بقدر ما كان سرور الشعوب العربية عظيماً بنجاح الثورتين المصرية والتونسية السلميتين، ساءتها وأحزنتها حالة القمع الهمجية التي لجأ إليها النظام الليبي المتهاوي، في تعاطيه مع ثورة الشباب التي ابتدأت -كسابقتيها- سلمية، وحولًها النظام مجازر دموية عنيفة.
ومع أنه لم يكن مستبعداً أن يلجأ القذافي إلى العنف للحفاظ على عرشه، إلا أن ما فاجأ الكثيرين هو العقلية الهمجية التي خرج بها القذافي وولده على العالم لتبرير العنف، وكشف عن حالة العزلة و"الهلوسة" التي يعيشها هذا النظام.
تناقش هذه المقالة بعض الأبعاد المفسرة لسلوك النظام الليبي، ودروس التجربة الفاشلة لهذا النظام القمعي.
" القذافي -وبغض النظر عن ادعاءاته وشطحاته- أوجد نظاماً دكتاتورياً قمعياً، يدور حول هدف وحيد، وهو حفظ بقائه في السلطة، ونقلها لأولاده من بعده " |
البعد الأول الهام هو أن القذافي -وبغض النظر عن ادعاءاته وشطحاته- قد أوجد نظاماً دكتاتورياً قمعياً، يدور حول هدف وحيد، وهو حفظ بقائه في السلطة، ونقلها لأولاده من بعده. ومع أنه يدعي أنه لا يحتل منصباً رسمياً في النظام السياسي، فهو مجرد قائد للثورة، فإنه هو الحاكم المطلق والآمر الناهي، وكل السلطات تتركز في يديه. وبلغ هاجس خوف "الأخ العقيد" من بناء المؤسسات أن حول الجيش إلى وحدات أشبه بالمليشيات، يمسك بكل فرقة واحد من أبنائه أو أقاربه أو أتباعه الموثوقين.
البعد الثاني، يعتبر النظام الليبي مثالاً صارخاً للتناقض بين الادعاء والواقع، فهو يدعي أنه أفضل من الديمقراطيات الغربية، لأنه يتبع مبدأ الديمقراطية المباشرة في عملية صناعة القرار، وهي بالفعل مفضلة على الديمقراطيات التمثيلية، إن أمكن تطبيقها.
لكن الإشكالية في هذا الأمر أن ما يسمى نظام "اللجان الشعبية" التي تجتمع على كافة المستويات، ومن المفروض أنها المشرع الحقيقي في البلاد، ما هي إلا صور شكلية لإرادة القذافي، يسيطر عليها انتهازيون، احترفوا الإذعان، يطيعون "القائد" طاعة عمياء، ومبالغة فجة تصل إلى حد كشف زيف النموذج.
من ناحية ثانية، مارس نظام القذافي صوراً بشعة من القمع والتنكيل بالمعارضين، خاصة من المثقفين وأصحاب الكفاءات، تمثلت في إعدام الكثير منهم بمحاكمات "شعبية" شكلية، وإيداع البعض في السجون لفترات طويلة، وقمع وقتل السجناء العزل، والقيام بعمليات خطف وتغييب لآخرين، وإجبار كثيرين على المنفى القسري.
البعد الثالث، حبا الله ليبيا بثروة نفطية هامة، وعدد سكان قليل نسبياً، ومساحة كبيرة، مكنت القذافي من توظيف عوائد البلاد في شراء بعض الفئات داخل المجتمع الليبي، وعلى الصرف على مغامراته وحماقاته الخارجية المكلفة.
وكمثال على ذلك، فقد قام النظام الليبي بتضييع مبالغ طائلة في الصرف على شراء أسلحة متقادمة، تم تقديم جزء منها لبعض الحركات "الثورية"، وتم استخدامها في صراعات لا ناقة لليبيا فيها ولا جمل، لكنها ارتدت سلباً على البلاد بأكملها.
وأفضل مثال للتدليل على ذلك، هو قبول النظام الليبي بدفع تعويضات بلغت 2.7 مليار دولار، لأهالي ضحايا حادثة لوكربي الشهيرة التي قتل فيها 270 راكباً، وثبت تورط النظام الأمني الليبي فيها، وعانت البلاد من حصار اقتصادي ناهز عشر سنوات.
ومثال آخر، استثمر النظام الليبي مبالغ طائلة في بناء برامج أسلحة شاملة، لكنه سرعان ما تنازل عنها بشكل طوعي، بعد سقوط نظام صدام، حيث بادر القذافي بدعوة الولايات المتحدة لتفكيك هذه البرامج، بشكل فاجأ الدول الغربية نفسها.
" يعاني القذافي من حالة من حالات جنون العظمة الواضحة، ولا يحتاج الأمر إلى تحليل نفسي إكلينكي حتى يستطيع المرء رؤية عوارضه وتجلياته " |
البعد الرابع، يعاني القذافي من حالة من حالات جنون العظمة الواضحة، ولا يحتاج الأمر إلى تحليل نفسي إكلينكي حتى يستطيع المرء رؤية عوارضه وتجلياته. فعندما استلم القذافي الحكم كان شاباً يانعاً لم يبلغ من العمر 28 عاماً، ومع مرور الأيام والسنين، وافتقار النظام إلى أي نوع من الرقابة والمحاسبة، نمت هذه الظاهرة، ويكفي النظر إلى صور وجه وملبس الرجل على مدى السنين لمتابعة تطور هذا المرض.
وتقترب حالة القذافي هذه مما يذكر في الأثر عن فرعون، عندما سُئل: ما فرعنك يا فرعون؟، فقال: لم أجد من يصدني!.
هذه هي الخلفية لفهم طريقة رد فعل النظام الوحشية على المظاهرات السلمية التي انطلقت في شرق البلاد، لكنها سرعان ما انتقلت إلى كافة أنحائها.
وعندما وصلت حركة الاحتجاج إلى حدود قصر القذافي، خرج ابنه في خطاب أولي، ولحقه الأب بثان، ومن أكثر ما لفت النظر في خطابيْ الاثنين، كم كانا بعيدين عن فهم ما يحدث حولهما. والدليل على ذلك التأكيد المتكرر للولد وأبيه باتهام الشباب المحتج بأنهم إما خونة أو عملاء (للمخابرات الأميركية تارة وللقاعدة تارة أخرى)، أو أنهم من متعاطي المخدرات وحبوب الهلوسة!.
لقد كان لافتاً جداً تكرار الابن لمقولة تعاطي الشباب لحبوب الهلوسة، وهو الذي قُدم قبلاً على أنه الوجه "الإصلاحي" للنظام، الأمر الذي يعني أنه إما أنه يفتري ويقزم حركة شعبية بهذا الشكل، وهذه مصيبة، أو أنه مصدق لهذه المقولة، وهنا فالمصيبة أعظم.
الخط الثاني الهام في خطاب الابن والأب، هو روح التهديد والوعيد، واستخدام منطق "أنا أو الطوفان"، بمعنى أن أمام الشعب الليبي خيارين لا ثالث لهما: الأول، القبول باستمرار النظام، مع بعض التعديلات، بما في ذلك علم جديد ونشيد جديد، وحتى دستور، وبالطبع فالطريقة التي قدمت بها هذه الأشياء كانت ثانوية، وتمت الإشارة إليها مرة واحدة، بينما تم تكرار تهمة حبوب الهلوسة خمس مرات على الأقل.
الخيار الثاني، هو الدمار والدماء وتفتيت البلاد، وإعلان الحرب الشاملة، واتباع أسلوب الأرض المحروقة، وملاقاة مصير "عليّ وعلى أعدائي". والخطورة في هذه التهديدات، أن القذافي وأعوانه والمرتزقة الذين تم تجنيدهم، وصل بهم الأمر إلى استخدام الطائرات الحربية والأسلحة الثقيلة ضد مدنيين عزل، في مشهد وحشي، أعاد إلى الأذهان المجازر الجماعية التي ارتكبتها دول وأنظمة بحق شعوب، لكن قبل عصر الجزيرة وفيسبوك.
تطورات الثورة الليبية الحالية أثبتت ثلاث عبر هامة تتعلق بأداء نظام القذافي الدكتاتوري. العبرة الأولى، الفشل الذريع للنظام الليبي -بعد أكثر من أربعة عقود من حكم البلد- في تحقيق نتائج ملموسة على صعيد التنمية البشرية، أو البنية التحتية، أو بناء وطن على أسس المواطنة المتساوية، أو بناء المؤسسات.
العبرة الثانية، لقد كشفت هذه الأحداث عن تهافت مقولات النظام الليبي، وغيره من الأنظمة الثورية، من مقاومة الإمبريالية، والسعي الجاد لأي نوع من الوحدة، العربية أو الإفريقية أو الأممية، أو عن المشاريع الوهمية التي كان يعلنها مثل مشروع "النهر العظيم"، وأن الإنجاز الوحيد الذي حققه القذافي هو بقاؤه في الحكم أكثر من أربعين عاماً، لكن الثمن كان باهظاً جداً لليبيا وشعبها.
أما العبرة الثالثة, فقد حاول الرئيسان المخلوعان بن علي ومبارك استخدام فزاعة "التطرف الإسلامي"، والفراغ، كبدائل عنهما، ولم يفلحا في ذلك، ولذا فقد حاول الولد وأبوه الإعلان بأن ليبيا ستتحول إلى صومال أو أفغانستان أخرى، وأنه تم الإعلان عن إمارتين إسلاميتين، وأن النفط الليبي سيقع في أيدي المتطرفين.
" كسر الشباب الليبي حواجز الخوف والوهم، وقرر التحرر من "هلوسة" القذافي وأبنائه وسحرته، والبرهنة على أن العظمة ليست في صفات يخلعها "القائد" على أسماء ومشاريع، بل في الأخذ على يد "ملك الملوك" الجائر " |
لكن ما ميز القذافييْن أنهما حاولا دفع البلاد إلى هذه الحالة باستخدام القمع والإرهاب وتوظيف المرتزقة، لنشر حالة من الفزع والإرهاب بين الشعب، خاصة من أهل طرابلس، وإرسال رسالة للغرب -صاحب المصالح الحيوية- بأننا نحن الأمناء على مصالحكم.
رب ضارة نافعة. فالنظام الليبي بسلوكه هذا قد وحد الليبيين، وقوى عزيمتهم وإرادتهم في ضرورة إسقاط هذا النظام، والاستعداد للتضحية من أجل التحرر من الظلم، وصون وحدة البلاد، وإعادة بنائها على أسس صحيحة، وأن الشعب الليبي قادر على إيجاد بدائل أفضل لنظام الاستبداد والفساد وحكم العائلة.
كما برهن سلوك النظام في أيامه الأخيرة للدول الغربية على أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تخلق وتقتات على الإرهاب والتطرف، وأن الاستقرار الذي تدعي هذه الأنظمة أنها تحفظه هو استقرار وهمي ومؤقت.
لقد كسر الشباب الليبي -بعد ثورتيْ تونس ومصر- حواجز الخوف والوهم، وقرر التحرر من "هلوسة" القذافي وأبنائه وسحرته، وقرر البرهنة على أن العظمة ليست في صفات يخلعها "القائد" على أسماء ومشاريع، بل العظمة كل العظمة هي في الأخذ على يد "ملك الملوك" الجائر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.