قراءة هادئة في المشروع الإيراني
من كانت قدمه في النار فليس كمن قدمه في الماء، هذه مسلمة لا ينكرها عاقل ولا تحتاج إلى جدال. وفي هذه الحالة فإن واجب الذي يملك الماء أن يسعى لإطفاء النار المشتعلة في القدم الأخرى، وفي كل الأحوال فليس لصاحب القدم المشتعلة أن يشعل النار في من حوله. وإلى أن تُطفأ النار؛ فإن فقه الاضطرار الاستثنائي لا يصلح أن يكون حاكماً على فقه الآخرين، ولا ملزماً لبقية الأمة، وإذا وُجد الماء بطل التيمم.
بعد زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للرياض واجتماع القمة الأميركية الإسلامية، ورغم تزاحم الأحداث القاسية والمؤلمة وتصاعد وتيرتها في المنطقة؛ فإن الذي تصدّر الواجهة هو الموضوع الإيراني، لأسباب ليس لها علاقة بما يجري في الداخل الإيراني، فلم يعد بمقدور إيران أن توظف دهاءها السياسي لتتحكم في مسار الأحداث كما كان سابقاً.
والمجتمع الدولي -فضلا عن نظيره الإقليمي- ليس معنيا بالانتخابات الإيرانية، ولا مهتماً بمن يحكم هناك سواء أكان محافظاً أم إصلاحياً، ما دام الولي الفقيههو صاحب القول الفصل في إدارة الدولة ورسم علاقاتها مع الآخرين. كما لم يعد الملف النووي يثير الاهتمام لأنه تحت السيطرة الدولية والتحكم الأممي.
المجتمع الدولي -فضلا عن نظيره الإقليمي- ليس معنيا بالانتخابات الإيرانية، ولا مهتماً بمن يحكم هناك سواء أكان محافظاً أم إصلاحياً، ما دام الولي الفقيه هو صاحب القول الفصل في إدارة الدولة ورسم علاقاتها مع الآخرين. كما لم يعد الملف النووي يثير الاهتمام لأنه تحت السيطرة الدولية والتحكم الأممي |
ومع توافر هذه الاعتبارات إلا أن العنوان الإيراني تصدّر المشهد، بسبب التغير في الخطاب الأميركي تجاه إيران وحشد العواصم العربية لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة؛ فإلى أي مدى ستذهب إدارة ترمب في ترجمة مضامين الخطاب الجديد؟ أم إن هذا الخطاب جاء استجابة لاستحقاق اللحظة المتمثلة في إتمام الصفقة التاريخية لبيع الأسلحة الأميركية؟
العنوان الإيراني اختلف فيه السابقون والمعاصرون، وسيبقى الاختلاف حوله متوارثا من جيل إلى آخر دون أن يتسنّن الشيعة ولا أن يتشيع السُّنة، فلا الشيعة تاركو مذهبهم ولا السنة كذلك مع وجود حركة انتقال في الاتجاهين.
وقد صدرت في التشيع فتاوى فقهية، ونشأت لمواجهته معارك ميدانية عسكرية وفكرية وسياسية طاحنة، زاغ فيها من زاغ وغلا في رفضه أقوام وانتصر له أتباع، وعدل في الموقف منه أصحاب الرأي والاجتهاد.
فهل هذا الملف محيّرٌ بالفعل إلى هذه الدرجة التي تجعل الحليم حيران؟ أم أن سعة الاختلاف والتباين هي عرَض لمرض آخر أصاب الأمة الإسلامية وتوارثته الأجيال، وانتقل من السابق إلى اللاحق دون أن يأخذ حظه من البحث العلمي المتجرد؟
في هذه السطور مناقشة هادئة ومقاربة نحو تشخيص الأزمة وتوصيف الواقع وتحديد المشكلة. فما هي طبيعة المشكلة مع هذا العنوان؟ وما هي نقاط الاتفاق والاختلاف في النظر إلى هذا الملف بين أهل السنة أنفسهم؟ وفي هذا السياق؛ يتشكل السؤال: ما المقصود بالمشروع الإيراني قبل أن نحدد الموقف منه؟
بنظرة سريعة على الأوصاف التي يطلقها الذين يرون في ذلك المشروع عدواً تاريخياً خطيراً يتصدر أولويات المواجهة؛ نجد أن هؤلاء يصفون المشروع بالمصطلحات التالية: فارسي، مجوسي، رافضي، شيعي، صفوي، كافر، خارج عن الملة… إلخ. وبهذا الخلط يزداد الوضع تعقيداً، خلط القومي بالسياسي بالطائفي والديني.
فعلى المستوى الجغرافي وُجدت إيران قبل الإسلام وبقيت بعد الفتوحات الإسلامية الكبرى، وستبقى إيران ولن يبتلعها البحر، وإن فعل فسيبتلع الإقليم الجغرافي بكامله بسنته وشيعته عربه وعجمه.
إذا كان العداء مع إيران ناتجا عن اختلاف المذهب فهو موضع اختلاف بين علماء الأمة قديماً وحديثاً. وحتى إن كان الاختلاف عقائدياً وسلمنا جدلاً بكفر الشيعة؛ فهل ذلك مبررٌ لعداوتهم وقتالهم؟ وهذا يقودنا إلى السؤال الأعم: ما هو موقف المسلمين من الآخر؟ من الملحدين والكفار؟ هل يجوز قتالهم لأنهم ملحدون كافرون بالله واليوم الآخر؟
والله سبحانه وتعالى يقول: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، ويقول: "ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم". ويقول أيضاً: "لا إكراه في الدين". وعلى هذا الأساس فإن الاختلاف في الدين لا يسوّغ القتال، فكيف إذا كان الاختلاف في المذهب والطائفة؟
إذا كان العداء مع إيران ناتجا عن اختلاف المذهب فهو موضع اختلاف بين علماء الأمة قديماً وحديثاً. وحتى إن كان الاختلاف عقائدياً وسلمنا جدلاً بكفر الشيعة؛ فهل ذلك مبررٌ لعداوتهم وقتالهم؟ وهذا يقودنا إلى السؤال الأعم: ما هو موقف المسلمين من الآخر؟ من الملحدين والكفار؟ هل يجوز قتالهم لأنهم ملحدون كافرون بالله واليوم الآخر؟ |
ومما يجدر ذكره أن ثقافة التعددية المذهبية لدى المنهج الإحيائي كانت متقدمة على الواقع الحالي في التعامل مع الشيعة، ويكفي أن نقرأ في مجلة "الشباب" (مثلاً العددان الرابع والخامس من السنة الأولى مارس/آذار 1948) النص التالي: عملت الجماعة (الإخوان المسلمون) على فض الاشتباك بين السنة والشيعة، فاشتركت في تأسيس جمعية التقريب بين المذاهب، وقد كان على رأسها أحد علماء الشيعة هو الشيخ تقي الدين قمي من علماء الشيعة بإيران.
كما فتحت الجماعة الباب لبعض علماء الشيعة للكتابة في مجلات الإخوان، وإن كانت هذه المحاولة لم تلق نفس القدر من النجاح، إلا أنها أوجدت صلة وثيقة بين الشيعة الاثني عشرية والإباضية والزيدية وبين الجماعة.
وقد التقى الإمام حسن البنا في مكة المكرمة بآية الله كاشاني عام 1948م، ودارت بينهما حوارات عديدة، وكان الاتفاق على أن يلتقيا في العام التالي لولا اغتيال الإمام الشهيد. وبذلك تنتفي مبررات العداوة مع الإيرانيين بوصفهم شيعة، هذا مع العلم بأن نسبة السنة في إيران تصل إلى الثلث.
وأما القول بأن العرق الفارسي هو سبب العداوة، ففي ذلك عصبية وعنصرية تتناقض مع روح الإسلام ونص القرآن "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
ولا شك في أن هذه العنصرية من مخلفات الجاهلية التي حاربها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقال عنها: "دعوها فإنها منتنة"، وقدم الصحابي سلمان الفارسي وجعله من آل البيت. وإضافة إلى ذلك؛ فليس جميع الفرس شيعة إذ منهم أهل سنة ومنهم غير ذلك، والشعب الإيراني تتعدد فيه الأعراق والأغلبية فيه ليست فارسية.
وبالعودة إلى المقدمة والسؤال: هل الخلاف السني الشيعي أصل للمشكلة أم إنه عَرَض لأزمة الأمة الإسلامية؟ نجد أن الأزمة الناشئة عن الفصام النكد بين سمو النص القرآني ومقاصد الشريعة من جهة، وغياب التمثل في حياة المسلمين من جهة أخرى، هما اللذان أسسا لثقافة الإقصاء، وأنتجا خطاباً مثقلاً بالكراهية ورفض المخالف وإقصائه، حتى داخل المذهب الواحد والفكر الواحد والحزب الواحد.
لقد تمزقت الأمة أحزابا وشِيَعاً، وكل فرقة تظن أنها هي الفرقة الناجية والبقية في النار (كلهم في النار إلا واحدة)، وهذه "الفرقة الناجية الواحدة" هي التي تحتكر الحقيقة والبقية في ضلال. هذا هو خطاب الأنانية وعقدة الخيرية والعنصرية القومية والاستكبار السياسي.
إن ثقافة الادعاء بأن جماعة معينة هم أبناء الله وأحباؤه هي ثقافةُ شعب الله المختار، الشعب الذي فضله الله على العالمين. هذا هو الإشكال العميق الذي يتمثل في كيفية إدارة الاختلاف وليس التنوع أو التعدد.
الجرائم التي ارتكبتها إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن ساهمت في تمرير نظرية العدو البديل، حيث نجحت "إسرائيل" في تسويق فكرة أن إيران هي العدو الأول الذي يُحْذَر، وأن خطر ما يُوصف بالمشروع الإيراني "الصفوي المجوسي الشيعي" مقدم على خطر المشروع الصهيوني |
بعد هذا الاستعراض؛ إن سؤالي لمن يصر على اعتبار أن الخطر الإيراني هو المهدد الحقيقي لمشروع الأمة، وأن إيران أخطر على الأمة من المشروع الصهيوني؛ هو: لو اختفت إيران "المجوسية أو الفارسية الصفوية الرافضية الشيعية" من الوجود؛ فهل ستزول حالة التناقض والتنازع بين مكونات الأمة؟ وهل ستختفي بقية مشاكلنا؟
يكفي أن ننظر في التاريخ قديمه وحديثه لنرى أن النيران الصديقة التي فتكت بالمسلمين لم تكن بسبب الخلاف السني الشيعي، فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن شيعياً ولم يكن معاوية سنياً، ومآسي الأمة منذ معركة صفين -التي قُتل فيها سبعون ألفا من الصحابة- إلى المأساة المصرية بعد الانقلاب، ليست بسبب التناحر الشيعي السني.
صحيح أن الجرائم التي ارتكبتها إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن ساهمت في تمرير نظرية العدو البديل، حيث نجحت "إسرائيل" في تسويق فكرة أن إيران هي العدو الأول الذي يُحْذَر، وأن خطر ما يُوصف بالمشروع الإيراني "الصفوي المجوسي الشيعي" مقدم على خطر المشروع الصهيوني، بل ويقتضي التعاون والتحالف مع "إسرائيل" لدرء الخطر الإيراني الذي يهدد الجميع.
ولا شك أن هذا الانحراف يُعد نجاحاً للفكر الصهيوني وللمصلحة "الإسرائيلية"، خاصة بعد اعتماد بعض الإسلاميين لهذا الطرح.
الخلاصة هي أن لإيران أطماعا ومصالح ونفوذا متصاعدا يملأ الفراغ الناشئ عن غياب المشروع العربي المستقل، وأن جنون إيران وعدوانها المستمر يشجع على تصعيد حالة الشحن الطائفي، وعلى استنزاف الطاقات في الصدام والاستعداد له وسباق التسلح، الأمر الذي سيحطّم الدول العربية وإيران معاً ويسرّع تقسيم المنطقة من جديد.
ليس العراق وسوريا ومصر والخليج العربي مهددين بالتقسيم فقط، بل إن إيران أيضا سينالها نصيبها من التمزق والتجزئة. إن استمرار الصراع لن يخدم إلا أعداء الأمة، واستمرار الشحن الطائفي سيقود إلى الصراع.
ولن تستطيع إيران أن تبلغ مرادها عن طريق العدوان وتصدير الثورة، ولن يُسمح لها بأن تخرج منتصرة أو متفوقة على المشروع الصهيوني إلا إذا تعاونت وتكاملت مع المحيط العربي والإسلامي، وبخلاف ذلك فإنها ستعاني من عزلة عربية وإسلامية ودولية لن تستطيع تحمل نتائجها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.