العالم الإسلامي كمفهوم علماني (٣).. ظهور الهوية الإسلامية
نواصل تناول كتاب الدكتور جميل أيدن "فكرة العالم الإسلامي: تاريخ فكري عالمي" الذي يطرح فيه أن العالم الإسلامي مفهوم كولونيالي علماني؛ حيث يجادل أيدن بأن العالم الإسلامي لم يستمد -مفاهيميا وتاريخيا- من مفهوم الأمة القرآني، وإنما هو مفهوم مفارق له، إذ ثمة انقطاعات بين كلا الكلمتين؛ فالأمة تشير إلى جماعة من المؤمنين، أما العالم الإسلامي فهو وحدة تحليل جيوسياسية، وهو يشير إلى جماعة عالمية تتشارك العادات والاهتمامات والخبرة السياسية على نحو مختلف عن الآخر غير المسلم. والعالم الإسلامي -كمفهوم- هو مقابل الغرب المسيحي وفي صراع أبدي معه، وهو مفهوم يقوم على فكرة الإسلام المجرد الجامد المنزوع من سياقاته التاريخية الاجتماعية والثقافية، وهو مفهوم يقتضي وحدة سياسية شاملة ويشهد سيولة في ترتيب كل من الأولويات الدينية والإستراتيجية عبر الزمن، وهو في النهاية يؤشر إلى فئة عرقية وحضارية لا جماعة من المؤمنين، وهو مفهوم يعيش دائما عملية مستمرة -من الخلق والانقطاعات والطفرات وإعادة الخلق- تدور حول الخلافة والأمة والحراك الأممي الإسلامي، وهو في النهاية ليس أكثر من مجرد وهم لا يزال مستمرا.
مع مطالبات المسيحيين بالاستقلال القومي عن العثمانيين ووقوع المزيد من المسلمين تحت الحكم المسيحي في منتصف القرن الـ19؛ كان التوازن الإمبراطوري قد فُقد، وبدأ المسلمون على نحو متزايد يُفهمون ويَفهمون أنفسهم كطبقة منفصلة ومهمشة خاضعة للإمبريالية
فالإسلاميون والغربيون -على السواء- يتحدثون عن "الغرب" وعن "العالم الإسلامي"، لكن أيدن يعتبر هذه الثنائية نوعا من "القَبَلية ويحاجج بأنها دعاية كولونيالية خطيرة. ويبني أيدن حججه عبر سردية تاريخية جينالوجية نقدية عابرة للقرون؛ من أجل أن يبين حداثة فكرة العالم الإسلامي وكيفية تشكلها وتطورها والجهود الدائمة لاستغلال هذه الفكرة لأغراض سياسية من قبل القوى الإسلامية والغربية على السواء. وينتهي أيدن إلى أن مفهوم العالم الإسلامي ذاته مفهوم علماني مخترع، وليس ثمة دليل أفضل على ذلك من حقيقة أن "العالم الإسلامي" أُنتج خطابيا في إطار الفعل ورد الفعل بين حملات التبشير والاستشراق من ناحية وناشطي الحراك الأممي الإسلامي والحداثيين الإصلاحيين الإسلاميين في الـ 150 سنة الأخيرة من ناحية أخرى. وفيما يلي نتناول أفكار وحجج أيدن الرئيسية والمحطات التاريخية التي توقف عندها.
ظهور الهوية الإسلامية والوعي الأممي الإسلامي
في بعض الأحداث خلال القرن الـ18 يمكن للمرء أن يجد إشارات للتضامن الإسلامي العام، وخاصة في ظل الظروف التي شعر فيها المسلمون أن حريتهم الدينية مهددة، لكن كل هذه المشاعر لم تكن ذات حيثية ولم تترتب عليها نتائج مادية؛ فالشبكات الإسلامية -في مجال التعليم والأخوة الدينية والتجارة والحج- ازدهرت في القرن الـ18 بدون حماية من أية إمبراطورية مسلمة أو تحالف من الدول الإسلامية حينها. وكذلك لم يشغل الفقهاء العثمانيون أنفسهم بمفاهيم عالمية عن الإسلام رغم كونهم فعليا في إمبراطورية عالمية.
ومع مطالبات المسيحيين بالاستقلال القومي عن العثمانيين ووقوع المزيد من المسلمين تحت الحكم المسيحي خلال منتصف القرن الـ19؛ كان التوازن الامبراطوري قد فُقد، وبدأ المسلمون على نحو متزايد يُفهمون ويَفهمون أنفسهم كطبقة منفصلة ومهمشة خاضعة للإمبريالية. وكانت التناقضات الفجة في إطار النظام الإمبراطوري (مثل دعم القوى الأوروبية لاستقلال غير المسلمين بينما تواصل احتلال الأراضي الإسلامية) هي الجذر الأساسي لظهور الوعي بالعالم الإسلامي. وهكذا كان حطام التوازن الإمبراطوري -وليس أية نظرية كلاسيكية عن الخلافة- هي أساس المفهوم الحديث للوحدة الإسلامية، ولم يكن التاريخ المشترك ولا التقاليد غير المتغيرة للمسلمين هو من أسس لفكرة العالم الإسلامي، بل مصدر ذلك هو التأثير المتراكم للسياسات والصراعات والأيديولوجيات التصادفية للإمبراطوريات من عشرينيات إلى سبعينيات القرن الـ19.
وفي أوروبا كانت المخيلة القومية المدفوعة بتصورات عنصرية عن الاختلافات الدينية قد بدأت تجد طريقها، حتى إن أشد الحروب الإمبراطورية في منتصف القرن الـ19 -حرب القرم- نبعت من خلاف ديني. وبعد عام واحد من نهاية حرب القرم اندلعت الثورة الهندية عام 1857م؛ لتشكل اختبارا عمليا جديدا للإطار الإمبراطوري. ومن جديد عندما انتهت الحرب انتصر المنطق الإمبراطوري، حتى مع تزايد أهمية الهويات الدينية التي لم يعد من الممكن إنكارها. وكان كتاب "إظهار الحق" لرحمة الله القيرواني الهندي -في القرن الـ19- أول من أطلق مفاهيم حديثة عن الإسلام العالمي. وفي ستينيات القرن الـ19 لم تكن ثنائية العالم الإسلامي والغرب المسيحي مؤسسة بعد، ولكن خليط الدين والإمبراطورية والعرق كان قد صار أكثر تعقيدا كما أصبح أكثر عولمة. لقد بدأ الإطار الإمبراطوري يضعف بعد عقود من التوتر العرقي والديني المتصاعد، وهنا تحولت التوازنات الإمبراطورية -التي كانت الدولة العثمانية جزءا منها- إلى واقع أصبحت تُصوَر فيه الدولة العثمانية بوصفها رجل أوروبا المريض.
وشهدت السنوات ما بين 1873 و1883 تجذرا مهما للشبكات المرتبطة بالمشاعر المسلمة الجديدة الحداثية والإمبراطورية العابرة للقومية. وانتهت تقارير بريطانية إلى أنه لم يكن ثمة حراك أممي إسلامي منظم، ولكن المخاوف من وجودها لم تكن كلها بلا أساس، ولاحظت وزارة الخارجية البريطانية أن المسلمين بدوا كأنهم يطورون وعيا متزايدا بالشؤون الدولية نتيجة للصحافة الجديدة التي قدمت أخبارا يومية عن أماكن بعيدة عبر خطوط التلغراف. وبدأت سياسات الإمبراطورية الروسية -لدعم الحراك الأممي السلافي في الشعوب المسيحية القاطنة بالإمبراطورية العثمانية- تلهم الأفكار المتعلقة بالحراك الأممي الإسلامي وسط المسلمين أنفسهم. وكانت الحرب الروسية-العثمانية (1877-1878) نقطة تحول مهمة؛ إذ أدت الحرب إلى تعبئة كاملة للهويات الإسلامية والمسيحية عالميا، وصاحبها تمييز عنصري بين المسلمين والمسيحيين غطى على المنطق الامبراطوري، وظهر خطاب أوروبي قوي معادٍ للمسلمين لدى المثقفين الأوروبيين، مثل ويليام غلادستون، وعكس هذا الخطاب توجها أوسع لتوجيه النقاش الجيوسياسي على أساس القومية والعرق بدلا من الإستراتيجية الإمبراطورية.
ومن دون الدعم الدبلوماسي والعسكري البريطاني لم يكن لدى العثمانيين الموارد الكافية لهزيمة عدوهم الروسي في سبعينيات القرن الـ19. وكان الضباط البريطانيون قد اقترحوا وسهّلوا زيارة عثمانية إلى أفغانستان لطلب الدعم الأفغاني ضد الروس، وكان أولئك الضباط يتخيلون وحدة إسلامية في ظل قيادة عثمانية-بريطانية مشتركة ضد التوسع الروسي جنوبا، وقد رفض الملك الأفغاني المشاركة في الحرب ضد الروس، كما طلب الوفدَ العثماني المدعوم من بريطانيا، مشيرا إلى أن البريطانيين قد غزوا لتوهم الأراضي الأفغانية. ومع خسارة العثمانيين للحرب بدأ السلطان العثماني في تأكيد نواياه الحسنة دينيا من أجل أن يشجع وحدة داخلية، وأصبح الإسلام أساسا للهوية القومية مثلها مثل المسيحية في الإمبراطوريات والأراضي الأوروبية التي كانت من قبل تحت السيادة العثمانية. وكان تصوير الإمبراطورية العثمانية باعتبارها رجل أوروبا المريض امتدادا للتمييز العنصري ضد المسلمين الخاضعين للاحتلال الكولونيالي والذي أصبح الآن يشمل أيضا آخر أسرة حاكمة مسلمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.