جهاديو لبنان ورياح التغيير
ما قبل "القاعدة"
العوامل الخارجية
الثورة السورية: الاستقطاب الأكبر
لبنان أرض جهاد
لم يتحرك الجهاديون اللبنانيون في بداياتهم وفق منظومة فكرية محددة، بل إن تجاربهم تطورت وأفضت مع الزمن إلى تشكيل ملامح هويتهم الحالية، وهي هوية تعاضد في تكوينها عامل تشابك الحضور الفلسطيني في الداخل اللبناني، مع ما يعنيه ذلك من شراكة في الحركة وتداخل في الأداء، ويمكن القول إن الفعل "الجهادي" في لبنان كان نتاج الموجات الخارجية التي انبعثت منذ الجهاد الأفغاني وتطورت مع تشكل تنظيم "القاعدة".
كما نلاحظ أنه لم يخرج من اللبنانيين رموز جهادية بارزة، كما كان الحال مع المجتمعات العربية الأخرى.
ما قبل "القاعدة"
كان الانتماء إلى الفكر الإخواني -ولا يزال- حالة مرنة، دخل في فلكها الكثيرون وغادروها إلى تجارب أخرى، منها ما هو علمي دعوي تربوي، ومنها ما هو تنظيمي حركي جهادي.
ينظر الإخوان المسلمون إلى قضية الجهاد باعتبارها جهاد دفع يلجؤون إليه في حال وقوع العدوان، بحيث تبقى المواجهة ضمن حدود الإقليم المعتدى عليه، ولا تتعداه لتصبح مواجهة شاملة.
وفي لبنان، شكلت "الجماعة الإسلامية" (تنظيم الإخوان بلبنان) جناحاً عسكرياً خلال الحرب الأهلية حمل اسم "المجاهدون" وشارك بشكل محدود في المواجهات الداخلية، وبعد الغزو الصهيوني للبنان عام 1982 تشكلت مجموعة مقاومة من شبان الجماعة وكانت الدافع الفعال في انسحابه من مدينة صيدا، التي شكلت مع مخيم عين الحلوة بعد ذلك محيطاً اتسم بخصوصية الخروج عن دائرة النظام السوري الأمنية، وانطلقت منه عمليات عسكرية استهدفت الوجود السوري في بيروت وطرابلس ومناطق أخرى.
لم يستطع مقاومو الاحتلال السوري الصمود في وجه تمدده وطغيانه على الحياة السياسية والأمنية، ولم تأخذ "الجماعة الإسلامية" خيار المواجهة العسكرية، فخرج معظم من قاتل القوات السورية من لبنان، ووقع الآخرون في قبضتها الأمنية ولبثوا في سجونها سنوات طوالاً.
انتهت الحرب اللبنانية باتفاق الطائف الذي قضى بحلّ المليشيات واستيعابها في الجيش وفي الأجهزة الأمنية، وهذا ما حصل مع مجمل المجموعات المقاتلة، باستثناء "المليشيات" السنية، مثل "حركة الناصريين المستقلين/ المرابطون" و"حركة التوحيد الإسلامي"، مما أوقع المقاتلين السنة فريسة الفقر والتهميش، وزاد الطين بلة إهمالُ حركة التوحيد وغيرها لعناصرهم ولعائلاتهم، وخاصة المعتقلين والجرحى.
وقد أدى تراكم عوامل الإقصاء والتهميش والإفقار إلى إيجاد بيئة تبحث عن المخارج المتاحة، حتى ولو كانت تحمل مخاطر الانتماء إلى تنظيمات تصنفها الدولة بأنها إرهابية ومحظورة.
العوامل الخارجية
لم تستقطب التعبئة للجهاد الأفغاني الكثير من الشباب اللبناني، باستثناء قلة محدودة كان أبرزهم بسام كنج الذي عاد إلى لبنان، وبلغ تحركه الذروة في "أحداث الضنية" أواخر عام 1999 وبداية عام 2000، التي كانت الأولى من نوعها بين مجموعة جهادية والجيش اللبناني، وتدخلت الوصاية السورية لإفشال كل الوساطات لمنع وقوع مواجهة دموية أسقطت في النهاية عشرات الضحايا في صفوف الطرفين. تلت أحداثَ الضنية حملةُ اعتقالات شملت بضع مئات من الموقوفين، خرجوا من السجن بموجب عفو عام 2005.
في تقييم إجمالي لتجربة الضنية أواخر عام 1999 وبداية عام 2000، وما تلاها من أحداث، يتضح أن "الجهاديين اللبنانيين" -الذين نشطوا داخل الأراضي اللبنانية، ولم يشاركوا في تجارب الجهاد الخارجية- لم يمتلكوا القدرة على أداء أمني محترف قادر على إحداث اختراقات كبيرة في جدار الواقع اللبناني |
وفي تقييم إجمالي لتجربة الضنية وما تلاها، يتضح أن "الجهاديين اللبنانيين" -الذين نشطوا داخل الأراضي اللبنانية، ولم يشاركوا في تجارب الجهاد الخارجية- لم يمتلكوا القدرة على أداء أمني محترف قادر على إحداث اختراقات كبيرة في جدار الواقع اللبناني، بحيث بقيت تحركاتهم مقتصرة على بعض التفجيرات المحدودة، مثلما حصل في استهداف بعض المطاعم والمنشآت ذات الطابع الأجنبي.
ثم تطورت آليات استقطاب الشباب بعد الغزو الأميركي للعراق، حيث ارتفعت نسبة اللبنانيين المنخرطين في صفوف التنظيمات الجهادية، لكن العنصر الفلسطيني/اللبناني بقي الأكثر حضوراً، وخصوصاً من مخيم عين الحلوة، في أجواء استخدم النظام السوري الجهاديين ورقة ضغط وتفاوض مع الإدارة الأميركية، عبر التسهيل والتواطؤ المخابراتي مع واشنطن.
أما الاقتحام الأكبر للمجموعات الجهادية في لبنان فقد كان من خلال تنظيم "فتح الإسلام" الذي اصطدم بالجيش اللبناني في 20 مايو/أيار 2007، بعد أن أخرج النظام السوري قيادته من سجونه -وعلى رأسها شاكر العبسي- ليدفع بهم إلى المخيمات اللبنانية وينتهي بهم المطاف في مخيم نهر البارد، الذي تحوّل أنقاضاً بعد مواجهة شرسة تمكن في نهايتها العبسي وآخرون من مغادرة المخيم، في خطوة لا تزال لغزاً حتى الساعة.
أظهرت المواجهات مع "فتح الإسلام" خطورة وجود شبكة محترفة من الجهاديين على الأراضي اللبنانية، من حيث الكلفة البشرية والمادية، إلا أن حجم المشاركة اللبنانية في هذه المعارك بقي محدوداً، واقتصر على عشرات الشبان المتحدرين من مناطق شديدة التهميش في طرابلس (مقابر الغرباء وحي المنكوبين).
الثورة السورية: الاستقطاب الأكبر
مع اندلاع الثورة السورية وتحولها تحت وطأة قمع النظام إلى مواجهة ميدانية، ومع التورط الإيراني في دعم النظام؛ تحولت سوريا إلى مقصد لأعداد من الشباب المنتمين إلى أهل السنة في لبنان، الذين تحركوا بداية بمبادرات متعجلة أسقطت كثيرين منهم في الطريق على الحدود.
وفي أجواء الثورة السورية، شكّل المآل النهائي لمجموعة الشيخ أحمد الأسير نقطة تحوّل في مسار الجهاديين، حيث بدأ الشيخ حراكه سلمياً وانتهى بخوض معركة ضد الجيش اللبناني ومليشيات "حزب الله" في منطقة عبرا (صيدا)، بعد نجاح الحزب في إحداث الصدام بين الجيش والمجموعة الأسيرية، وتحوّل الناجون مع الشيخ الأسير إلى العمل والتنسيق مع المعارضة السورية، بحيث بات جزءاً من حركة المعارضة السورية، وإن كانت محدودة النطاق.
عند ظهور المجموعات الإسلامية الجهادية في سوريا، وتحديداً جبهة النصرة وتنظيم "الدولة الإسلامية"، وانتشارهما وتوسع مساحات سيطرتها، بدأت عمليات استقطاب الشباب بشكل منظم، في إطار مشروعيْ الجبهة والتنظيم، مما أحدث تحولاً جوهرياً في طبيعة انتشار الجهاديين في لبنان.
مع اندلاع الثورة السورية وتحولها تحت وطأة قمع النظام إلى مواجهة ميدانية، ومع التورط الإيراني في دعم النظام؛ تحولت سوريا إلى مقصد لأعداد من الشباب المنتمين إلى أهل السنة في لبنان، الذين تحركوا بداية بمبادرات متعجلة أسقطت كثيرين منهم في الطريق على الحدود |
شهد لبنان خلال عام 2014 سلسلة تفجيرات استهدفت مناطق شيعية تخضع لنفوذ "حزب الله" شنتها "كتائب عبد الله عزام"، لكنها اتسمت بالتخبط ومحدودية الأثر، نظراً لارتفاع مستوى الاستنفار لدى الحزب، بالتوازي مع تسخير أجهزة الدولة اللبنانية في مواجهة تسبب الحزب في استجلابها إلى لبنان جراء تورطه في العدوان على الشعب السوري، فضلاً عن الاختراق الأمني ومحدودية التدريب والاحتراف لدى المجموعة المنفذة، باستثناء التفجير الذي استهدف السفارة الإيرانية.
وفي هذه الموجة شارك "انغماسيون" لبنانيون في بعض التفجيرات، وكان هذا مؤشراً إضافياً لتوسع دائرة الاستقطاب "الجهادي" للشباب اللبناني.
شهد لبنان مواجهات حدودية عند الحدود الشرقية على مراحل متعاقبة، بينما لا يزال عشرات الجنود اللبنانيين مخطوفين لدى جبهة النصرة وتنظيم "الدولة الإسلامية"، بعد أن سقط آخرون بين قتيل وجريح.
كانت المعادلة في هذه المرحلة مبنية على أن تدخل "حزب الله" في الحرب السورية استدعى الرد في الداخل اللبناني.
وبينما تُبقي جبهة النصرة مسافة تفصلها عن الداخل اللبناني، يضع تنظيم "الدولة الإسلامية" -مع تمدده في عدد من دول المنطقة- السيطرة على مساحة من لبنان نصب عينيه، بحيث يجعل منها منطلقاً لمشروعه التوسعي، الذي يشمل القرى الشيعية المحاذية للقلمون السورية وباتجاه الشمال اللبناني، بينما يزداد استثماره في حالات الاحتقان الداخلي على صعيد الصراع الشيعي/السني، وفي ارتفاع مستوى الاعتقالات ذات الطابع الانتقائي في الشارع السنـّي، وسط تراجع في الدور الاقتصادي وتقهقر في الحضور الخدماتي للدولة اللبنانية.
إن مشاركة الشباب اللبناني في القتال داخل سوريا جعل منهم مقاتلين في صفوف الجماعات السورية المعارضة، واستبعد فكرة قيام كيان جهادي لبناني صرف، حيث بات تنظيم "الدولة الإسلامية" يعلن الاستعداد لـ"تحرير ولاية لبنان"، في حين أنه تمكن من استقطاب أعداد وافرة من الشبان باتوا يتلقون التدريبات في معسكراته بسوريا، ويجهزون أنفسهم للدخول إلى المعادلة اللبنانية وفق أجندة التنظيم.
لبنان أرض جهاد
لم يعد لبنان منذ بضعة أشهر أرض نصرة، بل تحوّل في منظور تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى أرض جهاد ونزال ومواجهة، الأمر الذي سيرتب المزيد من وجوه الصراع، وهو ما تحدث عنه وزير الداخلية نهاد المشنوق عندما توقع أن يكون عام 2015 عاماً شديد الصعوبة على لبنان.
بينما تُبقي جبهة النصرة مسافة تفصلها عن الداخل اللبناني، يضع تنظيم "الدولة الإسلامية" -مع تمدده في عدد من دول المنطقة- السيطرة على مساحة من لبنان نصب عينيه، بحيث يجعل منها منطلقاً لمشروعه التوسعي، الذي يشمل القرى الشيعية المحاذية للقلمون السورية وباتجاه الشمال اللبناني |
أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية" مؤخراً الاستعداد لتحرير "ولاية لبنان"، بالتوازي مع إعلان كتائب عبد الله عزام دعوتها الجنود في الجيش اللبناني إلى الانشقاق على قيادتهم الخاضعة لـ"حزب الله"، في حين تتسرب الأنباء عن وجود مئات من الشباب اللبنانيين تلقوا في فترات ماضية دورات تدريب قتالية عالية المستوى، في حين يتخرج أقران لهم ويستعدون للعودة إلى لبنان، تلاقيهم في الداخل اللبناني مجموعات سورية منظمة باتت تعمل على ملاقاة مشروع التنظيم في الفترة المقبلة.
وقد بدت آثار هذا الاستقطاب من خلال المواجهة الأخيرة التي اندلعت في طرابلس والمنية (شمال لبنان) في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، انحصرت في مجموعة محسوبة على جبهة النصرة، وانتهت بانسحاب متقن للمقاتلين، في حين تمكن تنظيم "الدولة الإسلامية" من دفع شابين من طرابلس (حي المنكوبين) إلى القيام بتفجير "انغماسي" في محلة بعل محسن التي تسكنها أغلبية علوية، اتهِم بعضُ أبنائها الموالين للنظام السوري بتفجير مسجديْ السلام والتقوى عام 2013.
هناك من يذهب إلى الحديث عن دخول تنظيم "الدولة الإسلامية" المعادلة اللبنانية من خلال اختلال في المعادلات الإقليمية والحدودية، وعبر اختراقات في المناطق الحدودية أوسع مما حصل في جرود عرسال، حيث تسيطر جبهة النصرة وتنظيم "الدولة الإسلامية" على ما يقارب 4% من مساحة لبنان، ويراهن التنظيم على تحرك واسع النطاق -على غرار ما حققه في ليبيا- لإعلان مشروعه في لبنان، في تطور تجاوز مسألة المواجهة مع "حزب الله" ليدخل في إطار رسم معالم وحدود المرحلة الآتية على لبنان والمنطقة.
تسربت أقاويل عن تعيين الشيخ أحمد الأسير أميراً لولاية لبنان، وحسب المعلومات المتوافرة فإن هذا التعيين لم يحصل، لكن الأسير سيكون أميراً على أول بقعة يسيطر عليها تنظيم الدولة مستتقبلاً.
يكثف تنظيم الدولة ترتيباته ويحثّ خطواته لدخول لبنان، بينما تشير المعطيات إلى أن تجربته مع اللبنانيين الذين تعاونوا معه باتت نموذجاً فاشلاً، وهم باقون كواجهة ليس أكثر، في حين أن الفعل الميداني سيكون للتنظيم الذي يبدو أنه يستعد لمرحلة توسع جديدة في المناطق الحدودية، مراهناً على استقطاب ولاء الأهالي وسط مغريات الانفكاك من ثقل الانتماء إلى دولة باتت بعيدة عنهم في الحضور والرعاية، وسط حرب مذهبية تستدعي الاحتماء بالمذهب وتستحضر القوة عنصراً أساسياً في الحفاظ على الوجود.
تساؤلات كثيرة تفرض نفسها حول الآتي من الأيام، منها ما يتعلق ببقاء الجغرافيا والاجتماع السياسي على حاله.. أم أن رياح التغيير ستعصف ببعض الحدود ليدخل لبنان أتون الدول المتآكلة داخلياً وحدودياً؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.