التيار الصدري وبدائل الخروج من الأزمة
رسالة أميركية
محنة الصدريين
خيار لا بد منه
توصيفات قاسية تلك التي أطلقها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قبل أيام ونعت بها أنصار التيار الصدري بأنهم مجموعة من عصابات السلب والنهب وأنهم جماعات مندسة من الصداميين والإرهابيين.
لم تدق تلك التصريحات إسفين الفصام في نعش العلاقة المتهاوية بين الجانبين بل إنها أسست لمرحلة قادمة وربما قاتمة من التصادم بين رئيس الوزراء وتيار سياسي واجتماعي عريض ظل منذ مطلع الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، يعبر عن مواقف سياسية أقل ما يمكن وصفها بأنها مشاكسة حتى مع أقرب نظرائه وحلفائه.
رسالة أميركية
لاشك أن الكلمات المختصرة التي قالها المالكي في وصف التيار الصدري وبحضرة رئيس الجمهورية جلال الطالباني، لم تكن تعبر عن توجهاته الحقيقية حيال هذا التيار الذي ما فتئ يقدم للمالكي إسنادا ودعما عجز عن تقديمه كثيرون من داخل الائتلاف وخارجه، في وقت تغاضى فيه المالكي وبهدف استمرار بقائه المهلهل في السلطة عن كم هائل من الممارسات العبثية لأنصار جيش المهدي في الشارع العراقي من قتل وتهجير وتعذيب على الهوية.
" ساعة الصفر الأميركية دقت جرسها الأخير للمالكي لكي يفصل رباطه الوثيق مع الصدريين الذين ما انفكوا يعبرون وبطرق استعراضية عن توجهات معادية للولايات المتحدة رغم انخراطهم المكثف في مشروعها السياسي المتعثر في العراق " |
ولكن كما يبدو فإن ساعة الصفر الأميركية قد دقت جرسها الأخير للمالكي لكي يفصل رباطه الوثيق مع الصدريين الذين ما انفكوا يعبرون وبطرق استعراضية عن توجهات معادية للولايات المتحدة رغم انخراطهم المكثف في مشروعها السياسي المتعثر في العراق.
إنها رسالة أميركية بامتياز أجبر المالكي على إيصالها إلى التيار الصدري رغم معرفته بما قد تتركه من آثار سياسية على مستقبله.
رسالة أراد الأميركان من خلالها تهيئة الساحة العراقية لأوضاع عسكرية وسياسية جديدة لعل أهم أبعادها الأتي:
1- ترتيب الأجواء السياسية لتصفية أنصار التيار الصدري عبر رفع الغطاء الحكومي عنهم وتكثيف العمليات العسكرية ضد أوكارهم في بغداد وبقية محافظات العراق الأخرى بهدف إنهاء تأثيرهم على الجهود الأميركية والحكومية الرامية إلى تسهيل تطبيق خطة فرض القانون الأمنية وبما يضمن نجاحها.
2- إضعاف النفوذ الإيراني المهيمن على توجهات التيار الصدري والتي توضحت معالمها في كميات الأسلحة الإيرانية الصنع التي تم ضبطها في المناطق الخاضعة لهيمنة التيار وفي القبض على عناصر قيادية في جيش المهدي اعترفت بتلقيها تدريبات عسكرية وأمنية في إيران لاستهداف الوجود الأميركي في العراق.
3- إنهاء الوجود الصدري داخل الائتلاف العراقي الذي يضم المجلس الأعلى الإسلامي وحزب الدعوة وتهيئته للدخول في تحالف سياسي جديد يضمه مع الحزبين الكرديين الرئيسيين.
تحالف أقل وصف أطلقه عليه الرئيس جلال الطالباني بأنه تحالف المعتدلين وقد يرى النور في الأيام المقبلة وهو يحظى بدعم إدارة الرئيس بوش التي تراهن على تحريك العملية السياسية لتثبيت واقعها المهزوز في الساحتين العراقية والأميركية.
4- محاولة اجتذاب واسترضاء جبهة التوافق العراقية التي عبرت في أكثر من مناسبة عن امتعاضها من سياسة التهميش التي يمارسها المالكي حيال وزرائها ومن ممارسات القتل والتهجير التي تقوم بها عصابات جيش المهدي وبغطاء حكومي ضد الأحياء السنية في بغداد.
إذ إن طرد الصدريين من الحكومة وتهميشهم في البرلمان قد يشجع القوى الاعتدالية في التوافق ولاسيما الحزب الإسلامي على إعادة النظر في قرار المقاطعة والعودة للانضمام إلى تحالف (المعتدلين) لاسيما وأن رئيس الجمهورية قد أعلن أن مجلس الرئاسة قد توصل مع المالكي إلى صيغة يتم من خلالها تفعيل آليات معينة لتشجيع التوافق على إنهاء مقاطعتها للحكومة والبرلمان.
هكذا يبدو أن قرار اجتثاث الصدريين من المعادلة السياسية الراهنة كان صناعة برع الأميركيون في إخراجها مستثمرين ضعف المالكي وحاجته إلى منقذ يرتق بعضا من أوصال حكومته المتقطعة.
والسؤال المطروح الآن هل فهم الصدريون بعضا من مضامين الرسالة الأميركية وهل أعدوا العدة لاحتواء أثارها على وجودهم السياسي؟ أم أن التردد وعدم الاستقرار في المواقف سيكون كالعادة طاغيا على أدائهم السياسي؟
" مشكلة الصدريين ليست كما يبدو في تصادمهم مع المالكي أو مواجهاتهم المستمرة مع الأميركان إنما مشكلتهم في عدم القدرة على التكيف مع الأزمات التي تواجههم وامتصاص تأثيرها على مستقبلهم السياسي مما ينتج في غالب الأحيان ردود أفعال عاطفية غير منضبطة " |
ليست مشكلة الصدريين كما يبدو في تصادمهم مع المالكي أو مواجهاتهم المستمرة مع الأميركان إنما مشكلتهم في عدم القدرة على التكيف مع الأزمات التي تواجههم وامتصاص تأثيرها على مستقبلهم السياسي، مما ينتج في غالب الأحيان ردود أفعال عاطفية غير منضبطة تعطي عن التيار صفة التذبذب وعدم الاستقرار في الأداء.
قد يعود ذلك في جانب منه لافتقار الصدريين إلى الخلفية السياسية وإلى الكوادر المؤهلة لإنقاذ التيار من سقطاته المتكررة، فالصدريون بدؤوا مسيرتهم كتيار ديني عقائدي في الأصل اتخذ من فكرة الدفاع عن حقوق المستضعفين والبسطاء سبيلا لتثبيت وجوده في الساحة العراقية.
وقد جاء انخراطه في المشهد العراقي المضطرب عنوة وكرد فعل لسياسات الاحتلال التخريبية ضد قطاعاته الشعبية المهمشة.
ونتيجة لافتقاره للخلفية السياسية وللكاريزما الملهمة فقد وقع في سقطات سياسية كبيرة أفسدت عليه شعبيته ومنعته من الاستمرار في خطه الثوري الأول الذي تصاعد قبل وأثناء معركة النجف الأولى أواخر عام 2004.
ودفعت لظهور تساؤلات مهمة حول هوية ولون التيار الصدري فيما إذا كان لونا وطنيا عراقيا أم هو لون إيراني أم هو لون يتخذ من الانتهازية السياسية سبيلا للحصول على المكاسب السياسية والمصالح السلطوية بعيدا عن أي أخلاقية وطنية؟
لقد وجدت تلك التساؤلات صداها في التذبذب والاستعجال والانتقال المفاجئ من الموقف إلى نقيضه الذي رافق الكثير من مواقف الصدريين دون أدنى إدراك منهم لآثاره السلبية على شعبيتهم التي وصلت إلى أدنى مستوياتها في الشارع العراقي.
وهكذا ففي الوقت الذي جاهر التيار الصدري بحرصه على الوحدة الوطنية وطرح أكثر من مبادرة لتوحيد جهوده مع القوى الوطنية المناهضة للاحتلال وأعلن رفضه المطلق لأي مشاريع تقسيمية للعراق بما فيها الفدرالية وقضية كركوك, نجده وعلى حين غرة يقبل الدخول علانية في مشروع الاحتلال ويرضى بتسليم أسلحته بثمن بخس ويعلن انخراطه فيما يسميه الجهاد السياسي.
وفي الوقت الذي نأى التيار الصدري عن أساليب القتل التي مورست ضد ضباط وطياري الجيش العراقي السابق وكفاءات العراق العلمية نجده ينخرط منذ تفجيرات سامراء في فبراير/شباط 2005، وعبر مليشيا جيش المهدي في أغلب أعمال القتل الطائفي وتفجير المساجد وإثارة الفتنة الطائفية دون أدنى محاولة لدرء التهم الكثيرة التي وجهت لأنصاره في هذا الجانب عدا عن بعض الإجراءات التأديبية ذات الطابع الشكلي التي أعلن عنها السيد مقتدى الصدر مرتين ضد بعض أعضاء تياره المتورطين في جرائم الإبادة الطائفية.
أما علاقته مع إيران فلا شك أنها كانت الخطيئة الكبرى التي أفقدت التيار بعده الوطني وأثبتت طائفيته السياسية، فرغم التصريحات المتكررة التي أعلن عنها قادة التيار حول رفضهم تحويل العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية مع الإدارة الأميركية، فإن دخول إيران العلني على خط الإسناد المالي والسياسي للتيار الصدري وزيارات مقتدى الصدر ومسؤولي التيار الآخرين لإيران ومكوثهم هناك ولفترات طويلة وقيام فيلق القدس بتدريب عناصر جيش المهدي على أعمال التخريب والقتل وإثارة الفتنة الطائفية قد أفسد على التيار الصدري وطنيته وأدخله كشريك فاعل في لعبة الصراع الإقليمي والدولي المتصاعد على أرض العراق الرخوة.
صحيح أن احتماء الصدريين بالمظلة الإيرانية قد جاء ووفقا لادعاءاتهم نتيجة للقصور العربي في دعم شيعة العراق ماديا ومعنويا، إلا أن الجنوح الصدري نحو إيران وما ترتب عليه من حضور إيراني مؤثر في الساحة العراقية، قد افقد القوى الوطنية قدرة التعويل على أي دور وطني للتيار الصدري في طرد الاحتلال وإجراء المصالحة الوطنية التي تبتعد بالعراقيين عن آثار الطائفية المقيتة.
" خروج التيار الصدري من الحكومة ستكون له انعكاسات على مستقبله السياسي وسيطرح تصورات مهمة حول شكل العلاقات المقبلة بين أجنحة التيار المختلفة وقدرتها على كسب الصراع داخل التيار وتوجيهه الوجهة التي تتوافق مع مصالحها وطموحاتها " |
من الواضح أن خروج التيار الصدري من الحكومة هو حدث كبير ستكون له انعكاسات على مستقبله السياسي وسيطرح تصورات مهمة حول شكل العلاقات المقبلة بين أجنحة التيار المختلفة وقدرتها على كسب الصراع داخل التيار وتوجيهه الوجهة التي تتوافق مع مصالحها وطموحاتها فضلا عن طبيعة العلاقة مع شركاء العملية السياسية ممن هم خارج الحكومة أو داخلها.
إضافة لمستقبل علاقاته مع قوات الاحتلال الأميركي والقوى الإقليمية المهيمنة في الشأن العراقي بما فيها إيران التي مازالت تملك الحظ الأوفر في قيادة التيار بما يتلاءم مع مصالحها التي تجذرت في العراق.
وعموما فإن الخيار الأول المطروح هو أن يدفع خروج التيار الصدري الحكومة إلى مزيد من الانكفاء وربما التشرذم السياسي لعناصره بسبب ممارسات القتل والمطاردة التي تقوم بها قوات الاحتلال ضدهم فضلا عن استمرار صراعاته المريرة مع القوى الشيعية المنافسة وفي مقدمتها المجلس الأعلى الإسلامي الذي يواصل محتميا بقدرات الجيش والشرطة معاركه السياسية والعسكرية لإضعاف التيار وإنهاء تأثيره في مدن العراق الجنوبية.
وبهدف تلافي هذا الخيار لا بد للصدريين من إعادة ترتيب أولوياتهم والدخول في تحالفات جديدة وإن كانت مع أعداء الأمس بمن فيهم حركة الوفاق الوطني بزعامة إياد علاوي الذي أعلن أنه سينتهي قريبا من تشكيل جبهة سياسية تخرج البلاد من حالة التخندق الطائفي وقد تضم الجبهة شطرا من أنصار التيار الصدري المؤمنين بالوحدة الوطنية.
ومع احتمال بروز هذه الجبهة فإنه من المرجح أيضا أن يحافظ أنصار آخرون من التيار الصدري على تحالفاتهم الوثيقة مع السياسة الإيرانية بهدف كسب المزيد من النفوذ والقوة في الساحة العراقية مع ما يعنيه ذلك من استمرار انغماس التيار في دائرة العنف المذهبي ولعبة التحالفات الإقليمية المشبوهة وقد يكون لتوجه السيد مقتدى الصدر إلى إيران مرة أخرى ما يساعد على بقاء هذا الاحتمال.
يبقى الخيار الآخر متمثلا في إعلان السيد مقتدى الصدر عن خروج تياره من العملية السياسية برمتها ورجوعه إلى انطلاقته الأولى كتيار ديني واجتماعي يناهض الظلم ويقاوم الاحتلال مع ما يتطلبه ذلك من تنازلات كبيرة في مقدمتها حل مليشيا جيش المهدي ومحاكمة عناصره المتورطة في تخريب الوحدة الوطنية وإعلان الخروج من أي تحالفات إقليمية مشبوهة وإنهاء القطيعة مع القوى الوطنية المناهضة للاحتلال، فضلا عن الانخراط في أعمال المقاومة المسلحة وبالتنسيق مع الفصائل الوطنية المسلحة في غرب العراق ووسطه بهدف تنسيق المواقف والاتفاق على أجندة سياسية موحدة حيال الاحتلال والمرحلة التي تعقب هزيمته في العراق.
فذلك خيار وإن كان مستبعدا في ظل واقع التيار الصدري المرتبك فإنه ليس خيارا مستحيلا إذا ما استطاعت قوى التيار الصدري الوطنية من إعادته إلى سكته الأولى وإقصاء العناصر التي ألبسته لبوسا طائفيا شريرا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.