الثقة في كلمة اليابان
في السنوات الأخيرة، كان عدد السياح الذين يزورون اليابان في تزايد سريع، فبلغ رقما قياسيا في العام الماضي (13.4 مليون سائح)، وهي زيادة بنسبة 29% عن العام 2013.
ويبدو أن اليابان تخطو خطوات كبرى نحو تحقيق هدفها المتمثل في العودة إلى احتلال المركز الذي حققته قبل قرن من الزمان بوصفها مركزا ثقافيا آسيويا، عندما كان طاغور الشاعر الهندي الحائز على جائزة نوبل يعيش في طوكيو. كما انتقل إلى هناك أيضا عدد كبير من الزعماء الثوريين الصينيين، مثل صن يات صن وتشيانج كاي شيك.
ويحسن صنعا من يزور اليابان اليوم إذا تعلم كلمتين أساسيتين؛ الأولى "دومو" بمعنى "مرحبا"، أو "شكرا"، أو "حسنا"، والثانية "سومي ماسين" التي قد تحمل أيا من معاني كلمة "دومو"، فضلا عن "آسف"، أو "أرجو المعذرة".
الياباني العادي يقول كلمة "سومي ماسين" مرات لا تحصى كل يوم، للاعتذار لأصدقاء أو أغراب حتى لأتفه حادث أو خطأ. ولكن كما شهد قادة اليابان عن كثب منذ الحرب العالمية الثانية، فإن الإعراب عن الأسف لدول أخرى ليس بهذه البساطة |
والياباني العادي يقول كلمة "سومي ماسين" مرات لا تحصى كل يوم، للاعتذار لأصدقاء أو أغراب حتى لأتفه حادث أو خطأ. ولكن كما شهد قادة اليابان عن كثب منذ الحرب العالمية الثانية، فإن الإعراب عن الأسف لدول أخرى ليس بهذه البساطة.
بيد أن هذا هو على وجه التحديد ما يتعين على رئيس الوزراء شينزو آبي أن يقوم به في بيانه القادم بمناسبة الذكرى السبعين لانتهاء الحرب. وسوف يستند البيان إلى مشاورات مع العديد من أبرز مؤرخي الحرب العالمية الثانية في اليابان والعالم، هذا فضلا عن نفسه وضميره وقلبه، وهو الأهم، لأنه يدرك أهمية كلماته حول هذا الموضوع المشحون إلى حد بعيد.
من المؤكد أن آبي ليس أول زعيم ياباني يواجه هذا التحدي، بل إن بيانه سوف يتبع خطا طويلا من التصريحات من قِبَل رؤساء وزراء وكبار الوزراء في الإعراب عن الندم الحقيقي إزاء أحداث الحرب العالمية الثانية. فقبل عشرين عاما اعترف رئيس الوزراء توميشي موراياما رئيس الحزب الاشتراكي بأن "اليابان تسببت أثناء حكمها الاستعماري والعدواني في إلحاق ضرر هائل وقدر كبير من المعاناة بشعوب العديد من الدول"، خاصة في آسيا. حتى إنه ذهب إلى الإعراب عن "شعوره بالندم العميق"، وتقديم "اعتذار من القلب" للضحايا.
وبعد عشر سنوات، أكَّد على كلمات موراياما رئيس الوزراء جونيشيرو كويزومي، وأضاف أن اليابان منذ الحرب كانت "تُظهِر ندمها على الحرب من خلال اتخاذ إجراءات"، خاصة تقديم مساعدات التنمية والأنشطة الإنسانية. كما تعهد كويزومي بأن "اليابان بوصفها أمة محبة للسلام، سوف تعمل على جلب السلام والرخاء للبشرية جمعاء بالاستعانة بكل مواردها".
ولكن رغم هذه الإعلانات الواضحة عن الندم لا تزال بعض الحكومات وبعض المواطنين يطالبون بالمزيد، الأمر الذي يعطي الانطباع بأنه لا شيء يقوله أو يفعله قادة اليابان قد يقنعهم بأن اليابان نادمة حقا. في بعض الحالات قد يكون هذا القدر من الاستعصاء مفهوما، فالآلام التي يشعر بها الناجون وذريتهم لا تزال حادة. ولكن في العديد من الحالات الأخرى تكون المصالح السياسية هي الدافع وراء عدم الرغبة في تجاوز التاريخ.
الواقع أن دوافع سياسية تكمن وراء الادعاءات بأن آبي لا يوافق على الاعتذارات الرسمية الماضية، رغم تأكيداته المتكررة بأنه يوافق عليها، فضلا عن الإشارات إلى أنه يسعى إلى تنقيح التاريخ، حتى رغم أنه لم ينكر قط العدوان الاستعماري الياباني. وعلاوة على ذلك، أنتج البعض تصورات لليابان ككل باعتبارها دولة غير نادمة أو ما هو أسوأ من ذلك، دولة عاقدة العزم على إعادة التسلح.
الحق أن مثل هذه التصورات شديدة الجرأة، نظرا لسجل اليابان الذي دام سبعين عاما كعضو مسالم وبناء في المجتمع الدولي. ولا تغيب هذه الحقيقة عن أولئك الذين يتساءلون في اليابان إلى متى تظل بلادهم مطالبة بالاعتذار، حتى إن البعض يقترحون أنه بعد سبعين عاما لا بد أن تكون "تغريدة" حول هذا الموضوع كافية كاعتراف لائق من قِبَل آبي.
بيد أن رئيس الوزراء يظل ملتزما بإصدار بيان قوي وصادق حول هذا الموضوع، ففي وقت سابق من هذا العام، أعلن آبي عزمه استخدام بيان الذكرى السبعين لنقل شعور اليابان بالندم على أحداث الحرب، ووصف التقدم الذي حققته بلاده في دعم السلام، وعرض المساهمات التي تستطيع اليابان أن تقدمها لآسيا وبقية العالم في العقود المقبلة.
إذا كان لآسيا أن تتجاوز ماضيها، فيتعين على ضحايا العدوان الياباني في زمن الحرب أن يدركوا أن اليابان في العام 2015 ليست كما كانت في العام 1931، أو 1941، أو حتى 1945، وأن الغفران يعود بالفائدة على الجميع، كما أدرك العديد من زعماء آسيا على مر السنين |
والواقع أن العنصر الثالث في الإعلان هو الذي يبث الخوف في أنفس بعض المراقبين، فمن خلال المساعدة في تشييد بنية أمنية قوية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ربما تقوض اليابان قدرة بعض الجهات الفاعلة على تحقيق مصالحها الخاصة. ولهذا السبب أطلقوا حملة هامسة ضد بيان آبي قبل أشهر من شروعه في كتابته.
ولكن بطبيعة الحال، يصب أمن اليابان وازدهارها في مصلحة الجميع. ولهذا فإن ما يشكل أهمية خاصة ليس حتى لغة بيان آبي، بل تكمن الأهمية الحقيقية في عزمه وتصميمه على تقديم مساهمات حقيقية للسلام، استنادا إلى التعاون الفعّال مع أصدقاء اليابان وحلفائها.
ولكن إذا كان لآسيا أن تتجاوز ماضيها، فيتعين على ضحايا العدوان الياباني في زمن الحرب أن يدركوا أن اليابان في العام 2015 ليست كما كانت في عام 1931، أو 1941، أو حتى 1945، وأن الغفران يعود بالفائدة على الجميع، كما أدرك العديد من زعماء آسيا على مر السنين.
ففي العام 1998، رد رئيس كوريا الجنوبية كيم داي جونج بشكل إيجابي على تصريح من قِبَل رئيس الوزراء الياباني السابق كيزو أوبوشي. كما فعلت حكومات إندونيسيا، والفلبين، وفيتنام، وغيرها من البلدان، نفس الشيء، والآن ترحب بالتزام اليابان بالعمل مع حلفائها على حماية الأمن الإقليمي.
لقد تمكنت اليابان بفضل انفتاح هذه البلدان على المصالحة من إعادة صياغة نفسها وسيطا أساسيا للسلام والازدهار في المنطقة، فضلا عن كونها محورا ثقافيا متزايد الديناميكية. والآن حان الوقت لكي تحذو بقية بلدان المنطقة حذو هذه البلدان، فتقبل اعتذارات اليابان الصادقة بما تحمله من معنى ظاهري، وتعمل معها على بناء مستقبل أفضل. وفي وقت حيث تواجه آسيا تحديات أمنية خطيرة، تتعاظم أهمية وإلحاح هذا الموقف.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.