نظرية المؤامرة عربيا بعد موقعة اليونسكو
لا تظهر الأهمية المعرفية لما حدث داخل أروقة منظمة اليونسكو مؤخرا في نتيجة الانتخابات نفسها، أو في جنسية الفائز بمنصب المدير العام للمنظمة فحسب؛ بل تتحدد أساسا بالدروس الكبيرة التي تعلمتها الجماهير العربية مما يمكن تسميته "موقعة اليونسكو".
فما كان لاسم المرشح العربي -لا القطري فقط- ولا للانتخابات أن تحصد هذا الانتباه الكبير لو لا أن تحالفت فيها ضده مجموعة من الدول العربية، يجمعها قاسم العداء المشترك لهذا المرشح تحديدا دون غيره.
التآمر الجلي والمعلن على المرشح العربي يقدم خدمة نوعية للوعي العربي الجديد، لأنه يفرض علينا مراجعة أسس "نظرية المؤامرة" نفسها؛ لا بما هي منوال تحليلي للوقائع والأحداث فقط، وإنما بما هي واقع ملموس وفعل إجرائي قاهر، لم يعد يخفى على كامل الطيف في المنطقة العربية.
إن إعادة بناء الشروط الموضوعية المنتِجة والمروِّجة والمستهلكة لنظرية المؤامرة يشكل اليوم مكسبا عزيزا على الوعي العربي، الناشئ من بين أنقاض ضربات الثورة المضادة الدامية.
التآمر الجلي والمعلن على المرشح العربي لمنصب المدير العام لليونسكو يقدم خدمة نوعية للوعي العربي الجديد، لأنه يفرض علينا مراجعة أسس "نظرية المؤامرة" نفسها؛ لا بما هي منوال تحليلي للوقائع والأحداث فقط، وإنما بما هي واقع ملموس وفعل إجرائي قاهر، لم يعد يخفى على كامل الطيف في المنطقة العربية |
دأب الخطاب الإعلامي عامة -والأيديولوجي النظري أو السياسي الحزبي خاصة- على استعمال مصطلح المؤامرة استعمالا نقديا، لنعت كل خطاب أو قراءة للوقائع تختزل أسبابها في مخططات خارجية خفية، تتجاوز في قدرتها العواملَ الموضوعية الذاتية المكوِّنة للظاهرة نفسها.
إن "الفكر التآمري" أو "القراءة التآمرية للتاريخ" وللأحداث إنما هي منوالات فكرية تلغي الفواعل الداخلية، لتربط الفعل كله بعمل خارجي تغلب عليه السرية والتكتم والخطورة عادة. والمؤامرة أيضا قراءة اختزالية مسطحة لا تأخذ في الاعتبار الشروط الموضوعية للظواهر. وهي تتعلق أساسا بسبب حدوث الفعل ونتيجته لا بأطواره أو صيرورته، إنها بحث فيما وراء الحدث وفي القوة التي صنعته.
تختلف المؤامرة عن المنوال الميتافيزيقي الذي يرد الأحداث والظواهر إلى القوى الغيبية حين يعجز العقل عن إدراك أسبابها الموضوعية، لأن نظرية المؤامرة قادرة على تحديد الفاعل الرئيسي وراء الحدث بما هو فاعل موضوعي وحسي موجود، لكنه في الغالب غير محدد بشكل دقيق.
من ناحية أخرى؛ ليست النظرية كمنوال تحليلي واستقرائي شكلا سلبيا مطلقا أو غير مقبول، بل يمكن اعتبارها أحد الأنظمة التحليلية القادرة على تفسير جزء كبير من الوقائع والأحداث التاريخية. ليست المؤامرة بذلك نقيضا للمعرفة العلمية بل هي صنو المعرفة الاستقرائية، وصنو الإدراك الاستدلالي وصنو المنهج التجريبي والتفكير التعليلي السببي.
إن المؤامرة -بما هي فعل تخطيطي خفي- قادرةٌ على تفسير جزء كبير من الأحداث المفصلية في التاريخ الحديث والقديم، خاصة إذا تمثلنا المؤامرة بما هي فعل مُدرك مؤسَّس على التخطيط المسبق لبلوغ هدف محدد يشترط التكتم والإلغاز.
وكغيره من أشكال الوعي؛ عرف الوعيُ الجمعي العربي نظريةَ المؤامرة خلال أحداث كثيرة من تاريخيه القديم والحديث. بل يمكن القول إن النظرية ازدهرت كثيرا في السياق العربي بسبب قابلية الأرضية الفكرية للنموذج. إذ تزدهر هذه النظرية في الأوساط الشعبية بسبب خصائصها القادرة على تلبية مطلبيْ الوعي الشعبي الرئيسيين، وهما: الاختزال والحسم القادران على تحقيق الرغبة في الإقناع والاقتناع.
يميل الوعي الشعبي إلى تفسير الأحداث الفردية والجماعية استنادا إلى هذا المنوال، لكن حضورها في تفسير الأحداث الجماعية يتجلى أكبر في تفسير أحداث مصيرية كبرى. إن شهية المجتمعات العربية لاستعمال هذا المنوال التفسيري تعكس طبيعة الثقافة القاعدية لهذه المجتمعات، وطبيعة التربية التي يتلقاها الفرد والمجموعة.
لعل الحرب الطائفية القائمة اليوم داخل البيت الإسلامي تتأسس -حسب كثيرين- على مؤامرة تاريخية وجريمة غيرت مجرى التاريخ، مما يسمح بتوظيف كتلة بشرية هائلة وتوجيهها وصياغة سلوكها (عقائديا في الظاهر وسياسيا في الباطن)، نحو الثأر من فعل المؤامرة ومن مرتكبه (واقعة كربلاء في المخيال الشيعي مثالا).
"التآمر على الأمة وعلى الإسلام وعلى العرب" من قبل القوى الخارجية (وهي أساسا "القوى الغربية والصهيونية العالمية") هو ما يجعل مصدر المؤامرة على مستوى الخطاب -سواء كان رسميا أو نخبويا أو شعبيا- واقعا أساسا خارج المساحة العربية. إن نظرية المؤامرة في الوعي العربي تتجه إلى تصدير مركز الفعل التآمري ومصدره إلى الخارج.
إن القطيعة الهائلة التي أحدثها الربيع العربي في الأداء السياسي للنظام الرسمي العربي حتمت عليه تطوير أدائه والتكيف مع الواقع الجديد، وإعادة استثمار نظرية المؤامرة كأداة للطعن في ثورات الحرية الأخيرة وتبرير ذبحها. ولم يبق للعقل الأمني والعسكري التابع للنظام الرسمي إلا استثمار الحرب الأميركية على "الإرهاب الإسلامي"، لتوظيف مجموعات القتل العابرة للحدود في سبيل تأكيد نظرية المؤامرة |
نجح الخطاب الرسمي العربي نجاحا كبيرا في الترويج لهذا الاتجاه بالنفخ في نظرية المؤامرة لما تحققه للنظام السياسي من مزايا كبيرة منها:
أنها ترفع عنه أو لا تورطه في الهزائم التي مُنيت بها الأمة في كل الدول تقريبا، ويقذف بالمسؤولية نحو أعداء الخارج الذين يتربصون بالبلاد، بما فيها نظامها السياسي وبنية السلطة فيها. أي أن النظام بريء من حالة الفساد المالي والانهيار الاقتصادي والتخلف الاجتماعي والتردي الحضاري، لأن السبب هم أعداء الأمة في الخارج المتربصون بها وبالنظام.
هذا الاتجاه الخارجي يسمح للنظام السياسي العربي ثانيا بتبرير جرائمه القمعية تجاه شعبه، عندما يصور نفسه مستهدَفا بأطماع خارجية، مثلما فعل "محور الممانعة" -وخاصة في سوريا– لعقود، وهو يواجه المؤامرة الصهيونية والإمبريالية والاستعمارية الغربية بشكل يسمح له بتصفية أذيالها وأعدائه، ممثلين في "الرجعية العربية" بالأمس و"التنظيمات الإخوانية" اليوم؛ حسب تسميات معجم الاستبداد.
إن توجيه الأنظار إلى الخارج هو في الحقيقة صرف للنظر عن المأزق الداخلي للأنظمة القمعية، وعن جرائمها وشكل من أشكال جلب التعاطف الشعبي معها.
وهذه النظرية تسمح ثالثا بضرب كل محاولات التغيير الداخلي، حيث يُسرع النظام دائما إلى ربط المطالب الاجتماعية الشرعية بما تسميه أدبياته السياسية "أجندات خارجية مشبوهة"، تتبع المؤامرة الصهيونية والمؤامرة الصفوية والمؤامرة الإمبريالية..، وينفذها "مندسون ومرتزقة من أعداء الوطن".
إن القطيعة الهائلة التي أحدثها الربيع العربي في الأداء السياسي للنظام الرسمي العربي حتمت عليه تطوير أدائه والتكيف مع الواقع الجديد، وإعادة استثمار نظرية المؤامرة كأداة للطعن في ثورات الحرية الأخيرة وتبرير ذبحها.
ولم يبق للعقل الأمني والعسكري التابع للنظام الرسمي إلا استثمار الحرب الأميركية على "الإرهاب الإسلامي"، لتوظيف مجموعات القتل العابرة للحدود في سبيل تأكيد نظرية المؤامرة، وإرهاب الشعوب وتحقيق حالة الرعب الفردي والجماعي، من أجل أن تتراجع الجماهير عن كل تفكير في الثورة والتغيير مستقبلا.
عندها -وعندها فقط- يستتب الأمر للنظام القمعي، ويصير العيش في ظل الاستبداد قدرا لن تفكر الشعوب أبدا في الفكاك منه، وهي أعز الانتصارات التي يحلم كل نظام قمعي بتحقيقها لأنها تحقق شرط تأبُّد الاستبداد.
إن "موقعة اليونسكو" -التي أزاحت المرشح القطري عن رئاسة المنظمة الثقافية الأشهر في العالم- تشكل أحد أنصع النماذج، التي تفرض تحديث نظرية المؤامرة عربيا على مستوى الاتجاه والمصدر.
لقد قامت دول ما اصطُلح على تسميته "مجموعة حصار قطر" بإعلان تخطيطها المسبق، لا للفوز بالمنصب بل من أجل التصويت لكل المرشحين ما عدا المرشح القطري، بهدف إسقاطه مهما كانت التكاليف.
وقد شهد التصويت مواقف فاضحة ومخجلة مثل صراخ عضو البعثة المصرية الهستيري بأن "تسقط قطر وتحيا فرنسا"، في مشهد فاضح أصاب جميع الحضور والملاحظين بالصدمة والذهول والاستياء. وليست الهستيريا -التي أصابت بعثات مجموعة الحصار- هي الأهم في هذا المشهد بل إن ما شهدته كواليس الدبلوماسية العربية من تآمر وتدليس في هذا المحفل الدولي، هي الأهم في قراءتنا هذه.
حادثة اليونسكو دليل دامغ على أن مصدر المؤامرة الأساسي هو الداخل العربي، وليس الخارج الذي قد يُمسك ببعض خيوط اللعبة أحيانا؛ فالمؤامرة فعل صادر عن المؤسسات الرسمية العربية، إن لم نقل إن صانع المؤامرة وواضع شروط قابليتها للإنجاز هو النظام الاستبدادي العربي نفسه، لأن الأنظمة القمعية تشكل كبرى المؤامرات |
إن خسارة العرب للمنصب الأممي تعدّ كبيرة لما كانت تمثله اللحظة من فرصة تاريخية للمساهمة في تغيير الصورة النمطية عن العرب والمسلمين في الخارج، والتعريف بالإرث الحضاري للشعوب العربية المسلمة.
كانت رؤية المرشح العربي تهدف أساسا إلى ضرب الرسم الاستعماري النموذجي للعربي المسلم بما هو "إرهابي عنيف ميال إلى الفوضى والعنف". وهذه الرؤية ما كانت لتتحقق دون تحريك الأدوات الحضارية وتفعيل المخزون الثقافي، لدفع الضرر الذي لحق بمكانة العربي المسلم في المخيال العالمي.
هذه الخسارة تسببت فيها دول عربية محددة، وهي مجموعة حصار قطر ولبنان والمغرب ودول أخرى آثرت التصويت ضد المرشح العربي. فالهزيمة لم تكن بسبب برنامج المرشح أو رؤيته ولا بسبب قوة المنافسين، بل بسبب تآمر دول عربية على قطر. إن حادثة اليونسكو دليل دامغ على أن مصدر المؤامرة الأساسي هو الداخل العربي، وليس الخارج الذي قد يُمسك ببعض خيوط اللعبة أحيانا.
المؤامرة فعل صادر عن المؤسسات الرسمية العربية، إن لم نقل إنه صانع المؤامرة وواضع شروط قابليتها للإنجاز هو النظام الاستبدادي العربي نفسه، لأن الأنظمة القمعية -بما هي وريث مباشر للمنظومات الاستعمارية- تشكل كبرى المؤامرات، التي نُفّذت عبر التاريخ ضد نهضة الأمة وتحرر شعوبها.
وبذلك تكون "موقعة اليونسكو" -في الحقيقة- فصلا جديدا من فصول التآمر على نهضة الأمة، وعلى ما أحدثته ثورات الحرية من زلزال كبير، يهدد بنسف أسس المشروع الاستبدادي العربي. إن ذبح الثورة المصرية وقتل الشعب السوري الثائر، ونسف الثورة في ليبيا واليمن، ومحاولة الانقلاب على الثورة التونسية؛ تدخل جميعها في إطار انتقام الثورات المضادة من حلم الجماهير في التحرر والكرامة.
إن نجاح الانقلاب المصري وفشل الانقلاب التركي وهزيمة الانقلاب في قطر؛ كلها حلقات واحدة في سلسلة المؤامرة الانقلابية على الأمة وعلى سعيها إلى الانعتاق والتحرر. إن "موقعة اليونسكو" فصل جديد من فصول الفعل الاستبدادي العربي بما هو فعل تآمري بالدرجة الأولى.
واليوم يدشن هذا الفعل أخرى مراحل وجوده التاريخية، بعد أن استنفد كل شروطها الموضوعية والحضارية، وهو بكل الجرائم التي يرتكبها اليوم إنما يعلن خروجه إلى السطح بعد أن كان -لعقود طويلة- يعمل من وراء الستار.
هذا الصعود باتجاه السطح هو الذي سيضعه في مواجهة مباشرة مع الوعي العربي الناشئ، ومع الحركة التي ستدشنها الجماهير خلال الموجة الثورية القادمة، بشكل يطيح بواحدة من أصلب أعمدة الفكر الاستبدادي وقواعد خطابه التضليلي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.