الممانعة والاعتدال.. أهمية القطيعة مع ذرائع الماضي
في إحدى خطب أنور السادات الشهيرة قبل ثلث قرن، وأجواء ما بعد كامب ديفد، وفي حديثه عن الأوضاع العربية في الشام ولبنان، مع سخرية من بعض الحكام العرب وباللهجة المصرية، أشار إلى "إنو كامب ديفد هي الشماعة التي يعلقوا عليها أخطاءهم".
وأضاف أن "الذي يرتكب أي حاجة بقت حاجة عندهم كامب ديفد، اللي نسف الجورنال.. كامب ديفد، محطة الكهرباء.. كامب ديفد، واحد يكلم واحد في الشارع.. كامب ديفد، كله كدا.. طيب.. كامب ديفد هي السبب، طيب فين انتو من اللي يجري في لبنان؟".
ثم يشير إلى العديد من أزمات العرب والحروب في تلك المرحلة ليقول بعدها "الواحد أول ما يتزنق في حاجة يروح مغطيها.. ويقول كامب ديفد".
في الدقائق الأولى من إعلان سقوط نظام مبارك، وهي من أكثر المشاهد السياسية إثارة في وعي هذا الجيل العربي، وقد تابع العالم على الهواء مباشرة مشاعر هذه الفرحة العفوية التي اجتاحت الشعب المصري والشعوب العربية، وما أثارته هذه المشاهد من صدمة ورعب عند أيتام هذا النظام وحلفائه، وعند أنظمة عربية ما زالت تدير شعبها بالقبضة الأمنية.. خلال هذه الدقائق التاريخية انتقلتُ سريعا لمتابعة أكثر من قناة عربية لأطلع على نوعية ردة الفعل الأولية عند إعلام هذه الأنظمة، فكان لافتا أن القناة السورية الرسمية بدت مستعدة لهذا المشهد السياسي المثير خلال نقلها المباشر للحدث وبعنوان كبير "سقوط كامب ديفد" يغطي نصف الشاشة بالأحمر!
" تضخم خطاب الواقعية العربي وتم تجاهل الفشل السياسي الداخلي، وأصبح الاعتدال عربيا له مفهوم محدد وفق المعايير السياسية التي صنعتها أجواء ما بعد مؤتمر مدريد " |
وهذا أسلوب متوقع من إعلام مثل هذه الأنظمة كمحاولة فاشلة لنقل تفكير شعوبها إلى موضوعات خارجية، وتصوير أن الثورات العربية انفجرت لأسباب خارجية وليست داخلية.
مثل هذا العنوان المصنوع رسميا يعبر عن شعور النظام السوري وغيره بالخطر من تأثير هذا المشهد على شعبه، وهو يدرك أنه لا يقل فسادا في كل شيء عن الأنظمة التي سقطت أو في طريقها إلى السقوط!
مثل هذا الخطاب المتخشب باسم النضال والقومية وتحت شعارات المقاومة، سقط عمليا منذ العام 1990 وفقد جاذبيته الشعبية في العالم العربي، وهو خطاب يقوم على استثمار مفرط للمبررات والأعذار الخارجية لتبرير فشله السياسي، واستحضار مرضي للأسباب التاريخية واستعمالها في السجال والجدل حول القضايا والأزمات العربية.
تقوم إستراتيجية هذا الخطاب على مجموعة من الأفكار السجالية في البرامج والكتابات والمواجهات الإعلامية، فكل شيء مؤجل بحجة مواجهة العدو الصهيوني، والهيمنة الأميركية.
عمليا انتهت قيمة هذا الخطاب في إقناع الجماهير منذ تسعينيات القرن الماضي، لكن مقابل ذلك ساد خطاب الواقعية العربي البديل، وسيطر على الأجواء الإعلامية من أجل التهيئة لعملية السلام والهرولة إليها بعد مؤتمر مدريد.
إنه خطاب يبدو ضد منطق عصر الشعارات، ومرحلة القومية ومغامراتها السياسية، فتسيد الخطاب الإعلامي العربي شعار الواقعية السياسية وخيار السلام، ولم تستوعب هذه الأنظمة من درس حرب الخليج إلا كيفية إرضاء الآخر الغربي، مع تجاهل متطلبات شعوبها السياسية والتنموية.
لقد بدأ تشكل خطاب واقعي عربي جديد استمر منذ مرحلة التسعينيات متجانسا مع الأنظمة الرسمية، وانشغل خطاب الواقعية السياسية طويلا بهجاء القومية والثورية بصورة مبالغ فيها، لتبدو كأنها العلة الوحيدة للهزائم والفشل العربي، وأغرق في استثمار هذه الفكرة التي تساعده على تأسيس ذهنية نفعية مراوغة لتبرير أي شيء من أجل بقاء هذه الأنظمة بعيدا عن نقد فشلها المعاصر.
تضخم خطاب الواقعية العربي، وتم تجاهل الفشل السياسي الداخلي، وأصبح الاعتدال عربيا له مفهوم محدد وفق المعايير السياسية التي صنعتها أجواء ما بعد مؤتمر مدريد.
فلم يقدم هذا الخطاب العربي الذي تسيد الإعلام نقدا حقيقيا لخطورة التأخر في الإصلاح السياسي الداخلي، وأهمية المشاركة الشعبية وحرية التعبير، وكرامة الإنسان العربي وحقوقه. وانشغل في تسويق مبررات الذهنية الرسمية وصناعة معارك جانبية بين فترة وأخرى، كما استغل موضوع الأصولية والتطرف منذ الثمانينيات والتسعينيات في تبرير أخطاء الأنظمة وبقاء قوانين الطوارئ، وانتهاك حقوق المواطن.
" ليست الغوغائية في الخطاب فقط حالة من الصراخ والحديث عن النضال بلا أفعال كما هو عند الممانعة، وإنما خطاب الاعتدال هو الآخر شارك في هذه الغوغائية عندما تجمد عند مبررات الماضي قبل عدة عقود " |
وإذا كان خطاب الممانعة والمقاومة يلهج بمثل "كامب ديفد" والصهيونية والهيمنة الأميركية لتبرير خيباته السياسية، فإن خطاب الواقعية والاعتدال -وخاصة في إعلامنا وصحافتنا السعودية- قام على مجموعة من الأفكار الماضوية التي ورثها من أجواء معارك الخمسينيات والستينيات فيتحدث عن أشياء ومبررات غير موجودة وتجاوزها الزمن.
فهو يندد بنضالات ومغامرات خطاب الممانعة رغم إدراكه بأنه لا وجود له، وأنه مجرد خطابات للاستهلاك الإعلامي، ويستحضر أخطاء المرحلة والفكر الناصري والقومي، ويتجاهل أن نصف قرن من مرحلة السادات ومبارك كافية لأن نتجاوز مثل هذه الذرائع القديمة والقريبة من أزمنة الحرب العالمية، حين فقدت قيمتها في تفسير الفشل العربي الذي نعيشه الآن.
ولهذا وجدنا من يفسر الثورة على نظام مبارك بأنها ثورة على ثورة 23 يوليو، مع حالة تباكٍ على عصر فاروق، دون أن يستحضر الفارق بين نهج وسياسة كل مرحلة وفسادها الخاص بظرفها التاريخي.
من المقبول فكريا العودة إلى أحداث الماضي البعيد والقريب في قراءة الواقع من أجل تقوية الوعي بالحاضر، وعدم تكرار الأخطاء، لكن الذي قدمه خطابا الممانعة والاعتدال العربيان هو إغراق متعمد في أحداث الماضي ووقائعه، واستعماله في تبرير فشل الأنظمة التي يدافعون عنها، فأصبحت ذرائع الماضي عند كل محور مجرد غطاء لأخطاء أنظمة وزعامات ونخب حالية.
ليست الغوغائية في الخطاب فقط حالة من الصراخ والحديث عن النضال بلا أفعال كما هو عند الممانعة، وإنما خطاب الاعتدال هو الآخر شارك في هذه الغوغائية عندما تجمد عند مبررات الماضي قبل عدة عقود، لتصبح في نظره الناصرية والقومية مسؤولة عن أخطاء الماضي والحاضر، وأصبحت نكسة 1967 موّالا سياسيا يردد في كل خطاب ومقال لتفسير وتبرير كل فشل!
هناك دول سحقت بالكامل خلال الحرب العالمية وعادت بعد عقدين كقوى اقتصادية مهمة في عالم اليوم.
لقد فاجأت هذه الثورات إعلام وصحافة الاعتدال قبل الممانعة عندما سقطت أهم أنظمته قبل أن يأتي الدور على المحور الآخر!
هذا الانهيار الذي حدث لمثل هذه الأنظمة تأخر تاريخيا أكثر من عقدين، إذ لم تستطع هذه الأنظمة إصلاح نفسها، وتأكد أنها لم تستوعب أن العالم تغير فعلا منذ بداية التسعينيات وسقوط المعسكر الاشتراكي، وأن عليها أن تستعد لاستحقاقات هذا التغيير الذي كانت ملامحه تتشكل في تلك الفترة مع تطورات تقنية الاتصال، وأن آليات السبعينيات والثمانينيات في إدارة الحكم والتعامل مع الشعوب كانت مجرد امتداد مشوه لفشل الستينيات والخمسينيات العربية.
في أغسطس/آب 1990 كانت لحظة انهيار الفكرة القومية وأيدولوجيتها القديمة وجاذبيتها الشعبية، وكان لا بد من المغامرة الصدّامية في غزو الكويت ليدرك كثير من النخب والشعوب العربية زيف الشعارات والعنتريات النضالية.
تأثرت بهذا الحدث التاريخي فكرة الوحدة العربية بمفهومها الأيدولوجي وفقدت جاذبيتها الشعبية، وانتهت أحلام جيل الستينيات والسبعينيات بمثل هذه الممارسات السياسية والمغالطات الإعلامية.
" مرحلة التسعينيات كشفت عن دول وأنظمة عربية فاشلة ليست مؤهلة لأن تنتقل إلى عصر جديد، وقد اضطرت لإجراء عمليات تجميل للتكيف مع متطلبات العولمة الاقتصادية دون جراحة سياسية في إداراتها للحكم " |
فحدث تراجع كبير لدى العديد من النخب العربية، ومن كان متابعا لإنتاج الخطاب القومي والوحدوي سيجد أن هناك تراكما من المنتج الثقافي والفكري والسياسي منذ الخمسينيات لم يعد صالحا للاستعمال بعد عام 1990.
لقد أخذ نقد القومية وعصر الشعارات حيزا كبيرا من مضمون الخطاب الإعلامي، وتحميله مسؤولية التخلف الحضاري، وشارك في حملة النقد هذه بكثافة مختلف التيارات الإسلامية لتحميل منهج تلك المرحلة أسباب الهزائم والتعثر.
ولم يدرك هذا الخطاب الذي يكرر مفردة العقلانية كثيرا أن تقادم مثل هذه الأعذار التاريخية يلغي قيمتها التبريرية للواقع السياسي الفاشل، فتبدو مضحكة في أحيان كثيرة، ولا تختلف عن من يجعل الاستعمار والخلافة العثمانية وسايكس بيكو وغيرها قبل أكثر من نصف قرن سببا دائما ومستمرا لتخلفنا الحضاري.
سقوط الأوهام السياسية والأيدولوجية والأنظمة الفاشلة تاريخيا لا يحدث فجأة دون مقدمات وتدرج زمني، فمرحلة التسعينيات كشفت عن دول وأنظمة عربية فاشلة ليست مؤهلة لأن تنتقل إلى عصر جديد، وقد اضطرت لإجراء عمليات تجميل مع نهاية عقد التسعينيات للتكيف مع متطلبات العولمة الاقتصادية دون جراحة سياسية في إداراتها للحكم، حيث ابتكرت الحيل البيرقراطية للتكيف الاقتصادي مع العالم بصورة انتقائية، وخلق بيئة جديدة من الفساد التجاري والسياسي.
وإذا كان محور الممانعة بذل جهدا كبيرا خلال العقدين الماضيين في إعلامه وصحافته للنفخ في خطاب ميت غير قابل للحياة ولا ينتمي لروح العصر، فإن خطاب الاعتدال هو الآخر أغرق في التباكي على الواقعية والعقلانية، دون القطيعة مع ذرائع الماضي.
إنه مجرد ترحيل للوعي يمارسه كتاب وخطباء إعلام الاعتدال والممانعة، لأن الهدف الكبير لكليهما هو التستر على فشل أنظمتهم الداخلي في عصرنا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.