيا حيث تم مؤخرا أسر آلاف الجنود من الجيش الإثيوبي، وهو ما ينذر بتمددها واتساعها وقد تدفع جماعات وعرقيات أخرى للتمرد ضد السلطة الفدرالية، وهو ما قد توظفه مصر عسكريا، حيث تتكون إثيوبيا من 80 عرقية مختلفة من 10 عرقيات كبيرة.
يمكن أن نلخص التحديات المصرية في النقاط التالية:
- الموقع الجغرافي لإثيوبيا البعيد عن مصر، والتضاريس الجغرافية الوعرة.
- الأوضاع الداخلية السودانية معقدة ومتعددة الأطراف، مما يجعل من الصعب التوصل إلى قرار جامع، بخلاف العلاقات التي بنتها إثيوبيا مع الأطراف المدنية والجماعات المسلحة المتمردة، وهو ما قد يدفعها للوقوف على الحياد، وقد تمانع من استخدام أراضيها أو قواعد عسكرية لضرب السد.
- قد يتم فرض عقوبات دولية على مصر، خاصة بعد جلسة مجلس الأمن.
- تطور العلاقات الإثيوبية مع جيرانها بشكل إيجابي، مما يحد من فرص مصر في ممارسة ضغوط عليها.
- الانتشار الكبير للقواعد العسكرية الأجنبية في منطقة القرن الأفريقي.
- عدم وجود قواعد عسكرية مصرية بالقرب من إثيوبيا.
- المآلات السلبية التي ستنعكس على علاقات مصر مع دول حوض النيل وأفريقيا.
ويترجح -وفق المعطيات الحالية- أن مصر لن تقوم بضرب سد النهضة خلال فترة التعبئة الثانية، لكن حجم التداعيات السلبية التي سيسببها سد النهضة على مصر اقتصاديا ومجتمعيا قد يدفع النظام إلى تنفيذ عمل عسكري ضد السد لحماية حقوق بلاده المائية، دون شن حرب شاملة وواسعة إنما "حرب محدودة" (Limited War) تهدف لدفع إثيوبيا للجلوس على طاولة المفاوضات تحت رعاية دولية، فأزمة سد النهضة ليست مشكلة محدودة الزمن، بل هي أزمة مستمرة لن تتوقف وستتصاعد في المستقبل، ويظهر الاضطراب في التعاطي مع هذه الأزمة في الإعلام المحسوب على النظام، لكن يمكن أن يفهم كذلك من الخطوة التي اتخذتها مصر والسودان في مجلس الأمن أنها آخر الخطوات المسار السلمي وقد يتبعها تصعيد عسكري.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.