العلاقات الإيرانية الروسية.. فرص التعزز ومخاوف الانفراط
إرث تاريخي ثقيل
عراقيل التقارب وفرصه
محورية التحدي الغربي
العلاقات بين روسيا وإيران لم تعد شأنا ثنائيا يخص الجانبين فحسب، بل جعلتها أبعادها وآثارها الجيوستراتيجية -في ظل المتغيرات الراهنة على الساحتين الإقليمية والدولية- محلَّ اهتمام كبير لدى المراقبين دولاً وخبراء. وعليه؛ فإن ثمة تساؤلات تدغدغ أذهان المتابعين عن طبيعة هذه العلاقات ومآلاتها المستقبلية.
إرث تاريخي ثقيل
حفلت العلاقات الإيرانية الروسية دوما بالحروب والصراعات خلال القرون الخمسة التي مرت عليها، في الحقب الروسية الثلاث: القيصرية والإمبراطورية والسوفياتية. وخلال تلك العهود، كانت روسيا تستبيح الأراضي الإيرانية وقتما تشاء، وتتدخل في شؤونها الداخلية إلى أقصى الحدود.
وفي عهد مملكة القاجار الإيرانية وصلت الحروب والتدخلات الروسية إلى ذروتها، وأفضت إلى معاهدة "كلستان" عام 1813، ثم معاهدتيْ "تركمنجاي" 1828 و"آخال" 1881 اللتين أفقدتا إيران مساحات شاسعة من أراضيها الشمالية، تقدر بأكثر من 200 ألف كم2. كما احتلت القوات الروسية إيران في الحربين العالميتين.
هذا الإرث الحافل بالمرارة شكّل انطباعا سيئا عن روسيا في اللاوعي الجمعي الإيراني، والعداء لروسيا في الذاكرة التاريخية الإيرانية أكثر من معاداتها للغرب. وذلك ما دفع شاه بهلوي إلى القول: "لو كان الأمر بيدي لما اخترت روسیا جارة".
كان لانهيار الاتحاد السوفياتي دور محوري في تغيير مسار العلاقات، فقد كانت إيران من أبرز المستفيدين منه بسبب التحول الإستراتيجي الذي أحدثه ذلك لصالح إيران، في جيوبولتيك منطقة آسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين، وتمثّل في إبعاد روسيا عن الحدود الإيرانية واستبدالها بجمهوريات صغيرة وضعيفة. وهو ما أنهى شبح تهديدات "روسيا الجارة" للأراضي الإيرانية |
كما تجسد ذلك العداء في شعار "لا شرقية.. لا غربية" الذي أطلقته الثورة الإيرانية الإسلامية في إيران عام 1979. كما أن الخوف من الشرق الروسي كان هو الدافع الأساسي لتوجه إيران نحو الغرب في الحقبتين القاجارية والبهلوية.
بعد انتصار الثورة الإيرانية، مرت العلاقات مع روسيا بثلاث مراحل: الأولى قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، والثانية في عهد الرئيس بوريس يلتسين، والثالثة مع انطلاقة عصر الرئيس فلاديمير بوتين.
كان لانهيار الاتحاد السوفياتي دور محوري في تغيير مسار العلاقات، فقد كانت إيران من أبرز المستفيدين منه بسبب التحول الإستراتيجي الذي أحدثه ذلك لصالح إيران، في جيوبولتيك منطقة آسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين، وتمثّل في إبعاد روسيا عن الحدود الإيرانية واستبدالها بجمهوريات صغيرة وضعيفة. وهو ما أنهى شبح تهديدات "روسيا الجارة" للأراضي الإيرانية.
وفضلا عن ذلك؛ لعبت التطورات الداخلية للبلدين في تسعينيات القرن الماضي دورا بارزا في بناء علاقات طبيعية بينهما، فمن جهة تجاوزت إيران مرحلتيْ استقرار ثورتها والحرب العراقية الإيرانية، ودخلت حقبة إعادة الإعمار وتحدياتها ومتطلباتها، مما دفع الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني إلى اتباع نهج براغماتي في السياسة الخارجية.
ومن جهة أخرى، تبنت روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي -انطلاقا من أزمتها الاقتصادية- سياسة خارجية جديدة، لتحسين علاقاتها الخارجية مع مختلف الدول بما فيها إيران. وعليه، أبرم الجانبان اتفاقا عام 1995 لبناء مفاعل بوشهر النووي في إيران بعد تخلي ألمانيا عن المشروع. ومع ذلك، ظلت فرص التقارب محدودة طوال التسعينيات.
ومع بداية الألفية الثالثة؛ دخلت العلاقات في مسار غير الذي كانت عليه خلال القرون الخمسة الماضية، فبعد وصول بوتين إلى السلطة عام 2000 تطورت العلاقات متجاوزة سلبيات الماضي شيئا فشيئا، لكن النقلة النوعية في العلاقات كانت بعد الرئاسة الثالثة لبوتين في 2012، إذ صارت إيران تحتل تدريجيا موقعا متميزا في سياسة روسيا الخارجية لاعتبارات متعددة.
وفي هذا السياق؛ خصّت روسيا -للمرة الأولى- إيران بالذكر كدولة تستهدف التعاون معها في المنطقة، وضمنت ذلك في وثيقة مبادئ سياستها الخارجية الصادرة في ديسمبر/كانون الأول 2016.
عراقيل التقارب وفرصه
قبل تناول عوامل تعزُّز مسار التقارب؛ لا بد من التأكيد على أن ثمة عراقيل تعترض تجاوز هذا التقارب سقفا محددا، على رأسها أن طهران لا تثق تماما بالسياسة الروسية لما عُرف في الذاكرة الإيرانية من أن روسيا تترك حلفاءها في اللحظات الأخيرة، هذا فضلا عن الانطباع السيئ عن روسيا في اللاوعي الإيراني.
ثانيا، سياسة التوازن التي تتبعها روسيا في علاقاتها الشرق أوسطية، قد لا تصبّ بالضرورة في صالح إيران التي تريد أن تكون قوة إقليمية عظمى، حيث تلعب روسيا مع أكثر من دولة لمنع قوة واحدة من حيازة التأثير الكبير في المنطقة.
ثالثا، للمصالح التي جمعت بين البلدين في ساحات إقليمية -خلال السنوات الأخيرة- دوافعها المختلفة، وهذا من شأنه أن يشكل تهديدا مستقبليا للتقارب، فمثلا دعمت الدولتان حليفهما النظام السوري كمصلحة مشتركة لكن بدوافع متباينة.
وهنا يمكن فهم التعاون الروسي المتقطع -على الساحة السورية- مع إسرائيل التي هي عدو لدود لإيران، وبالتالي ليس مستبعدا أن تنقلب الدوافع على المصالح المؤقتة في لحظة ما.
التعاون الإقليمي بين البلدين لا يقتصر على الشرق الأوسط؛ بل ينسحب إلى مناطق ربما أكثر أهمية للجانبين في آسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين. هذه المناطق تؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي لروسيا التي تريد إنشاء حزام آمن مسالم في جوارها الجغرافي، وذلك يستدعي تعاونا وثيقا من إيران بحكم حدودها المشتركة مع المناطق الثلاث المحيطة بروسيا |
رابعا، ثمة خلافات قديمة بين الجانبين يتعلق بعضها بالنظام الحقوقي لبحر قزوين، إذ إن روسيا استثنت إيران من اتفاقيات ثنائية عقدتها مع الدول المطلة على هذا البحر.
وفي المقابل؛ ثمة عوامل من شأنها أن تعزز بشكل أو آخر أواصر التقارب.
1- العامل الاقتصادي:
أهمية هذا العامل ليست نابعة من حجم التبادل التجاري السنوي الثنائي البالغ حوالي ملياريْ دولار، وإنما تكمن في مجالات إستراتيجية لها صلة وثيقة بالاقتصاد، منها:
– مجال النقل: إذ تستهدف الدولتان (ومعهما أذربيجان) استكمال مشروع نقل دولي عملاق يُعرف بـ"ممر الشمال/الجنوب"، ويتكون من خطوط بحرية وبرية وسكك حديدية، ويربط المحيط الهندي ومنطقة الخليج مع بحر قزوين مروراً بإيران، ثم يتوجه إلى سان بطرسبرغ الروسية ومنها إلى شمال أوروبا، وسينقل سنويا 10 ملايين طن.
ويعتبر هذا المشروع أحد أرخص الطرق الرابطة بين قارة آسيا وأوروبا وبذلك ينافس قناة السويس، حيث إن تكاليف النقل عبره تتقلص بمقدار 2500 دولار مقابل كل 15 طنًا، هذا فضلا عن أن ذلك يستغرق 14 يومًا فقط، في مقابل 40 يومًا عبر طريق قناة السويس.
تولي إيران أهمية إستراتيجية كبيرة لهذا المشروع؛ فإضافة إلى مردوداته الاقتصادية، سيمكّنها من التحكم في حلقة وصل حيوية بين آسيا وأوروبا. أما روسيا فسيمنحها الممر إيرادات اقتصادية هائلة، وسيتيح لها مدخلًا إستراتيجيًا إلى مياه المحيط الهندي.
– مجال الطاقة: تمتلك إيران وروسيا احتياطات هائلة من الغاز والنفط، وهما من كبار مصدري هاتين الطاقتين، وتسعيان لتعزيز التعاون فيهما وفي الطاقة النووية.
وقد دفعت تدخلات أميركا -مع قوى أخرى غربية وشرق أوسطية- في أسواق الطاقة العالمية خلال السنوات الماضية؛ كلا من طهران ومسكو إلى تعاون أوثق لتنظيم الأسعار بما يحفظ مصالحهما. ومع ذلك؛ ثمة تنافس يوجد بين الدولتين في أسواق الطاقة، لكن فرص التعاون حاليا أكبر.
2- العامل الإقليمي والدولي:
التعاون الإقليمي بين إيران وروسيا لا يقتصر على منطقة الشرق الأوسط، كما يظن البعض خاطئا؛ بل ينسحب إلى مناطق ربما أكثر أهمية للجانبين في آسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين.
هذه المناطق تؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي لروسيا التي تريد إنشاء حزام آمن مسالم في جوارها الجغرافي، وذلك يستدعي تعاونا وثيقا من إيران بحكم حدودها المشتركة مع المناطق الثلاث المحيطة بروسيا.
إن طبيعة الأنظمة الحاكمة غير الديمقراطية، والأزمات البينية مثل أزمة قرباغ والتطرف والإرهاب؛ تجعل تلك المناطق غير مستقرة وتحمل في ذاتها تهديدات مستقبلية لروسيا، وكذلك لإيران بدرجة أقل.
محورية التحدي الغربي
ثم إن الدولتين تقفان أمام تحدي النفوذ والوجود العسكري الغربي والأميركي المتصاعد في هذه المناطق، والذي يستهدف -بالدرجة الأولى- اختراق طوق روسيا وتطويقها. واليوم؛ يبحث حلف الناتو -إلى جانب مساعيه لمحاصرة روسيا شرقا- عن موطئ قدم له في الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفياتي سابقا (مثل كزاخستان وأذربيجان)، وبذلك يعزز الحلف أيضا اقترابه من إيران وبحر قزوين.
أما منطقة الشرق الأوسط -التي تشكل نقطة انطلاقة لروسيا نحو العودة إلى موقعها العالمي- فتمثل ساحة مهمة للغاية للتعاون بين الجانبين. وقد تجسد ذلك في ولوجهما القتالَ إلى جانب الحليف السوري المشترك خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وكان ذلك عمل ميداني مشترك للبلدين للدفاع عن مصالحهما المشتركة، مما عزز فرص تعاونهما وعمّقها.
العلاقات الإيرانية الروسية لها طابع إستراتيجي متميز اليوم، لكنها لم ترتق بعدُ إلى درجة التحالف الإستراتيجي، وما يجمع الطرفين في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز أكثر مما يفرقهما. والناظم الرئيسي لهذه العلاقات هو المصالح المؤقتة والتحديات المشتركة، وعلى رأسها التحدي الغربي والأميركي تحديدا. ولذلك هناك دائما قلق مشترك ينتاب كلا البلدين من احتمال تقارب أحدهما مع الغرب على حساب الآخر |
فإيران ترى في روسيا الموازن الدولي للموقف الأميركي، وكذلك روسيا تجد في طهران قوة إقليمية صاحبة نفوذ واسع يمكن الاعتماد عليها في مواجهة واشنطن، في ظل تنامي فرص نشوء حرب باردة جديدة.
دوليا أيضا، إيران وروسيا معنيتان -إلى جانب قوى أخرى كالصين- بإنهاء النظام العالمي الأحادي القطب والتأسيس لنظام متعدد الأقطاب. والضغوط التي تمارسها واشنطن على طهران ليست بعيدة عن سياق مواجهة الأولى مع روسيا.
كما أن تنامي علاقات مسكو وإيران يأتي في إطار هذه المناكفة، إذ إن روسيا أرادت باستخدامها الفيتو في مجلس الأمن -خلال اجتماعه الأخير بشأن اليمن- ضد القرار البريطاني لمتضمنه عبارة تدين إيران؛ أن تقول للغرب إن الوضع الدولي تغيّر، وإنها لن تسمح بتمرير أي قرار دون توافق وثمن مسبقيْن؛ وذلك قبل أن تريد إرسال رسالة دعم لطهران.
ثمة مؤشرات ظهرت في الآونة الأخيرة تؤكد المنحى التصاعدي للتقارب بين إيران وروسيا، أهمها:
أولا، دعم روسيا للحكومة الإيرانية بقوة في مواجهة التدخلات الأميركية خلال الاحتجاجات الأخيرة بإيران، وإفشالها الاجتماع الذي دعت إليه واشنطن في مجلس الأمن لمناقشة ذلك في 6 فبراير/شباط الماضي. والطريف أن البعض وصف تصريحات المندوب الروسي الداعمة لإيران في الاجتماع بأنها كانت أقوى من تصريحات المندوب الإيراني في الأمم المتحدة.
ثانيا، استخدام روسيا -للمرة الأولى في تاريخها- حق الفيتو لصالح إيران في اجتماع مجلس الأمن الدولي الأخير؛ رفع مكانةَ روسيا لدى صانع القرار الإيراني، ومثّل مرحلة جديدة في علاقات البلدين الثنائية.
ثالثا، تأكيد رأس هرم السلطة في إيران (أي المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي) ضرورة تفضيل الشرق -عند حديثه في 18 فبراير/شباط الماضي عن أولويات العلاقات الخارجية الإيرانية- لم يأتِ من فراغ، بل كان مدفوعا بمعطيات السنوات الأخيرة.
الخلاصة هي أن العلاقات الإيرانية الروسية لها طابع إستراتيجي متميز، لكنها لم ترتق بعد إلى درجة التحالف الإستراتيجي، وما يجمع الطرفين في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز أكثر مما يفرقهما. والناظم الرئيسي لهذه العلاقات هو المصالح المؤقتة والتحديات المشتركة، وعلى رأسها التحدي الغربي والأميركي تحديدا.
ولذلك هناك دائما قلق مشترك ينتاب كلا البلدين من احتمال تقارب أحدهما مع الغرب على حساب الآخر، وهذا القلق أقوى لدى الإيرانيين منه لدى الروس. وقد أدرك ذلك بوتين نفسه فقال في لقائه مع المرشد الأعلى للثورة الإيرانية: "لن نخونكم". ويظل السؤال مطروحا: هل ستبقى روسيا وفية بوعد بوتين لإيران؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.