الشعب "يجيد" إسقاط النظام
24/1/2012
يقول مثلنا العامي: "كل وقت وله أذان"، ومما نسب إلى الإمام مالك بن أنس: "ليس كل ما يعلم يقال، وليس كل ما يقال قد حضر أوانه، وليس كل ما حضر أوانه قد حضر رجاله". ومع "هيغل" أكد "ماركس" المعنى نفسه حيث قال إنه "لا يمكن القفز على المراحل التاريخية ولا حرقها".
حسنا، فلماذا إذًا يحسب النظام في مصر أنه "أجهض الثورة" أو "أوقف نموها"؟ ولماذا يستجيب الثوار للدعوة إلى -والرغبة في- جلد الذات، معتقدين -مثلا- أنهم أخطؤوا حين غادروا ميدان التحرير يوم تنحي "حسني مبارك"، وأنه كان عليهم مواصلة الاعتصام لحين إسقاط آخر قطعة من النظام؟ صحيح أن مواصلة الاعتصام كانت -على صعيد المثال- هي الخيار الصحيح، وصحيح أنها كانت ضرورة في وعي من وعى، لكنها -على صعيد الواقع- لم تكن مطروحة بأية درجة.
في 11 فبراير/شباط 2011 لم يكن هناك خيار عنوانه "مواصلة الاعتصام" ولا كان بمقدور أحد أن "يحول مجرى" نهر ملايين الفرحين بسقوط الوثن من صخب الانفعال إلى دأب الفعل، ولو حاول أحدهم لجرفه الطوفان. لكن المشهد يتغير الآن -بعد عام من الثورة المتصلة- وهو تغير لم يصل إلى حد أن يصبح نقيضا لمشهد 11 من فبراير/شباط، لكن المشهد تغير بقوة ووضوح، ليصبح إلى نقيضه أقرب.
" ملامح "القلق" أوضح من قناع "الطمأنينة" التي يحاول "المجلس العسكري" ومن حوله التظاهر بها، والتي لا تختلف عن طمأنينة "مبارك" حيث قال "خلهم يتسلوا" عندما شكلت المعارضة برلمانا شعبيا " |
ولهذا فإن ملامح "القلق" أوضح من قناع "الطمأنينة" التي يحاول "المجلس العسكري" ومن حوله التظاهر بها، والتي لا تختلف عن طمأنينة "مبارك" حيث قال "خلهم يتسلوا" أو طمأنينة "أحمد شفيق" حين قال إنه سيرسل قطع الحلوى إلى المعتصمين في ميدان التحرير، ثم ماذا كانت النتيجة؟
المتفائلون سيقولون: سقط مبارك وشفيق. وغيرهم سيردون: لكن النظام باق على حاله، وغاية ما هناك أن وجوها تبدلت، ووجوها ظهرت للمرة الأولى، وأن القوى المشاركة في النظام بشقيه (الحكومة والمعارضة) تغير ترتيبها إلى حين. وهما إجابتان تمثلان وجهي عملة، يهتف أولهما: "الشعب يريد إسقاط النظام"، ويتساءل الآخر: "وهل الشعب يجيد إسقاط النظام؟".
هذا التساؤل الذي كانت إجابته سلبا هي ما حال دون مواصلة الاعتصام بعد إعلان "تنحي" مبارك، ثم راحت نغمة إجابته بـ"نعم" ترتفع يوما بعد يوم، حيث يكتسب الشعب -المصرّ على مواصلة ثورته- الخبرة التي تؤهله للانتقال من "يريد" إلى "يجيد"، وتقربنا من تغيير حقيقي، أراه آتيا لا ريب فيه، بالرغم من أن عدة قوى -مصرية وإقليمية ودولية- رفعت شعار "نكتفي بهذا القدر من الثورة" وحاولت إيقاف دولاب "الاحتجاجات" عند محطة "الاستبداد الجديد" -الذي مثله في مصر "المجلس العسكري"- وهو استبداد حاولوا شرعنته بدعوى أن له دورا في الخلاص من الفساد، وبزعم أنه "من ضرورات المرحلة الانتقالية".
مع مزاعم أخرى -أقل شأنا- تبدأ بكونه يحمي "الوطن" من "التدخل الأجنبي" ولا تنتهي عند طرحه خيارا وحيدا، عبر تساؤل يقول: وهل هناك بديل غيره لحكم البلاد؟ مرورا بالتحذير من "الكلفة الغالية" لمواجهته، و"أنهار الدم" التي ستسيل، وكأن هذه الأنهار لم تسل فعلا، ولم يتأكد فشلها الذريع في "إرهاب" الشعوب، التي علمها التاريخ أن أنهار الدم الحقيقية هي تلك التي يجريها النظام بعد نجاحه في إجهاض الثورة.
وفضلا عن ذلك فإن كل الحجج والذرائع التي يراد بها إسباغ الشرعية على المستبدين الجدد، هي نفسها التي كان يلوكها الطاغية المخلوع، وبالتالي فإن "كشف" حقيقة هذه الدعاوى والادعاءات لم يستغرق وقتا طويلا، ولا كان في حاجة إلى جهد كبير.
أما ما احتاج إلى وقت، واستهلك جهدا، فهو كشف الفرق بين مطلب الثورة بإعادة بناء الدولة، وبين ما اتخذه المجلس العسكري من خطوات كانت محصلتها إعادة إنتاج النظام. ولعل كبرى المناورات التي خاضها المجلس العسكري، وأطولها زمنا وأكثرها كلفة وأشدها فشلا، هي تلك التي كان هدفها تمرير "إعادة إنتاج النظام" وكأنه "إعادة لبناء الدولة". لكنها مناورة أسفرت عن محصلة بائسة، حيث يستطيع أي عابر سبيل التأكد من أن شيئا لم يُبْنَ، ولا شيئا هُدم. وأن الأمر كله أقرب إلى تصريح "توني بلير" الذي أدلى به مع انطلاق الثورة في مصر، حيث قال: "لا يجب علينا أن نواجه هذه الثورة بل علينا أن نديرها".
كان "بلير" يتحدث باسم الغرب عموما -لا تنسوا أنه مبعوث الرباعية الدولية إلى الشرق الأوسط- ولم يتأخر منظرو الغرب كثيرا في التصريح بما يفضلون الأخذ به من قواعد، ومن يفضلون الاعتماد عليه في حكم مصر، مؤكدين التوجه نحو إعادة إنتاج النظام، ولا يهم إن أفضت إعادة الإنتاج هذه إلى عودة النظام بكامل عيوبه، بل المهم أن يكون قادرا على الصمود.
وإعادة إنتاج النظام هي المنهج الذي سار عليه المجلس العسكري حرفيا، لدرجة بدا معها وكأنه يتعمد عدم تحقيق مطالب الثورة. ودعونا نتذكر أن مطلب "وضع حد أدنى للأجور" كان من أول مطالبها، بل إنه مطلب حصل على أحكام قضائية بأحقيته حتى من قبل اندلاع الثورة، لكنه -حتى الآن- لم يتحقق. ببساطة لأن النظام، الذي امتنع عن تنفيذ حكم القضاء لصالح هذا المطلب، لم يتغير، بل غير سياسته من مواجهة الثورة إلى محاولة إدارتها، بينما هو "يعيد إنتاج نفسه". يعيد إنتاج النظام الذي لم يتغير منذ دولة "محمد علي" برغم تعرضه للعدد الأكبر من الثورات والاحتجاجات الذي تعرض له نظام في العالم، بفضل قدرته المدهشة على "إعادة الإنتاج" هذه.
وتأكيدا لكونه نظاما واحدا ممتدا، أذكركم بأن النيابة أحالت المتهمين بـ"المشاركة" في "أحداث" شارع محمد محمود إلى التحقيق بموجب القانون رقم 10 الصادر في أبريل/نيسان 1914، المعروف بقانون منع التجمهر، وتحديدا طبقا للفقرة الثانية من المادة 3 من هذا القانون التي نصت على أنه "إذا وقعت جريمة بقصد تنفيذ الغرض المقصود من التجمهر فجميع الأشخاص الذين يتألف منهم التجمهر وقت ارتكاب هذه الجريمة يتحملون مسؤوليتها جنائياً بصفتهم شركاء إذا ثبت علمهم بالغرض المذكور".
" ألا يحق لنا أن نتساءل عن التشابه المدهش بين مفهوم "الحماية" البريطانية على مصر ومفهوم "الحماية" للمجلس العسكري على الثورة، التي رأينا ضحاياها من الشهداء يلقى بهم إلى القمامة " |
وهو قانون يكفي أن ننظر إلى تاريخ صدوره لنعرف أنه صدر في ظل "الاحتلال البريطاني" وفي السنة نفسها التي أعلنت فيها بريطانيا "الحماية" على مصر وذلك في 18 من ديسمبر/كانون الأول 1914، بقرار صرح في مقدمته بأنه يعني مزيدا من الاستبداد، وتشديد قبضة الاحتلال: "إن وزير خارجية جلالة ملك بريطانيا يعلن أنه نظرا لحالة الحرب الناشئة عن عمل تركيا فقد وضعت مصر تحت حماية صاحب الجلالة، وسوف تصبح من الآن فصاعدا تحت الحماية البريطانية".
ومع الاستناد إلى القانون نفسه، هل لنا أن نتساءل عن الفرق بين سلطة الاحتلال وسلطة المجلس العسكري؟ وهل نحتاج إلى تأكيد ملاحظتنا السابقة بأننا أمام نظام واحد ممتد منذ "محمد علي" إلى اليوم؟ ثم ألا يحق لنا أن نتساءل أيضا عن ذلك التشابه المدهش بين مفهوم "الحماية" كما رأيناه في إعلان "وزير خارجية جلالة ملك بريطانيا" ومفهوم "الحماية" كما يشير به المجلس العسكري إلى الثورة، التي رأينا ضحاياها من الشهداء يلقى بهم إلى القمامة، ومن المصابين يقيدون بالحديد إلى أسرّة علاجهم، بينما "أعداؤها" الذين أسقطتهم -أو هذا ما يفترض- تؤدى لهم التحية العسكرية من قبل -من يفترض- أنهم حراس سجنهم؟
وفي سياق التشابه بين الحمايتين، يلفت النظر ذلك العداء "الأصولي" للإعلام، حيث كان المحتل البريطاني أول من فرض -ثم شدد أحكام- قانون المطبوعات، الذي ظل قائما، وزادت مصادراته في إطار "حالة الطوارئ" المتواصلة حتى الآن -بلا انقطاع تقريبا- منذ صيغة "الأحكام العرفية". وفي المقابل أعاد "المجلس العسكري" وزارة الإعلام إلى الوجود، وكان إلغاؤها من مطالب الثورة -منذ بشائرها الأولى وقبل سنوات من اندلاعها- مع ما تلا ذلك من إغلاق مكتب "الجزيرة مباشر مصر" بعد مداهمته، ومصادرة و"فرم" نسخ من إحدى الصحف.
ولعل مسار ما سمي "وثيقة المبادئ فوق الدستورية" مما يؤكد مساعي إعادة إنتاج النظام. هذه الوثيقة التي حصل "المجلس العسكري" من الأحزاب كلها -عدا اثنين- على تعهد مسبق بالالتزام بها، وذلك من قبل إعلان صيغتها الأخيرة، التي تضمنت "امتيازات" للمجلس العسكري، الذي تجعله الوثيقة -ومن حيث الأصل- أحد المبادئ فوق الدستورية للدولة المصرية، ثم تمنحه -وهو في صيغة "مجلس الدفاع الوطني"- السلطة العليا فوق البرلمان والرئيس (على غرار نظيره في تركيا ما قبل "أردوغان") وتسلب الأغلبية البرلمانية -لصالح "العسكري"- حق تشكيل الحكومة، وكذلك حق إسقاطها.
وهي وثيقة "سمعنا" عن سحب نصها، لكننا "رأينا" بقاء مضمونها عبر ذلك "التعاون" الذي أبدته الأحزاب (سابقة التعهد) والتي أكدت التزامها بذلك التعهد، حيث تنازلت (طواعية.. أو هذا ما زعموه) عن حق تشكيل الحكومة، وهو تنازل لا يعبر فقط عن "الوفاء" للتعهد السابق، لكنه يعبر عن "الانخراط الكامل" في عملية إعادة إنتاج النظام، الذي يقوم على أركان منها "استبعاد الجماهير من معادلة العمل السياسي"، وهو استبعاد لا ينفيه قيام هذه الجماهير بدور "الناخب"، فهذا هو أقصى ما يسمح لها به طوال الوقت. تذكروا أن الجماهير هي التي حملت "محمد علي" إلى أريكة الحكم، وأن "الباشا" لم يقم أدنى وزن لإرادتها بمجرد أن تسلم السلطة.
" ما يدعو للتفاؤل، بعد عام كامل، هو تواصل الثورات العربية، التي يكفي وجود مركز واحد نشط منها لتنشيط بقية مراكزها، مع تلك القدرة الأسطورية للشعب على الصمود، وإصراره على البقاء كقوة يتعاظم تأثيرها " |
وهو الموقف نفسه الذي تكرره أحزاب اختارها الناس على أساس اتفاق ضمني مؤداه أنها ستشكل الحكومة، وستختار لجنة وضع الدستور، فإذا بها تعتبر إرادة الناخب "توقيعا على بياض" وليست مجرد "تفويض مشروط"، وتعلن أنها "تتنازل" عن جزء من استحقاقات نجاحها، وهو تنازل تفترض "الديمقراطية" أنها لا تملكه، بينما هو من "لوازم" إعادة إنتاج نظام أركانه: جنرال في القلب، وأقليات متساندة من حوله، مع استبعاد الجماهير، التي يتفق الجميع على غيابها، مما يعني بالضرورة حضور قوى أخرى، على رأسها "الولايات المتحدة" التي "تمول" النظام المصري بمعونة مشروطة، والتي يعطي مسؤولوها -حتى السابقون منهم- لأنفسهم حق التصريح بشأن أخص شؤونها، ومنهم الرئيس الأميركي الأسبق "جيمي كارتر" الذي أشرف من قبل على فصل جنوب السودان والذي التقى، منذ أيام، رئيس المجلس العسكري "المشير محمد حسين طنطاوي" ثم خرج ليصرح بأن: "المجلس العسكري يريد الاحتفاظ بمزايا معينة" وأنه -أي كارتر- "يفضل هذا"! ولم يخرج أحد من المجلس العسكري ليقول لكارتر ليس من حقك أن تفضل، ولا ألا تفضل. لأنه تصريح "متفق عليه" بين الغرب الذي يسعى إلى "إدارة" ثورة عجز عن "مواجهتها"، وبين نظام لم يسقط، وتعامل مع الثورة باعتبارها "هجوما معاديا" استوعبه أولا، ثم سكن ليلتقط أنفاسه، ثم راح -بجنراله وأقلياته- يشن ضده هجوما معاكسا.
على أن ما يدعو للتفاؤل، بعد عام كامل، هو تواصل الثورات العربية، التي يكفي وجود مركز واحد نشط منها لتنشيط بقية مراكزها. مع تلك القدرة الأسطورية للشعب على الصمود، وإصراره على البقاء كقوة يتعاظم تأثيرها، حيث يكفي الآن خروج بضعة آلاف لتحقيق ما لم يكن يتحقق من قبل إلا بالمليونيات. ما زال "الشعب يريد إسقاط النظام"، وليس هذا كل شيء، فهو أيضا يعرف كيف "يجيد" إسقاطه، حيث الجماهير تتعلم مع الوقت، ويتحسن أداؤها مع الوقت، وتتمسك بالثورة طول الوقت.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.