الجزائر والحرب على "الإرهاب"
مدرسة بمكافحة الإرهاب
عدو بأفريقيا
أهداف أفريكوم
أهداف الجزائر
أحدث وصول المحافظين الجدد إلى رأس الإدارة الأميركية في سنة 2001 انقلابًا في التوجه الأميركي السابق الذي انكفأ عن أفريقيا في التسعينيات خاصّة بعد حادثة سحل 18 جنديًّا أميركيًّا في شوارع مقديشو سنة 1993 حتى الموت.
فديك تشيني وهو وزير دفاع سابق وكان يرأس شركة هالبرتن قبل تعيينه نائبًا للرئيس بوش، له علاقات ومصالح واسعة مع كبريات الصناعات النفطية والعسكرية، مما أهّله إلى الإمساك بكثير من الملفّات الحساسة بما فيها رسم ما عُرف بسياسة الطاقة القومية (NEP) التي صدرت في وثيقة سمّيت بتقرير تشيني في 17 مايو/أيار 2001.
وعلى الرّغم من أنّها مؤلفة من ثمانية أقسام فإنّ أهم السياسات تضمّنها القسم الثامن والأخير من التقرير(1) تحت عنوان "تقوية التحالفات العالمية" (Strengthening Global Alliances)، الذي جاء فيه "إنّ الأمن القومي الطاقوي يعتمد على توفّر مصادر للطاقة لدعم نمو الاقتصاد الأميركي والعالمي على حد سواء"، ويضيف التقرير أنّه لتحقيق هذا الغرض "يجب أن نعمل مع البلدان الأخرى لمزيد من الإنتاج العالمي للطاقة، إنّه لمن الحيوي أن نجعل أمننا الطاقوي أولوية تجارتنا وسياستنا الخارجية".
واقع الأمر إذن، أنّ الهدف الأساسي لخطة تشيني هو إيجاد مصادر خارجية إضافية من الطاقة لتُضخ في الاقتصاد الأميركي خاصّة أنّ التقرير لاحظ ابتداءً أنّ أميركا التي ستنتج 8.5 ملايين برميل يوميا في 2002 لن تستطيع في سنة 2020 إلا إنتاج ما يقارب سبعة ملايين برميل يوميا، في حين أنّ حاجتها ستزيد على 19.5 مليون برميل يوميا في 2002 وتصل إلى 25.5 مليون برميل يوميا في 2020. أي أنّها ستضطر إلى استيراد ما يقارب أربعة أضعاف إنتاجها لسدّ حاجتها آنذاك، في حين أنّها لن تستورد في سنة 2002 إلاّ نصف ما تحتاج إليه من النفط.
تقرير تشيني هذا سيكون له أثر بالغ على كافة السياسات الأميركية وعلى رأسها السياسات العسكرية والخارجية.
ولكن بدا أنّ الإشكال الأكبر الذي يواجه هذه الإستراتيجية هو أنّ بقية دول العالم قد لا توافق عليها فهي تبدو أقرب إلى الهيمنة منها إلى التبادل التجاري الحر بين الدول.
جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتقدم أكبر تبرير لبدء تنفيذ سياسات الهيمنة على مصادر الطاقة في العالم، لتزدهر معها شركات النفط والسلاح العابرة للقارات والقريبة جدًّا من مصالح المسؤولين الجدد في البيت الأبيض.
كانت البداية مع احتلال أفغانستان "مصدر الإرهاب ومأواه" فاحتُلت البلاد واقتربت الجيوش الأميركية من حوض بحر قزوين وما حوله حيث يقع ثاني احتياطات النفط العالمية بعد نفط الخليج.
ثم جاء احتلال العراق الذي "ثبت أنّ له علاقات مع القاعدة وزعيمها بن لادن"، والذي "يمتلك رئيسه الدكتاتور أسلحة دمار شامل تهدد العالم"(2). باحتلال العراق أصبحت الجيوش الأميركية الحليفة تمشي على بحور النفط في الخليج حيث يوجد ما لا يقل عن 60% من احتياطات العالم وحيث يستورد الحلفاء الغربيون أكثر نفطهم من هناك على الرغم من أنّ الولايات المتحدة لا تستورد منه إلا ما يعادل 18% من احتياجاتها حسب تقديرات 2002.
بقيت منطقتان في العالم الثالث حيث الكنوز القابلة للإخضاع، أميركا اللاتينية التي تُعتبر خمس من دولها ضمن قائمة أكبر 15 مصدرا للنفط إلى الولايات المتحدة، وأفريقيا التي ستستورد الولايات المتحدة منها 25% من احتياجاتها النفطية في عام 2020 وهو ما سيزيد عن 35% من كل النفط الأفريقي المُصدّر في نفس العام.
وإذا كانت أميركا اللاّتينية لم تعد لعبة في أيدي الأخوات السبع (3)، ففي المنطقة الأفريقية كثير ممن ينتظر الوعد الأميركي.
مدرسة بمكافحة الإرهاب
عندما ضربت الرحلة 77 صبيحة 11 سبتمبر/أيلول 2001 مقر البنتاغون، كان أحد أهم حلفاء المستقبل موجودًا هناك، وهو الجنرال محمد مدين المدعو توفيق، رئيس المخابرات الجزائرية المعروفة اختصارًا بـ"DRS"، الذي نجا هو ومن معه من الجنرالات الجزائريين والأميركيين من الهجوم، ولكنه سيكون واحدا من أكبر المستفيدين منه على الإطلاق.
في هذا الوقت كانت الجزائر تشهد تحرّكات شعبية هائلة في منطقة القبائل بعد أن أدّت مواجهات بين سكان المنطقة وأجهزة قمع "الشغب" ابتداءً من أبريل/نيسان 2000 إلى مقتل أكثر من 123 متظاهرًا برصاص قوات الشرطة والدرك، وهي انتفاضات أنذرت بامتدادها إلى مناطق أخرى كانت القوات الحكومية والمليشيات التابعة لها والجماعات الإسلامية المُخترقة، قد عبثت بها في عشرية التسعينيات التي شهدت واحدة من أقذر الحروب الداخلية التي عرفها العالم نهاية القرن العشرين وخلفت رسميا ما لا يقل عن 200 ألف قتيل غالبيتهم العُظمى من المدنيين قُتل أكثرهم في مجازر مروّعة.
في حقبة التسعينيات تدفّقت المساعدات الغربية والفرنسية بشكل خاص على جنرالات الجزائر الذين كانوا يحاربون كما يقول قائد انقلاب 11 يناير/كانون الثاني 1992 الجنرال خالد نزار وهو ضابط سابق في الجيش الفرنسي "من أجل إنقاذ الجزائر والمنطقة والغرب بأكمله من خطر الإرهاب الإسلامي".
"الخطر الإسلامي" الذي اختاره الشعب في انتخابات شهد صانع الرؤساء كما أصبح يُعرف فيما بعد الجنرال العربي بلخير وكان يومها وزيرًا للداخلية، شهد بنزاهتها صباح 27 ديسمبر/كانون الأول 1991.
لم يعد كبار جنرالات المخابرات والجيش الجزائري في حاجة إلى طلب معدّات عسكرية عالية الدّقة للقضاء على ما يسمّونه بقايا الإرهاب الإسلامي، فقد انهالت العروض من كل مكان لأن "الحرب العالمية على الإرهاب قد بدأت ومن ليس معها فهو ضدّها وسوف يدفع الثمن".
ولم تكن الإدارة الأميركية في حاجة لمن يذكرها بأنّ "الجزائر مدرسة في مكافحة الإرهاب وجب التعلّم منها" بحسب وصف من وزير بريطاني للحلفاء الجدد في شمال أفريقيا(4).
" ما كانت الإدارة الأميركية بحاجة إليه هو "عدو" في أفريقيا وخاصة في منطقة الساحل والصحراء، وهو ما ستتولى المخابرات الجزائرية ترتيبه عن طريق تهويل خطر الجماعة السلفية للدعوة والقتال " |
عدو بأفريقيا
لكن ما كانت الإدارة الأميركية بحاجة إليه هو "عدو" في أفريقيا وخاصة في منطقة الساحل والصحراء، وهو ما ستتولى المخابرات الجزائرية ترتيبه عن طريق تهويل خطر الجماعة السلفية للدعوة والقتال التي تحولت إلى قاعدة المغرب الإسلامي، ونقلت –حسبما تقول السلطات الجزائرية- مركز نشاطها إلى أقصى الجنوب بعد أن تلقّت ضربات قاتلة في الشمال.
وأصبحت الجماعة تشكل خطرًا حقيقيًّا على العالم بعد أن انضمّ إليها "الأصوليون" من كل بلدان المنطقة، حتى إنّ جورج بوش وصف أميرها الأشهر عبد الرزاق البارا وهو مظلي عسكري جزائري منشق بأنّه ممثل بن لادن في الصحراء بعدما قيل إنه وراء عملية خطف 32 سائحًا ألمانيًّا في الصحراء الجزائرية بين 11 فبراير/شباط و9 أبريل/نيسان 2003 وهو ما "صادف" سقوط بغداد.
تضخيم الخطر الإرهابي في الصحراء الذي دأب بعض الصحافة الجزائرية على نشره، والتحقت به مؤخرا وسائل إعلام عربية وغربية تردد مزاعم الخطر الإرهابي الإسلامي الزاحف على أوروبا من الساحل والصحراء(*) هو ما سيسهّل انتشار نظرية العنف المطلوب والمحدود التي اهتدى إليها الجهاز الأمني العسكري الحاكم في الجزائر منذ أن استطاع القضاء على الجماعات الإسلامية الأصلية بحلول خريف 1995 سواء بالاستئصال الكامل لبعضها عضويًّا أو فكريًّا أو بالاختراق الكلّي أو الجزئي لبعضها الآخر.
مفاد هذه النظرية يتلخّص في أنّه حتى يمكن الاحتفاظ دائمًا بالسلطة لإدارة الدولة والمجتمع (المشاغب) فإنّ وجود خطر إرهابي محدود -حقيقيًّا كان أو مزعومًا- ضروريٌ لتبرير أهم السياسات داخليًّا وخارجيًّا.
دون الخوض كثيرًا في القضايا الداخلية، فإنّه باسم مكافحة الإرهاب تُبرر أكثر السياسات الأمنية تشدّدًا وقمعًا وتستمر حالة الطوارئ (منذ فبراير 1992) في تكبيل كل الحريات وعلى رأسها الحريات السياسية والنقابية.
ولإعطاء الانطباع بوجود حياة ديمقراطية –شكلية- في البلاد كما يوصي به الحلفاء الغربيون، تُجرى انتخابات "تعددية" يفوز فيها دائمًا ممثل أو ممثلو السلطة الخفية، وتنشأ صحافة "حرة ومستقلة" تكتب وتنتقد الجميع بمن فيهم الرئيس مستثنيةً أصحاب السلطان الحقيقي.
خارجيًّا، وباسم مكافحة الإرهاب أيضا حدث انقلاب كامل على مبادئ السياسة الخارجية التي عُرفت بها الجزائر وأهمّها مناوأة قوى الهيمنة والاستعمار العالمية، فأصبحت العقيدة العسكرية والسياسية للدولة هي أنّ الجزائر جزء لا يتجزأ من الحرب العالمية على الإرهاب بكل ما يعنيه ذلك من تعاون وصل حد التحالف مع الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى لتنفيذ سياسات أميركية عبر العالم، حتى اعتبر المسؤولون الأميركيون وبينهم الرئيس بوش أنّ "الجزائر هي أكبر حليف لأميركا خارج الحلف الأطلسي"(5).
ومن مظاهر ذلك التعاون:
– الاشتراك في المناورات العسكرية التي تجريها القوى الغربية فرادى أو ضمن الحلف الأطلسي، بمشاركة إسرائيلية.
– المساهمة في احتلال الصومال الذي شاركت فيه الجزائر بنقل قوات إثيوبية وأوغندية إلى مقديشو(6) ناهيك عن خدمات أمنية أخرى منها المشاركة في استنطاق أفراد متهمين أميركيا بممارسة الإرهاب(7). – توتير منطقة الساحل والصحراء لتبرير الوجود الاستخباري والعسكري الأميركي.
هذا الأخير الذي اتخذ جملة من المشاريع توجت بالإعلان عن إنشاء أفريكوم نهاية عام 2007.
" لم تعد أميركا ترغب في التدخل العسكري بعد تجربتي العراق وأفغانستان، وعليه يُصبح الهدف الأول حسب دانيال فولمان، هو تقوية حلفائها من الأنظمة الأفريقية للبقاء في السلطة بدعمهم عسكريا ولوجستيا " |
أهداف أفريكوم
تسعى الولايات المتحدة من وراء إنشاء "أفريكوم" لتحقيق جملة من الأهداف منها:
جيوستراتيجيا: محاصرة نفوذ القوى الصاعدة الأخرى الآخذة في التنامي في أفريقيا خاصة الصين.
نفطيا: الهيمنة على النفط الأفريقي العالي الجودة والأقل أخطارًا والأقرب جغرافيا.
موارد أولية أخرى: كاليورانيوم حيث يوجد ثاني احتياطات العالم خاصّة في النيجر.
عسكريا: التدخل عند الضرورة في مناطق حيوية لمصالحها.
غير أنّ أميركا لم تعد ترغب في التدخل العسكري بعد تجربتي العراق و أفغانستان، وعليه يُصبح الهدف الأول حسب Daniel Volman دانيال فولمان(8) هو تقوية حلفائها من الأنظمة الأفريقية للبقاء في السلطة بدعمهم عسكريا ولوجستيا. وهي نفس السياسة التي ينتهجها أوباما الآن مع تجميلات شكلية للخطاب الجديد.
أهمّ هؤلاء الحلفاء هم الذين تختزن بلدانهم الموارد الأوّلية وعلى رأسها الموارد النفطية وهم أساسًا نيجيريا وأنغولا وتشاد والجزائر.
والذين يعملون لصالح الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب مثل كينيا وإثيوبيا والجزائر.
يتّضح أنّ اسم الجزائر في القائمتين، فهي تاسع ممول نفطي لأميركا حسب مصادر إحصائيات سنة 2009، وهي قوة أمنية وعسكرية بالغة الأهمّية في الحرب العالمية على الإرهاب.
" " |
أهداف الجزائر
أمّا بالنّسبة للشريك الجزائري فإنّ له مجموعة من الأهداف يسعى إليها وهي:
– عزل الغريم المغربي عن الساحل والصحراء الكبرى مما يُكثف حصاره أفريقيا ويُضعف على المدى البعيد سيطرته على الصحراء الغربية.
– محاصرة ومواجهة النفوذ الليبي المتزايد لدى قبائل الطوارق التي يريد العقيد القذافي أن يوحّدها ضمن ما يسمّيه وطنا قوميا للطوارق (تارغستان).
– إضافة إلى الضغط على ليبيا للاعتراف بالحدود الجزائرية معها حيث تتركز ثروات ضخمة من مخزونات المياه والنفط وربما اليورانيوم والذهب(9).
– مزيد من النفوذ في دول الجوار الصحراوي النيجر ومالي وبشكل خاص موريتانيا.
والأهم من ذلك كله المحافظة على صفة الشريك الحيوي في مكافحة الإرهاب العالمي والبروز قوة إقليمية ضرورية للإستراتيجية الأميركية والغربية، وبمقتضى ذلك توكل له –أي الشريك الجزائري– مهام الدركي للحفاظ على أمن أفريقيا الشمالية الغربية، وإن اقتضت الضرورة بالاشتراك مع نيجيريا، أمن أفريقيا الغربية أيضا. فعين قزام، وهي آخر بلدة في أقصى الحدود الجنوبية الجزائرية أقرب إلى 15 عاصمة أفريقية منها إلى العاصمة الجزائر.
أمّا أوروبا الحليفة الأولى لأميركا والشريكة لها من حيث المبدأ في هذه الإستراتيجية، فأكثر ما يُقلقها هو رفاهية شعوبها الآخذة في التدهور، فقد بنت أسوارًا حولها حتى لا تتفاقم "متاعبها" بما تسميه مخاطر الهجرة والإرهاب والجريمة المتنامية القادمة من القارة السوداء، هذه القارة التي تدير بلدانها نُخبٌ غارقة في الفساد ولكنّها تضمن نوعا من الاستقرار ولو كان بالقهر والاستبداد، وذلك هو المهم في الإستراتيجية الغربية في مطلع هذه الألفية.
هوامش:
1. http://www.pppl.gov/common_pages/national_energy_policy.html
2. زعم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير قبيل الهجوم على العراق أنّ باستطاعة صدّام حسين استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الحلفاء في ظرف 45 دقيقة.
3. وصف يُطلق على الشركات السبع الأميركية النفطية الكبرى.
4. تصريح وزير الدولة البريطاني كيم هاولز، والبارونة سايمونز في 2005.
5. بعث بوش بعدد كبير من الرسائل إلى بوتفليقة تحمل هذا المضمون وكانت الصحف الجزائرية تضعها بعناوين كبيرة على صفحاتها الأولى.
6. أسقطت المقاومة الصومالية إحدى طائرات النقل العسكري الجزائرية فقُتل فيها ستة ضباط جزائريين في 2007. وقد ذكر لي الرئيس الحالي للصومال الشيخ شريف وكان يومها لا يزال معارضا، أنّ الصوماليين استاؤوا جدّا عندما اكتشفوا أنّ الطائرة التي أسقطوها كانت جزائرية، وذلك أنّهم ما كانوا يعتقدون أن جزائر الثورة ستشارك في احتلال بلد شقيق.
7.حسبما أورده المستشار السويسري ديك مارتي في تقريره عن التسهيلات التي قدمتها الجزائر لتسهيل عمليات الترحيل القسرية التي نفذتها المخابرات الأميركية ص.16
http://assembly.coe.int/CommitteeDocs/2006/20060606_Ejdoc162006PartII-FINAL.pdf
8. مدير مشروع أبحاث الأمن الأفريقي في واشنطن.
9. لا تعترف ليبيا بالحدود الراهنة وتقول إن فرنسا اقتطعت منها ما بين ٢٠ و٣٠ ألف كيلومتر مربع وضمتها للجزائر في الخمسينيات من القرن الماضي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.