استشراف لمآلات الثورات العربية

استشراف لمآلات الثورات العربية - الكاتب: نصير عاروري

مفاهيم وخلفيات
ثورات ما بعد الحرب الباردة
الصدى الدولي للثورات العربية
الآمال المعقودة والمآلات المتوقعة

كثيرا ما نستخدم مصطلح "ثورة" دون التأكد من الدلالة الصحيحة لهذه الكلمة، وغالبا ما يتم استخدام هذا المصطلح لوصف انقلاب عسكري أو انتفاضة أو هبة شعبية مؤقتة، تقود إلى تغيير تجميلي في نظام الحكم السائد، بينما المعنى الدقيق للثورة يصف مجمل الأفعال والأحداث التي تقود إلى تغييرات عميقة في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لأمة أو مجموعة بشرية ما، وبشكل شامل وعميق وعلى المدى الطويل، ينتج عنه تغيير في بنية التفكير الاجتماعي للشعب الثائر وفي إعادة توزيع الثروات والسلطات السياسية.

ويصر العديد من علماء الاجتماع على تعريف "الثورة" بأنها عبارة عن تغيير شامل وجذري في توزيع مصادر القوة وعمليات الإنتاج في المجتمع.

"
على عكس الثورتين الفيتنامية والجزائرية، وصلت الثورة الفلسطينية التي قادتها منظمة التحرير إلى أسوأ ما يمكن أن تصل إليه ثورة تحرر وطني من انحطاط
"

مفاهيم وخلفيات
ومما لا شك فيه أن هناك فروقا واضحة بين ثورة وأخرى من حيث الأدوار التي تقوم بها الشرائح الاجتماعية، فالثورة الفرنسية التي نشبت عام 1789 قلبت الوضع الاجتماعي رأسا على عقب وقادت إلى القضاء على الحكم الملكي المطلق المتحالف مع طبقة الإقطاعيين، وأدت إلى بروز طبقة جديدة هي الطبقة الوسطى البرجوازية.

لكن الثورة الأميركية التي قادت إلى استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا عام 1776، لم تحدث تغييرا جوهريا نظرا لانتماء الخصمين إلى نفس الطبقة "الرأسمالية المتوحشة".

أما الثورة البلشفية التي اندلعت عام 1917 في روسيا فكان عمادها الأساسي الطبقة العاملة المؤطرة ضمن تنظيمات نقابية في بلد متطور صناعيا بعض الشيء، في حين أن الثورة الماوية الصينية التي نشبت عام 1949 كان عمودها الفقري الفلاحين وأصحاب الملكيات الصغيرة. ويشار في هذا السياق إلى أن ماركس ولينين لم يكونا يكنّان احتراما ملحوظا لطبقة الفلاحين، اعتقادا منهما بأنها تميل إلى الأنانية وحب التملك اللذين لا تتصف بهما الطبقة العاملة المعدمة التي لا تملك إلا قوة عملها وليس لها ما تخسره سوى شقائها وعبوديتها.

الثورات الحديثة نسبيا في كل من الجزائر وفيتنام وفلسطين انتمت إلى التصنيف الذي أطلق عليه حركات التحرر الوطني وكانت -على عكس الثورتين البلشفية والماوية- عبارة عن إطار جبهوي عريض يتشكل من العمال والفلاحين والمقاتلين في الأرياف والمدن ومن المثقفين الثوريين، وغالبا ما كان كفاحها أساسا ضد قوى إمبريالية استعمارية.

في الحالة الكفاحية الفيتنامية ضد فرنسا في الهند الصينية، توجت نتائج الثورة بهزيمة ساحقة لفرنسا في معركة "ديان بيان فو" عام 1954 على يد قوات الفيتكونغ الفيتنامية، وفيما بعد استكملت هذه الثورة وحققت انكسارا مذلا لأميركا -وريثة فرنسا في نفس المنطقة- توّج بانتصار ساحق للثورة الفيتنامية باستكمال تحرير فيتنام الجنوبية عام 1975.

في الحالة الجزائرية كان الكفاح موجها ضد الاستعمار الكولونيالي الفرنسي حيث نجحت جبهة التحرير الوطني -بدعم من مصر الناصرية ودول المحيط المغاربي العربية- في انتزاع استقلال الجزائر عنوة عام 1962.

وفي هذا السياق تعتبر الثورات الفلسطينية ذات الإطار الجبهوي المشابه في بنيته لثورتي فيتنام والجزائر، من الثورات الأشهر والأطول عالميا، سواء تلك التي انطلقت عام 1936 فيما سمي "الثورة الفلسطينية الكبرى" ضد الانتداب البريطاني الضامن لتحقيق أطماع الصهيونية الكولونيالية من خلال ما سمي بوعد بلفور الصادر عام 1917 وانتهت إلى ما انتهت إليه عام 1939، أو الثورة الفلسطينية المعاصرة التي انطلقت مطلع عام 1965 وتشكلت من إطار جبهوي عريض أطلق عليه اسم "منظمة التحرير الفلسطينية".

وعلى عكس الثورتين الفيتنامية والجزائرية وصلت الثورة الفلسطينية التي قادتها منظمة التحرير إلى أسوأ ما يمكن أن تصل إليه ثورة تحرر وطني من انحطاط، بدأ مبكرا بصفقة سياسية غير مكتوبة مع الأنظمة العربية في بداية سبعينيات القرن المنصرم، كان مضمونها التنازل عن حق الشعب الفلسطيني في كامل التراب الوطني، والابتعاد رويدا رويدا عن الكفاح الوطني المسلح لصالح ما سمي بالحلول السلمية الدبلوماسية، والذي عبر عنه في ما سمي بالبرنامج المرحلي للمنظمة الذي توازى طرحه مع اعتراف النظام العربي الرسمي في مؤتمر الرباط عام 1974 بما أطلق عليه "الممثل الشرعي والوحيد" للشعب الفلسطيني، ونتج عنه تملص هذه الأنظمة من الواجبات القومية والأخلاقية المترتبة عليها والمتمثلة في استعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة التي فقدتها إثر هزيمة يونيو/حزيران 1967 بالحد الأدنى.

واكتمل انحدار الثورة الفلسطينية إلى الحضيض بعقد اتفاقيات أوسلو عام 1993 التي جاءت للمفارقة كنتيجة لانتفاضة شعبية مجيدة، حيث تحولت بقايا تلك "الثورة" منذ ذلك الحين وعبر 17 عاما من التفاوض العبثي وتحديدا وبشكل سافر بعد اغتيال ياسر عرفات، إلى سلطة هزيلة وكيلة للاحتلال مهمتها تحجيم انتفاضات وثورات الشعب الفلسطيني وإبقاؤها بالحد الأدنى الذي لا يغضب أو يستفز الاحتلال المعروف بوحشيته.

وبذلك أتاحت الفرصة -عن قصد أو غير قصد- أمام دولة الاحتلال لإنهاء المشروع الكولونيالي التفريغي الذي يشارف على استكمال غاياته وأهدافه في تهويد كامل التراب الفلسطيني، باستثناء الجيب المعروف بقطاع غزة.

يضاف إلى ذلك أن هذه السلطة عديمة الصلاحيات أتاحت للاحتلال الإسرائيلي تقديم نفسه للعالم كأرخص وأنظف احتلال عرفته البشرية، في حين تمكنت ثورات شعبية حديثة في كل من جنوب أفريقيا وإيرلندا -كانت أقل كلفة على شعوبها بما لا يقارن بما قدمه الشعب الفلسطيني- من تحقيق الأهداف الوطنية لشعوبها.

"
طوال حقبة التغييرات الثورية التي عصفت بدول ما عرف بالكتلة الشرقية ودول أميركا اللاتينية، بقيت شعوب العالم العربي ساكنة كجثة هامدة لا حراك فيها وكأنها تعيش خارج التاريخ
"

ثورات ما بعد الحرب الباردة
في مطلع عام 1989 بدأت رياح التغيير تهب على دول ما عرف بالكتلة الشرقية، واشتركت في هذه الثورة شرائح اجتماعية متنوعة شملت الحركات العمالية والمثقفين والحركات الشبابية والفلاحين والعاطلين عن العمل والمؤسسات الدينية المتمثلة في الكنائس وغيرها.

قادت هذه الثورات بالإجمال إلى سقوط جدار برلين وتفكيك الكتلة الشرقية وأنظمة الحكم الشمولية فيها، وحصول تغيير جذري في بنية المجتمعات السياسية والاقتصادية والثقافية. لم تبق هذه الثورات مقتصرة على القارة الأوروبية والجزء الآسيوي مما عرف بالاتحاد السوفياتي، بل بدأت رياح التغيير تهب على شعوب دول أميركا اللاتينية التي تخلصت من الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة في دولها، وهي الدول التي شكلت حديقة خلفية للولايات المتحدة وكانت أنظمتها حليفة لها.

وقد دعمت وشجعت الولايات المتحدة جميع الثورات في دول ما عرف بالكتلة الاشتراكية لأسباب لها علاقة بالرغبة في الإجهاز على خصومها من حقبة الحرب الباردة، بينما وقفت موقفا سلبيا عاجزا عن التأثير في التغييرات الجذرية التي اجتاحت أميركا اللاتينية وأسقطت حلفاءها من الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة.

طوال حقبة التغييرات الثورية التي عصفت بدول ما عرف بالكتلة الشرقية ودول أميركا اللاتينية، بقيت شعوب العالم العربي ساكنة كجثة هامدة لا حراك فيها وكأنها تعيش خارج التاريخ، تمر عليها الأحداث والكوارث التي تتعرض لها على شكل احتلالات خارجية أو حروب عدوانية أو مذابح أو أوضاع اقتصادية كارثية وحتى مجاعات في بعض الأقطار العربية، دون رد فعل أو احتجاج ملموس.

بقي الإنسان العربي يعيش عقودا كاملة تحت حالة طوارئ مفروضة عليه تنتهك كرامته وأبسط حقوقه الإنسانية. استمر هذا الوضع حتى خّيل للمراقب أن هذه أمة لا حياة فيها، استكانت لحالة الذل والهوان التي تفرضها حكوماتها الدكتاتورية المحلية الموالية للغرب دون أدنى مراعاة لاتجاهات الرأي العام العربي.

سقط النظام العربي أخلاقيا وجماهيريا منذ اللحظة التي تحولت فيها دولة الصومال إلى دولة فاشلة تلفها مجاعة مخجلة، ومنذ بروز مؤشرات على تفتيت السودان الذي أصبح الآن تفتته أمرا واقعا.

وصل الأمر أن تتجرأ دولة إريتريا على اليمن وتحتل بعض الجزر عنوة، وأن يتم حصار العراق واحتلاله وتدميره بتواطؤ من الأنظمة العربية، ولبنان تعرض لحرب إسرائيلية ضروس بتواطؤ عربي رسمي. أعقب ذلك بفترة وجيزة إعلان الحرب على غزة المحاصرة من القاهرة وبتواطؤ علني وسافر من النظام المباركي الذي تحالف مع إسرائيل علنا. ولم يطل الزمن لتعلن دول منابع النيل رغبتها في تغيير اتفاقيات توزيع مياه النيل بتحريض من حليفة النظام المباركي إسرائيل التي تنعم بالغاز المصري بأسعار شبه مجانية، يضاف إلى ذلك الأوضاع الاقتصادية الصعبة جدا وموجات الغلاء التي اجتاحت مجمل الدول العربية وجعلت معظم الجماهير العربية تعيش تحت خط الفقر..

مقابل كل هذا الانحدار تصعد دول إقليمية مجاورة هي تركيا وإيران وتشرع في ملء الفراغ الناتج عن غياب دور جميع الدول العربية الكبرى التي تحولت إلى شبه محميات أميركية تبحث عن الرضا عبر التقرب والتحالف العلني مع إسرائيل، وتعمل معها على اختلاق أعداء إقليميين من دول المحيط العربي تماهيا مع رغبات إسرائيل والولايات المتحدة وخدمة لمصالحهما لا غير، ومقابل فتات من المساعدات.

ويبدو أن تراكمات مجمل هذه الأحداث والمواقف وسلوك الأنظمة تجاهها شكلت مجتمعة تحديا للضمير الجمعي للشعوب العربية وقادت إلى تعميق إحساسها بالمهانة، مما أدى إلى إخراج المارد من القمقم على شكل احتجاجات تصدت فيه الجماهير المليونية لأدوات السلطات القمعية بشكل ليس له مثيل على المستوى العالمي إذا استثنينا الثورة الإيرانية.

بهذه التحركات الضخمة فاجأت الشعوب العربية الأنظمة نفسها وقوى الهيمنة العالمية وجعلتها جميعا في حيرة من أمرها، وانتظرت القوى العالمية المتحالفة مع هذه الأنظمة القمعية، آملة أن تتمكن هذه الأخيرة من قمع حركة الاحتجاجات الشعبية.

غير أن الاحتجاجات العربية كانت من الضخامة بمكان وعلى درجة من الإبداع والتحضّر أجبرتها على كيل المديح لها وإن كان ذلك على استحياء في بداية الأمر، في محاولة لإنقاذ ماء وجهها أمام الجماهير العربية الثائرة، ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالحها التي أصبحت مهددة بعدما تم كنس أهم وكلائها في المنطقة.

ورغم الشعارات البرغماتية المطلبية ذات الطابع المحلي في الظاهر والتي رفعتها الجماهير الثائرة، فإن القوى المهيمنة على المنطقة والمتحالفة مع أنظمتها القمعية تدرك أن مطالب هذه الجماهير يمكن أن يصبح سقفها السماء بعدما تحقق أهدافها المحلية وتلتقط أنفاسها للالتفات إلى محيطها العربي والإقليمي.

"
الاحتجاجات العربية كانت من الضخامة بمكان وعلى درجة من الإبداع والتحضّر أجبرت القوى العالمية على كيل المديح لها، في محاولة لإنقاذ ماء وجهها أمام الجماهير وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالحها
"

الصدى الدولي للثورات العربية
بداية اعتقدت الأنظمة العربية وحلفاؤها الغربيون أن حركة الاحتجاجات المليونية ستنحصر فقط في تونس وسيقتصر نجاحها على خلع نظام الرئيس زين العابدين بن علي القمعي، واعتقد الجميع أن أنظمة باقي الدول العربية محصنة وفي مأمن من غضب الجماهير، ولن تلقى مصير النظام التونسي. إلا أن شرارة الثورة التونسية لم تلبث أن امتدت إلى مصر بثقلها الإستراتيجي في المنطقة والعالم، ووقف الجميع مشدوها أمام عظمة وحضارية الشعب المصري وضخامة تحركه وإصراره على اقتلاع النظام المباركي. وامتدت هذه التحركات الجماهيرية الواسعة لتشمل أنظمة دول عربية لا تقل أهمية إستراتيجية لقوى الهيمنة الغربية وحليفتها إسرائيل عن مصر.

وأمام هذه الحالة الفريدة في المنطقة العربية التي تكاد تكون فريدة في العالم باستثناء ما حدث إبان الثورة الإيرانية كما ذكر، لم تجد القوى العالمية المتحالفة مع هذا النظام بُدا من ركوب موجة الإطراء والإشادة بهذه التحركات، تاركة السفينة تغرق بحليفيها النظامين التونسي والمباركي. يضاف إلى ذلك في هذه الأيام تخليها عن النظام الليبي الدموي الذي بدا يترنح تحت ضربات الجماهير الثائرة في ليبيا، والتي يبدو حتى هذه اللحظة أنها مستعدة لدفع أثمان باهظة لا تقارن بما دفعته شعوب مصر وتونس لاسترداد حريتها، وما قد يدفعه الشعب اليمني المنتفض ضد نظام الحكم الفاسد في صنعاء.

وبعد تردد وارتباك وحيرة ودهشة بدأ يخرج علينا زعماء غربيون يكيلون عبارات الإطراء لهذه الشعوب التي طالما دعموا الأنظمة التي كانت تقمعهم من خلال قوانين الطوارئ التي أصبحت القاعدة في التطبيق وليس الاستثناء كما يستشف من اسمها.

تراوحت ردود الفعل الدولية بين تصريح باراك أوباما ودعوته إلى تعليم الأطفال الأميركيين ليصبحوا كنظرائهم المصريين، وبين تصريح رئيس الوزراء البريطاني ديفد كاميرون في دعوته لإدخال تاريخ الثورة الشبابية المصرية في مناهج التعليم. أما رئيس وزراء النرويج فقد أعلن قائلا "اليوم كلنا مصريون"، في حين صرح رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني بأن ما يقوم به المصريون ليس بجديد فهم يصنعون التاريخ كالمعتاد.

وقد ذهبت رئيسة الوزراء الأسترالية إلى حد القول إن الشعب المصري يستحق جائزة نوبل على أدائه الرائع. أما أبلغ تعليق أبرزته وسيلة إعلام أجنبية هي شبكة سي.أن.أن فكان تعليقها على الثورة المصرية الشبابية بقولها: هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي ينجز فيها شعب ثورته ثم يبدأ في تنظيف الشوارع.

مجمل هذه التصريحات والانطباعات التي سجلتها وسائل الإعلام تبرز أن الحدث العربي عموما والمصري على وجه التحديد، يعتبر فريدا على المستوى العالمي ولم يسجل له التاريخ مثيلا إلى لحظة كتابة هذه السطور.

ويدرك المعجبون بأداء الشعوب العربية أن هذه الجماهير كسرت حاجز الخوف، وأن هذا وضع له استحقاقاته التي ستنعكس على الوضع الإستراتيجي الإقليمي والعالمي.

"
مجمل التصريحات والانطباعات التي سجلتها وسائل الإعلام تبرز أن الحدث العربي عموما والمصري على وجه التحديد، يعتبر فريدا على المستوى العالمي ولم يسجل له التاريخ مثيلا
"

الآمال المعقودة والمآلات المتوقعة
يشكل من هم أقل من 25 عاما أكثر من 50% من مجموع سكان الدول العربية، وبهذا فإن المجتمع العربي يعتبر من أكثر المجتمعات الإنسانية شبابا. ولا غرو في أن العنصر الشابي أصبح هو المحرك الأساسي لهذه الثورات.

ومما يبشر بحتمية وصول هذه الثورات إلى أهدافها النهائية والقضاء على إمكانية الالتفاف عليها من قبل القوى المضادة، حقيقة أن هذه الثورات هي "ثورات القاع" وعمادها جيل الشباب المتوثب، وليست "ثورة القمة" أو النخب كما اعتاد عليه العالم العربي في مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني، حيث الانقلابات العسكرية التي كانت تطلق على نفسها ثورات بعدما تحصل على تأييد الجماهير، بينما لا تتغير الأوضاع السائدة إلا بشكل سطحي، مما قاد ذلك إلى خيبات أمل عميقة لدى مجمل قطاعات الشعب العربي التي كادت أن تفقد الأمل في التغيير المنشود.

ومع ذلك ينبغي الإشارة إلى أن الثورات العربية السابقة -إن جازت تسميتها كذلك- وإن انسجمت في أهدافها المعلنة مع الحس الشعبي والضمير الجمعي للأمة، لم تفشل فقط لأسباب ذاتية محلية وإنما لأن هناك عوامل موضوعية دولية ضاعفت من عوامل فشلها.

وبسبب الأهمية القصوى لمصر في المنطقة العربية تاريخيا وجغرافيا وديمغرافيا باعتبارها رافعة للنهضة العربية في كافة أقطار المشرق والمغرب العربي، تجدر الإشارة إلى أن انهيار دولة محمد علي وفشل ثورة عرابي عام 1919 وصولا إلى فشل ثورة 23 يوليو/تموز 1952 الناصرية في إنجاز مشروع نهوض قومي مصري مرتبط عضويا بنهوض قومي عربي، يعود في معظمه إلى عوامل خارجية عملت على إجهاضها جميعا، مانعة تطوير حالة نهضوية ديمقراطية أو اشتراكية عربية محايدة متفردة لا تسير في أفلاك الأحلاف الدولية شرقيها أو غربيها (كما في الحالة الناصرية).

ومع هذا لا ينبغي التقليل من العوامل الداخلية المتعلقة ببنية هذه النهضات والثورات التي تميزت بكونها "ثورات قمة" وليست "ثورات قاع" ذات قواعد جماهيرية مليونية عريضة كما نشهد حاليا في الثورات الشبابية 2011.

فالثورة الشبابية الحالية تختلف جذريا عن جميع هذه الثورات السابقة، لأن عمودها الفقري هو الجماهير العريضة وخصوصا عنصر الشباب المتوثب، وبالتالي فإن الآمال المعقودة على نجاحها كبيرة، وفرص إفشالها من قبل قوى الثورة المضادة المتحالفة مع قوى الهيمنة الإمبريالية تكاد تكون معدومة.

وعليه نستطيع استشراف معالم نهضة قومية عربية شاملة عمادها الثورة الشبابية المصرية وثورات شباب الأقطار العربية الأخرى، ثورات تكون متصالحة مع ماضيها وحاضرها ومستقبلها وتحمل هوية القرن الواحد والعشرين وتقوض أسس الليبرالية الجديدة التي تحالفت مع الأنظمة القمعية المحلية والإمبريالية العالمية التي بدأت تغرس أنيابها في المجتمعات العربية وتعمل فيها تخريبا منذ عهد السادات وتوقيع اتفاقية كامب ديفد.

فمن المعروف أن القوى التقدمية وحركات الإسلام السياسي فشلت في الحد من تغوّل الأنظمة الحاكمة المتحالفة مع قوى الهيمنة الغربية وقوى الليبرالية الجديدة المحلية والدولية، بل نستطيع أن ندعي أن بعض القوى اليسارية الانتهازية وبعض قوى الإسلام السياسي تحالفت مع هذه الأنظمة مما أكسبها شرعية لا تستحقها.

"
كثير من الشواهد تجعلنا ننظر إلى المستقبل العربي بكثير من التفاؤل والاستبشار بأن مآل الثورات الشبابية بعد انتصارها سيكون مستقبلا واعدا وانتزاع دور محوري على المستويين الإقليمي والدولي
"

غير أن الواقع بدا يتغير منذ بداية التسعينيات مع بروز قوى الإسلام السياسي الملتزمة بالكفاح التحرري للشعوب العربية، إذ حققت إلى جانب القوى الوطنية اليسارية والعلمانية الملتزمة بالقضايا الوطنية إنجازات مشهودة في كل من لبنان وفلسطين، مما غيّر من خريطة العلاقات بين القوى المجتمعية الوطنية والتقدمية وبشكل ملحوظ نقلها من حالة العداء المحكم والتضاد إلى حالة من التعايش وقوفا في وجه الأنظمة القمعية المدعومة غربيا.

ومع أن جماهير الثورات الشبابية تبدو كأنها عفوية ولا رأس لها، فإنها تعتبر ثورة برغماتية تعمد إلى التواضع في شعاراتها المطلبية ويتآلف ويتعايش فيها القومي والعلماني والإسلامي جنبا إلى جنب، حيث يعتبر ذلك مؤشرا على إمكانية حل التناقضات بين العامل القومي والعامل الإسلامي على النمط التركي، وعليه يتوقع أن تحمل الثورات الشبابية 2011 الراهنة بذور بعث قومي عربي ديمقراطي إنساني على أسس تختلف عن التجارب الفاشلة التي حفلت بها مرحلة ما بعد الاستقلال.

ومما يدعو إلى التفاؤل بهذا البعث القومي الجديد، تخلص الجيل الشاب من القيم الأبوية بجانبها السلبي الذي يدعو إلى تأليه الحاكم الفرد ووضعه فوق النقد مهما ارتكب من أخطاء أو اقترف من جرائم تستدعي المحاسبة. كما لا يمكن إغفال حقيقة أن من أهداف هذه الثورة الشبابية القضاء المبرم على الفساد والمحسوبية.

هذه العوامل مجتمعة تجعلنا ننظر إلى المستقبل العربي بكثير من التفاؤل والاستبشار بأن مآل هذه الثورات الشبابية بعد انتصارها سيكون مستقبلا واعدا وانتزاع دور محوري على المستويين الإقليمي والدولي وبشكل يحقق آمال الشعوب العربية في التحرر والديمقراطية والاستقلال الناجز للمحتل من الأرض العربية.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان