لليوم الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني مرارة خاصة لدى الملايين، وأنا منهم، هو يوم رحل عنا القائد ياسر عرفات (أبو عمار)، وهي ليست مرارة ناتجة عن موته، فتلك سنة من سنن الحياة، لكنها مرارة محبيه الحيرى عن أسباب موته، وهل رحل عنا بفعل يد غادرة امتدت إليه، ومرارة ألا نعرف الحقيقة بعد مرور كل هذه السنوات، وقد لا نعرف أبد.
ولكن مع 11 نوفمبر لدينا ذكرى أخرى مريرة، هذه المرة كان مسرحها طرابلس الشرق، عاصمة الشمال اللبناني التي كانت قد احتضنت ما بقي من أجسادنا المنهكة بعد رحلة القتال في مواجهة الانقلاب السوري الفاشل على قيادة أبي عمار للثورة الفلسطينية، انقلاب يبعث برائحة كريهة، لأنه جاء مباشرة بعد ما أشيع عن اجتماعات المغرب التي جمعت أربيل شارون ورفعت الأسد.
كان ذلك بعد حصار بيروت ٨٨ يوما، وهي على مرمى حجر من عرين الأسد، تبع ذلك خروج المقاومة الفلسطينية بحرا من بيروت، وقف شارون يومها على مشارف بيروت ليقول إن الثورة الفلسطينية انتهت، فرد عليه أبو عمار "طائر العنقاء لن يموت"، لكن أبا عمار لم يكن على علم بلقاءات المغرب وموافقة الأسد المسبقة على قيام القوات الإسرائيلية باجتياح لبنان بعمق ٤٥ كيلومترا، وهو ما اعترف به حافظ الأسد أمام الجلسة المغلقة للقادة العرب في قمة فاس الثانية حين واجهه صدام حسين بذلك.
" 11 نوفمبر لا يحمل ذكرى وفاة عرفات فحسب, بل يحمل ذكرى أخرى مريرة، هي ذكرى رحلة القتال في مواجهة الانقلاب السوري الفاشل على أبي عمار " |
نعم حط بنا الرحال في طرابلس، وبدأ الخيط الأسود يتبين من الخيط الأبيض، وبدأت تفاصيل جديدة تظهر، كان الاتفاق بين الأسد وشارون ينص من بين ما ينص على ألا تتجاوز القوات الإسرائيلية مسافة الـ٤٥ كيلومترا في عمق الأراضي اللبنانية، وأن إسرائيل تلتزم بعدم تطوير الهجوم بما يمس الأراضي السورية، في المقابل لن ترمي سوريا بأي ثقل عسكري جدي في المعركة، وإن كانت ستضطر لأسباب سياسية فسوف تكتفي بالقوات المحدودة الموجودة في لبنان.
وقد رمي بهؤلاء في أتون نيران شارون فقط بهدف توفير غطاء الاتفاق، رمى بهم النظام، لكنهم دافعوا عن كرامتهم وشرفهم دفاع الأبطال، استشهد منهم المئات إن لم يكن الآلاف، ولتفادي الضغط الشعبي السوري الداخلي وكذلك الجماهير العربية، قام الأسد بتقديم نصف سلاح الجو السوري غداء مجانيا لسلاح الجو الإسرائيلي، معركة محددة الأهداف مسبقا، معركة تعطي الأسد المزيد من الغطاء في مواجهة الضغط الشعبي المتزايد وتتيح لشارون استكمال حرب القضاء على الثورة الفلسطينية وإنهاء عصر عرفات.
كم كان الغموض واضحا لمن أراد أن يعرف، كم كان واضحا في قمة فاس الثانية، عندما عاد صدام حسين ليسأل الأسد "لماذا إذن لم تتحرك بعد أن جاوزت القوات الإسرائيلية عمق الـ٤٥ كيلومترا المتفق عليه"، رد الأسد: عند ذاك كنا قد فقدنا نصف سلاحنا الجوي!!
انتهت حرب حزيران ١٩٨٢ لكن المهمة لم تنته، لم تزل الثورة الفلسطينية هناك، وعرفات باق على قيادتها، ولتحقيق الهدف لم يجهد الشريكان في الوصول إلى اتفاق يتكفل بموجبه الأسد بإنهاء وجود الثورة الفلسطينية على الأراضي السورية، ولكن أيضا في سهل البقاع اللبناني وطرابلس، وسيدبر الأمر على أنه صراع وانشقاق داخل الصف الفلسطيني، خاصة أن غياب أبا عمار عمن بقي من قواته سيجعل الأمر سهلا.
ومرة أخرى أخطؤوا الحساب، صحيح أن عرفات المبعد عن سوريا ولبنان ليس هناك جسديا، لكن الطاقة الخلاقة للثورة الفلسطينية كانت هناك، أبو جهاد رحمه الله كان هناك، ومن قال إن عرفات ليس هناك وبأنه استسلم للأمر الواقع مخالفا الرسالة التي بعث بها إلى الأسد يوم إبعاده عن لبنان ثم عن سوريا "قولوا للأسد إن لي في سوريا أكثر مما له، وإذا أبعدوني من الباب سأعود من الشباك"، صدق أبو عمار وعده وعاد بحرا من شباك طرابلس الفسيحة.
عاد قبل موعد المعركة كطائر الفينيق، انبعث هذه المرة من موج البحر، نعم هكذا اجتمعنا في طرابلس رويدا رويدا مع تجمع نذر الحرب الأسدية من حولنا لتنفجر، كنت وعدد من الإخوة في مثل هذا اليوم من العام ١٩٨٣, نصفنا الآن أحياء على الأقل، في حين أن نصفنا الأجمل قد رحل عنا في رحلة استشهاد مجيدة.
رحل القائد الخالد أبو عمار مسموم الحياة بفعل ذلك الحصار الإسرائيلي الطويل، أو مسمما كما يعتقد الكثر منا، ورحل أبو جهاد بالرصاص الإسرائيلي الذي ما تمنى يوما أن يستشهد بغيره، ورحل القائد الفذ أبو إياد وأبو الهول برصاص الغدر السوري العراقي الليبي، في ملحمة خيانة عربية حرمت الشعب الفلسطيني من قادته، ورحل عنا الشهيد منذر أبو غزالة بقنبلة الموساد الإسرائيلي في أثينا، وغيرهم، ولكن بعضنا مازال هنا وقادرا على قول الحقيقة قبل أن يطفئ الله نوره في عيوننا.
أنا كنت هناك, أخي محمود العالول كان هناك, وكذلك الأخ نبيل أبو ردينة كان هناك، كنا معا في باب الزاهرة أحد أحياء عاصمة الشمال اللبناني والراجمات السورية (عفوا راجمات الأسد ومدفعيته) تنهال علينا إلى درجة قال فيها أبو عمار، هذا يوم مجيد.
أخيرا قرر حافظ الأسد أن يحرر الجولان، لكن يبدو لي أن جنرالاته يحملون خرائط خاطئة، كان ذلك اليوم حالكا بالسواد بالنسبة لنا، ففي تناغم معلن وصريح كانت مدافع وراجمات الأسد تقصفنا من جبل تربل والطائرات الحربية الإسرائيلية من الجو، في حين كانت باخرة المدد الجزائرية أملنا الوحيد في الصمود، سألت القائد أبا عمار يومها مازحا إن كان يرغب أن نرسل لجنرالات الأسد الإحداثيات الصحيحة للجولان، فقال لي بغضب هذا ليس مشهدا كوميديا بل قمة المأساة, إن هؤلاء الضباط السوريين هم أحفاد خالد بن الوليد وكاتب الوحي معاوية وداهية العرب عمرو بن العاص، أحفاد القسام، يتأهبون ويتدربون ليوم مجيد في الجولان ثم يرسلهم هذا النظام إلى معارك في لبنان ومن ثم في حماة وحمص، والآن في شمال لبنان، ثم ردد للراحل محمود درويش "يجب الذي يجب نسعى لأندلس إن حوصرت حلب"، وذكرنا بما قاله قبل أشهر من ذلك التاريخ بعد فشل محاولة اغتيال سورية أعدها له الأخوان حافظ ورفعت على الأراضي السورية أمام كل عدسات التلفزيونات العالمية "لقد أخرجني شارون من لبنان وها هم شوارين العرب يخرجونني من سوريا، لا بأس، أبلغوا الأسد أن لي في سوريا أكثر مما له، ولو طردت من الباب سأعود من الشباك".
لم أكن أدرك يومها عمق الأزمة حقيقة، ولماذا على أبي عمار أن يقاتل على مثل هذه الجبهة الملتبسة، لكن بدا لي واضحا أن هناك حسابا قديما لم يسو، حساب حماة والمجزرة البشعة التي قام بها النظام ووجه أصابع الاتهام الى الخارج السوري "ما أشبه اليوم بالبارحة"، فقد قام النظام باتهام أبي عمار رحمه الله بتدريب وتسليح مقاتلي حماة وحمص كما يفعل اليوم تماما باتهام ثوار سوريا بل باتهام كل الشعب السوري بالخيانة والارتباط بالخارج.
" كما كان للنظام السوري حماة وحمص الأولى، له الآن درعا الأولى وإدلب ودير الزور, كما أن له حماة الثانية وحمص الثانية الآن، وكما له دمشق الأولى وريفها البطل الآن، سيكون له الثانية ولن ينتهي الأمر " |
وبعد أشهر من ذاك الحصار الدامي كان لي شرف اللقاء مع الأخ د. برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري وكذلك مع صديق حميم هو المفكر ميشيل كيلو، وكلاهما لم يلق راية معارضة النظام يوما، التقيتهما، كلا على انفراد وتحدثت إليهما عن معارك طرابلس وحجم التدخل السوري في صراعات حركة فتح الداخلية وإمدادات السلاح عبر البقاع والهرمل، التي كان سبق الكشف عنها للكاتب والصحافي البريطاني روبرت فيسك.
وكان عجبي أن كلا من د. برهان والأستاذ ميشيل قالوا لي نفس الجواب "إنه ليس صراعا في فتح، إنه صراع على فتح"، لكن طرابلس لم تكن النهاية، فسرعان ما اضطر أبو عمار ورفاقه إلى معركة جديدة مع النظام السوري دفاعا عن مخيمات بيروت، وإن هذه المرة بالوكالة، دكت مخيمات صبرا وشاتيلا وهي لم تزل تلملم الجراح من المجزرة الرهيبة على أيدي الإسرائيليين وحلفائهم.
وشاهد القول هنا هذا النظام سيعود لقتلك مرة واثنتين وثلاثا، وكما كانت له حماة وحمص الأولى، له الآن درعا الأولى وإدلب ودير الزور، كما أن له حماة الثانية وحمص الثانية الآن، وكما له دمشق الأولى وريفها البطل الآن، ستكون له الثانية ولن ينتهي الأمر كما يعتقد بعض أصحاب النوايا الطيبة أو أصحاب المصالح الملتبسة، في الجامعة العربية وغيرها، لأن هذا الملتهم الرهيب لن يتوقف إلا كي يهضم ما افترس ثم يعود مجددا، أكتب هذا ويدي على قلبي من كل قطرة دم استباحها النظام في ١١ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١١.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.