شرخ العلاقات التركية الأوروبية بعد الانقلاب الفاشل
تحالف حذر
الوصاية المعنوية
الأمن الأوروبي
الجدل المحلي
مستقبل العلاقات
جاءت ردة الفعل الأوروبية على الانقلاب الفاشل في تركيا حذرة وباردة، إذ تأخرت غالبية العواصم الأوروبية عدة ساعات في إدانة محاولة الانقلاب، مما أثار حفيظة وانتقاد المسؤولين الأتراك.
ولئن كان هذا التأخير منسجما مع طبيعة السياسة الخارجية الأوروبية التي تتسم بالحذر والتأني، إلا أن سياق التوتر الأخير في علاقات الجانبين، إلى جانب التركيز على انتقاد إجراءات الطوارئ التركية، والتهديد المباشر والمتكرر بإيقاف مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي، زادت كلها من الاستياء التركي، ودفعت أنقرة لاتهام الأوروبيين بالتحيز والتحامل.
تحالف حذر
ترى أوروبا في تركيا حليفا إستراتيجيا، وقلعة هامة في الشرق أمام الأطماع الروسية سواء عبر مشاركتها الفاعلة في الناتو، واحتضانها لقواعد عسكرية للحلف وعدد من الرؤوس النووية والأنظمة الصاروخية والرادارات. كما ترى فيها سوقا هامة لأوروبا، وشريكا في صيانة أمن القارة لا سيما في محاربة تنظيم الدولة استخباريا وعسكريا، والتعاون مؤخرا في صد موجات اللجوء العارمة نحو أوروبا.
ومنذ توقيع الطرفين المعاهدة التأسيسية ستينات القرن الماضي، بقي تعريف العلاقة بينهما محكوما بكون تركيا دولة ساعية للانضمام إلى المنظومة الأوروبية، وبالتالي خاضعة لشكل من أشكال وصاية هذه المنظومة عبر تقييماتها الصارمة التي صاغتها المعاهدات.
منذ توقيع الطرفين المعاهدة التأسيسية ستينات القرن الماضي، بقي تعريف العلاقة بينهما محكوما بكون تركيا دولة ساعية للانضمام إلى المنظومة الأوروبية، وبالتالي خاضعة لشكل من أشكال وصاية هذه المنظومة عبر تقييماتها الصارمة التي صاغتها المعاهدات |
وقد برز هذا الإطار فاقعا في التعاطي الأوروبي مع الانقلاب الفاشل في تركيا، وظهر الأوروبيون في صورة المنزعجين من إجراءات ما بعد محاولة الانقلاب، أكثر من انزعاجهم من فكرة اغتصاب السلطة عبر انقلاب عسكري، أو هكذا لمّحت العديد من التصريحات التركية الرسمية، التي لخصها الوزير عمر تشيليك بقوله إن الأوروبيين "يدينون الانقلاب بجملة، ويدينون إجراءاتنا بعشر جمل".
ويُفسَّر هذا الموقف الأوروبي تجاه إجراءات تركيا ما بعد الانقلاب الفاشل بثلاثة أسباب رئيسة: الوصاية المعنوية، الأمن الأوروبي، الجدل المحلي.
الوصاية المعنوية
تسعى تركيا منذ ثلاثة عقود للانضمام الكامل للمنظومة الأوروبية، التي تقوم فلسفتها في ضم أعضاء جدد على مبدأ المشروطية. ويستند هذا المبدأ على مراقبة وتقييم الأداء السياسي والاقتصادي والإداري للدول المرشحة وفق ما نصّت عليه معايير كوبنهاغن.
أعطت معايير كوبنهاغن مؤسسات ودول الاتحاد الأوروبي سلطة نافذة في محاكمة القوانين والإجراءات المحلية للدول الراغبة بالعضوية، وتقييمها على مقياس القيم الأوروبية المشتركة، وهذا ما يتضح من وضع حالة الديمقراطية وحكم القانون وحقوق الإنسان في تركيا تحت المجهر الأوروبي أكثر من غيرها من دول المنطقة التي تزخر بالانتهاكات.
وعلى الرغم من تخلي أوروبا بعض الأحيان عن مشروطيتها الصارمة، كما فعلت عام 2004 حين ضمّت ثماني دول من المعسكر الشرقي سابقا، فإن هذا التسامح كان مدفوعا برغبة سياسة وأمنية بـ "أوربة" قلاع الشيوعية السابقة، فيما تهب الرغبة السياسية معاكسة لسفن تركيا، بصورة تجعلها أكثر خضوعا للمشروطية والوصاية التي تمارسها العواصم الأوروبية أيضا في سياق علاقتها الثنائية مع أنقرة، وليس فقط تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.
وفي السياق ذاته، رأت أوروبا أن الحديث عن إعادة العمل بعقوبة الاعدام، ليس مجرد انتهاك حقوقي عام، إنما هو خرق للبروتوكول رقم 13 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان الذي وقعته الحكومة عام 2004.
الأمن الأوروبي
لا تعتبر تركيا الدولة التي تمتلك ثاني أكبر قوات دائمة في الناتو فحسب، بل يُنظر إليها كنقطة أوروبا للدفاع الصاروخي والنووي الأقرب إلى الشرق، فهي تحتضن أكثر من قاعدة عسكرية للناتو والولايات المتحدة، وعشرات الرؤوس النووية وأنظمة الدفاع الجوي والصاروخي.
ولا شك أن تاريخ التحالف الطويل والقوي بين الغرب وتركيا، إلى جانب موقعها الجيوإستراتيجي المميز بين الشرق والغرب، مضافا إليه القيمة الآنية في توسطها بين نقاط التوتر أو التدخل الغربي في كل من سوريا والعراق وإيران زاد كثيرا من حساسية الدور الأمني التركي.
هذه الحساسية خلقت توجسا أوروبيا من أن تطول حالة عدم اليقين داخل البلاد بصفة عامة، وفي المؤسسة العسكرية بشكل خاص، وذلك على وقع عملية التطهير التي شملت آلاف الاعتقالات والعزل الوظيفي، وقد انعكس هذا القلق بحمى تصريحات انتقدت جل الإجراءات التركية التي تبعت محاولة الانقلاب.
للأتراك ما يفسر غضبهم وخيبة أملهم؛ إذ طالما أرادت بروكسل لتركيا أن تدفع فاتورة الانضمام للاتحاد الأوروبي دون التمتع بمزاياه، حين تم اختزال علاقة عقود مع تركيا من خلال رؤيتها كسوق تجاري كبير أكثر من أي شيء آخر، وفي نفس الوقت أراد الأوروبيون محاكمتها بمنطق الدولة كاملة العضوية |
ويبدو هنا أن القلق الأوروبي له ما يفسره، فلئن كانت الرؤوس النووية التابعة للولايات المتحدة والناتو محفوظة بشكل آمن في قاعدة إنجيرليك مثلا، فيجب أن لا يُنسى أنها تقع على بعد لا يزيد عن 110 كيلومترات عن الحدود السورية، كما أن قطع التيار الكهربائي عن القاعدة لأسبوع، لا يعني فقط تأخر عمليات التحالف ضد تنظيم الدولة، بل تجميد الرؤوس النووية أيضا.
أما على المدى المتوسط، فهناك مخاوف أوروبية حول إعادة هيكلة الجيش التركي وانعكاس ذلك على عقيدته الأمنية، بعد عزل ما يربو عن 41٪ من قياداته (تم فصل 149 جنرالا وأميرالا من بين 358 هم مجموع حاملي رتبة جنرال فما فوق). ولا يبدو أن الأزمة سريعة الحل في ظل حاجة المؤسستين العسكرية والأمنية لشهور لاستيعاب صدمة قرارات الفصل، إلى جانب مخاوف أخرى تتعلق بالاستغراق التركي محليا على حساب الدور الخارجي في محاربة الإرهاب والتصدي للهجرة السرية.
الجدل المحلي
على خلاف التعاطي الأوروبي مع بقية دول الشرق الأوسط، تبدو أوروبا في مشهد المستغرق في التفاصيل التركية، والمتحفّز لتوجيه التعليقات على أداء الحكومة والقضاء، فيما لا تلتزم بالتعقيب على العديد من الانتهاكات الجسيمة في دول أخرى مجاورة.
ويفسّر مبدأ الوصاية وحساسية دور تركيا الأمني جانبا من هذا السلوك الأوروبي، بينما يكمن السبب الآخر في كون العلاقة التركية الأوروبية ليست محصورة في زاوية السياسة الخارجية فقط، إنما تتشابك مع الشأن المحلي الأوربي في معاني السياسة الداخلية، لا سيما الأمن والاقتصاد والبطالة والهجرة.
ومن الثابت أن السياسة الخارجية لا تحسم الخيارات الانتخابية للمواطن الأوروبي، ونادرا ما تتموضع على أجندات الأحزاب المختلفة، لكن ملف عضوية تركيا، أصبح ينعكس في السنوات الأخيرة على الأجندة الانتخابية الأوروبية ويشغل حيزا في الجدل بين الأحزاب، لا سيما في ظل صعود اليمين واليمين المتطرف، مما جعل العواصم الأوروبية أكثر ميلا لتصدير تصريحات قاسية ضد القيادة التركية.
ومؤخرا، أحدثت موافقة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على مقاضاة إعلامي أساء لأردوغان أزمة حادة مع المعارضة اضطرت على إثرها لسحب الموافقة، كما كانت العلاقات مع تركيا حاضرة بقوة في استفتاء عضوية بريطانيا في الاتحاد.
مستقبل العلاقات
وإن كان ما سبق يفسر جزءا من الهواجس الأوروبية، فإن للأتراك أيضا ما يفسر غضبهم وخيبة أملهم؛ إذ طالما أرادت بروكسل لتركيا أن تدفع فاتورة الانضمام للاتحاد الأوروبي دون التمتع بمزاياه، حين تم اختزال علاقة عقود مع تركيا من خلال رؤيتها كسوق تجاري كبير أكثر من أي شيء آخر، وفي نفس الوقت أراد الأوروبيون محاكمتها بمنطق الدولة كاملة العضوية.
لعل نموذج العلاقات الإسرائيلية الأوروبية الذي استطاعت تل أبيب تطويره بالتحرر إلى حد بعيد من المشروطية السياسية، مقابل تحصيل السواد الأعظم من ميزات العضوية دون طلبها أو خوضها رسميا، يعكس جزءا مما تستطيع تركيا -ولو نظريا- إحرازه في علاقتها مع الأوروبيين |
ويبدو أن العلاقات الثنائية تسير نحو مزيد من فقدان الثقة خلال الأشهر القادمة، لا سيما وأن الطرفين ينتظران استحقاق أكتوبر/تشرين أول القادم الذي سيحسم مصير إعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة "شينغن" كجزء من صفقة اللاجئين الموقعة بين الطرفين. وإن كان الإخفاق في تحرير التأشيرة مرجحا في السابق، بسبب عدم تسوية الخلاف على إعادة هيكلة قوانين مكافحة الإرهاب التركية، فيمكن القول اليوم إن الملف فقد فرصته الإيجابية بعد فرض الطوارئ، وتعليق العمل بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والتلويح بإعادة عقوبة الإعدام.
ويبدو أن أوروبا ستتلقف هذه الفرصة بحماس للتنصل من قائمة وعود طويلة لأنقرة، فيما لن تأسف الأخيرة كثيرا في ظل تحديات جسام وشروخ أكبر في العلاقة مع شركائها الأوروبيين، هذه العلاقة التي تبدو أنها ستكون ضحية أخرى من ضحايا محاولة الانقلاب، وقد يعيد صناع القرار الأتراك تقييمها من الصفر.
وبين فرص الانضمام المستحيلة أو القطيعة الكاملة، يكمن طريق ثالث بإمكان أنقرة أن تسلكه في ترسيم علاقتها مع أوروبا يكفل لها تحررا معقولا من الوصاية، وذلك عبر سحب طلب الانضمام الرسمي، والتركيز على الميزة التي تمتلكها بوصفها الدولة الوحيدة غير العضو التي تنخرط مع أوروبا في اتحاد جمركي قابل للتوسع والتطوير، إلى جانب تعويض جوانب التعاون السياسي والأمني والثقافي عبر برامج الشراكة الأوروبية التي تستهدف دول الجوار على مبدأ "التوافق الطوعي" أكثر من المشروطية الصارمة.
ولعل نموذج العلاقات الإسرائيلية الأوروبية الذي استطاعت تل أبيب تطويره بالتحرر إلى حد بعيد من المشروطية السياسية، مقابل تحصيل السواد الأعظم من ميزات العضوية دون طلبها أو خوضها رسميا، يعكس جزءا مما تستطيع تركيا -ولو نظريا- إحرازه في علاقتها مع الأوروبيين، وذلك على قاعدة الحاجة والمصالح المتبادلة بين الطرفين، لا على قاعدة الوصاية على دولة ترابط منذ عقود على بوابة المعسكر الأوروبي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.