تركيا وخيارات المواجهة مع حزب العمال الكردستاني
– كوابح التصعيد التركي
– رؤية جديدة للتعامل مع الأكراد
– ارتباك أميركي مقصود
يظهر التصعيد العسكري والسياسي المتواصل الآن على طرفي الحدود العراقية التركية قلقا وهما متزايدين لحكومة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ربما لم يكن موجودا لدى أي من الحكومات السابقة.
فما بين إبقاء نزعة التحدي لحزب العمال الكردستاني للأمن القومي التركي ورغبة الإجهاز على قواعده ومرتكزاته بضربة عسكرية حاسمة، تتأرجح خيارات الحكومة التركية وربما تتعقد في ظل ضغوط داخلية وعوائق إقليمية ودولية لم يعد بالإمكان تغافل تأثيرها على مستقبلها السياسي.
كوابح التصعيد التركي
لا شك في أن من يتطلع إلى لغة التهديد والوعيد التي يطلقها الساسة والعسكريون الأتراك ضد عناصر حزب العمال وقيادات الأحزاب الكردية في العراق، يدرك أن الأيام المقبلة ستكشف عن عمل عسكري ساحق ستقوم به حكومة أردوغان ضد قواعد الحزب في شمال العراق يعينها على دخول الانتخابات التشريعية المقبلة بثقل كبير.
غير أن المتفحص لواقع السياسة التركية يدرك أن تبني خيار كهذا لم يعد أمرا متاحا وستترتب عليه عواقب وخيمة، ليس لتكلفته العسكرية وإنما لمتغيرات داخلية وخارجية أخذت تضغط على القرار التركي، لعل أبرزها:
1- التطور الذي طرأ على أساليب القتال لحركات التمرد والمقاومة المسلحة، التي بدأت بتبني أساليب متطورة في التدريب على حروب الشوارع والجبال، ما يصعب على الجيوش التقليدية متابعتها والمطاولة معها.
وهكذا فبالنسبة لجيش تقليدي كبير الحجم كالجيش التركي يصعب عليه تشتيت جهده في حرب استنزافية لملاحقة مجموعات صغيرة من مقاتلي حزب العمال قادرة على المناورة والاختباء في الكهوف والجبال الوعرة وإعادة الكرة في أوقات أخرى. وتظهر الورطة الأميركية مع فصائل المقاومة العراقية وتطوير الأخيرة لأساليب ووسائل قتالية جديدة في مواجهة الآلة العسكرية الكبيرة للجيش الأميركي صعوبة إحراز نصر عسكري على مجاميع عسكرية صغيرة تتبنى باستمرار أسلوب الكر والفر في مواجهاتها العسكرية.
" أي هجوم عسكري على قواعد حزب العمال سيستغرق وقتا أطول مما يحسب له، وهو ما يدخل الاقتصاد التركي في استنزاف متواصل يقضي على كل مؤشرات النمو التي حققتها حكومة العدالة والتنمية في سنوات حكمها الماضية " |
2- لا شك في أن أي هجوم عسكري على قواعد حزب العمال سيستغرق وقتا أطول مما يحسب له، وهو ما يدخل الاقتصاد التركي في استنزاف متواصل يقضي على كل مؤشرات النمو التي حققتها حكومة العدالة والتنمية في سنوات حكمها الماضية.
فبفضل أسلوب الحكم الرشيد الذي تم تبنيه في مكافحة الفساد المالي وتوفير فرص العمل ورفع مستوى المعيشة للطبقات الفقيرة والانفتاح على الخارج لجلب الاستثمارات الخارجية، حقق الاقتصاد التركي قفزات كبيرة وخرج من أزماته السابقة في المديونية والبطالة وغيرها، من هنا فإن أي مغامرة عسكرية غير محسومة النتائج ستعود بالاقتصاد التركي إلى حافة الإفلاس والانهيار.
3- إن أي هجوم عسكري على قواعد حزب العمال سيوجه ضربة قاصمة للعلاقات الأميركية التركية المتوترة أصلا على خلفية رفض حكومة العدالة والتنمية المشاركة في حملة الاحتلال الأميركي للعراق، إذ إنه سيقوض الجهود الأميركية لتثبيت حكومة نوري المالكي الضعيفة أصلا ويوجه ضربة مؤثرة لأهم حلفاء أميركا في العراق من الأحزاب الكردية التي ما فتئت الولايات المتحدة تقدم لها كل أسباب المساندة لضمان بقائها في العملية السياسية التي تحرص إدارة الرئيس بوش على ديمومتها في العراق.
4- سيثير أي عمل عسكري مشاعر الاستياء الدولي والأوروبي حيال حكومة أردوغان الإسلامية، ويرفع من تعاطف الشارع الأوروبي مع قضية حزب العمال.
فمن المعلوم أن تحسين سجل تركيا في ميدان حقوق الإنسان -لا سيما للجماعات المهمشة كالأكراد- بات من أهم اشتراطات الأوروبيين حيال انضمام تركيا إلى منظومتهم السياسية والاقتصادية.
رؤية جديدة للتعامل مع الأكراد
اظهر أداء حكومة العدالة والتنمية في التعامل مع الملف الكردي تصورا مختلفا عن سابقاتها، فهو أداء مازج بين القوة والسياسة أو بتعبير أدق بين البندقية وغصن الزيتون.
فبينما لم تتخلف حكومة أردوغان عن توظيف قوتها العسكرية لقمع التمرد الكردي الذي عاود نشاطه بعد العام 2003، لم تتردد كذلك في الإعلان -وبتحد صارخ للمؤسسة العسكرية- عن عزمها اتخاذ إصلاحات سياسية واقتصادية لحل المشكلات التي تعترض سبيل الوحدة الوطنية التركية، وأهمها مشكلة الهوية والاندماج للجماعات المتمردة وفي مقدمتها الأكراد.
وعلى أثر هذا التوجه قام رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في يونيو/حزيران 2006 بأول زيارة لمناطق جنوب شرق الأناضول، حيث اطلع على أهم مشكلات المجتمع الكردي المتعلقة بالمنع الثقافي والحرمان الاقتصادي وارتفاع البطالة والفقر.
ومن هناك أعلن أردوغان وبشكل صريح وجود مشكلة كردية وأخطاء ارتكبت في حلها وأكد الحاجة إلى حل سياسي حقيقي، ورغم أن تصريحاته تلك لقيت معارضة قوية من التيار القومي المتشدد والمؤسسة العسكرية التي اعتبرتها تشجيعا للتطرف والتمرد الكردي، فإن الحكومة مضت بتوجس في بعض الإجراءات التي تؤشر على تفضيلها للحلول السلمية على العسكرية.
ومن أهم هذه الإجراءات السماح لأول فضائية كردية ببث برامجها لعدة ساعات يوميا، فضلا عن سماحها لجامعة إسطنبول بعقد أول مؤتمر عالمي دعيت له أبرز الشخصيات الفكرية لبحث مستقبل المسألة الكردية، وهو تطور ما كان ليحصل لولا رغبة الحكومة التركية في تهيئة الأجواء السياسية والمناخات الفكرية لقبول حلول سلمية للمسألة الكردية في السنوات المقبلة.
" تعزيز الحقوق الثقافية الكردية والاعتراف بوجود أخطاء سياسية ارتكبت سابقا والقبول بمنهج التفاوض مع طرف ثالث هم أكراد العراق لإيجاد آليات سلمية لحل إشكالية حزب العمال سيلغي عسكرة المسألة الكردية ويؤسس لتوجه واقعي جديد " |
ولعل أهم المؤشرات التي يمكن استشفافها من التوجه التركي الجديد:
أولا– انتهاء التصور الأمني والعسكري للمسألة الكردية المتمثل في وجود مجموعة إرهابية خارجة عن القانون يمثلها حزب العمال تسعى إلى زعزعة استقرار وأمن الدولة التركية.
فتعزيز الحقوق الثقافية الكردية والاعتراف بوجود أخطاء سياسية ارتكبت سابقا والقبول بمنهج التفاوض مع طرف ثالث هم أكراد العراق لإيجاد آليات سلمية لحل إشكالية حزب العمال، سيلغي عسكرة المسألة الكردية ويؤسس لتوجه واقعي جديد ليس أقله احتمالية الاعتراف بحقوق الشعب الكردي في إطار الدولة التركية، كما هو حاصل مع أكراد العراق.
ثانيا– وارتباطا بذلك فإن أي اعتراف تركي بتلك الحقوق يعني إعلانا صريحا بموت المفهوم الكمالي للدولة التركية الذي ينطلق من مفهوم أحادية العرق أساسا للدولة القومية.
فحكومة أردوغان بدأت بالاقتراب التدريجي من الفهم الواقعي لمفهوم الأمة أو الدولة القومية الذي لم يعد في عصر العولمة مستندا إلى وحدة العرق أو القومية أو الدين وإنما إلى قوة الانتماء إلى الدولة بين أفرادها، بما يعنيه من تعزيز للآليات السياسية التي تقوي من مفهوم الولاء والمواطنة للدولة عند جميع الأتراك بغض النظر عن تمايزاتهم القومية واختلافاتهم الدينية.
ثالثا- سيكون لتجربة أكراد العراق أثر مهم في انفتاح الحكومة التركية حيال أكرادها، إذ إن واقع القوة والنفوذ الذي أخذت تتمتع به قيادات الأحزاب الكردية في المشهد السياسي العراقي سيكون له إسقاط واضح في تصاعد مطالب أكراد تركيا للحصول على الحد الأدنى من حقوق أقرانهم العراقيين.
وقد أثبت التصعيد الأخير للعنف على الحدود العراقية التركية حجم التأثير الذي أخذت تمارسه القيادات الكردية العراقية في دعم مطالب حزب العمال السياسية، ما حدا بالحكومة التركية إلى الإعلان وللمرة الثانية عن رغبتها في إجراء مفاوضات مباشرة مع حكومة إقليم كردستان لوضع حد لمشكلة التمرد المنطلق من أراضي الإقليم ضد أمنها القومي.
إن تلك ولا شك مؤشرات مهمة على أن الحكومة التركية أميل إلى الحل السلمي منها إلى استخدام العصا العسكرية التي بينت السنوات السابقة فشلها في قلع الشعور القومي الكردي، وهي مؤشرات قد يكون لها وقع ومصداقية عالية نظرا لحجم التأييد الذي أخذت تحرزه حكومة العدالة في الشارع التركي بسبب إنجازاتها الاقتصادية وواقعيتها السياسية.
ارتباك أميركي مقصود
لعل أكثر ما يثير الاستغراب في المواجهة المحتدمة بين تركيا والأكراد هو الجمود في الموقف الأميركي من الأزمة الراهنة، والاكتفاء بالتصريحات الداعية إلى ضبط النفس وعدم اللجوء إلى الخيار العسكري، وهو موقف لا يرتقي إلى حجم العلاقة الإستراتيجية التي تربط الولايات المتحدة بتركيا ولا إلى أهمية النظرة التي تخص بها الإدارة الأميركية حكومة العدالة والتنمية باعتبارها نموذجا متميزا للإسلام السياسي المعتدل الذي يمكن تقديمه لدول الشرق الأوسط بديلا عما تسميه الإسلام المتطرف.
فرغم أن حزب العمال الكردستاني ما زال يصنف وفقا للأجندة الأميركية بأنه حزب إرهابي، وأن القوات الأميركية وعدت غير مرة بأنها ستعالج مشكلة وجود مقاتلي الحزب في شمال العراق وتغلق مقراتهم وتمنع نشاطاتهم المسلحة في جنوب شرق تركيا، فإنها لم تتخذ أي إجراءات فاعلة بهذا الشأن.
" مع أن القوات الأميركية وعدت غير مرة بأنها ستعالج مشكلة وجود مقاتلي الحزب شمال العراق وتغلق مقراتهم وتمنع نشاطاتهم المسلحة في جنوب شرق تركيا، فإنها لم تتخذ أي إجراء فاعل بهذا الشأن " |
بل إنها غضت الطرف عن نشاطات الحزب التي تصاعدت في الآونة الأخيرة ضد الجيش التركي، وسمحت للقيادات الكردية العراقية بأن تكون طرفا فاعلا في معادلة الصراع مع الحكومة التركية ومفاوضا لها بدلا عن الحكومة المركزية العراقية التي اتخذت موقف المتفرج إزاء تهديدات رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني في أبريل/نيسان 2008 بالتدخل المباشر لدعم متمردي حزب العمال، وهو ما رفع من حجم الهواجس التركية من مخاطر الرعاية الأميركية لملف أكراد العراق وعموم أكراد الشرق الأوسط، حيث باتت تلك الرعاية تحمل أكثر من معنى للحكومة التركية، لعل في مقدمتها محاولة إبعاد تركيا عن تطورات الملف الكردي في العراق، حيث تحرص إدارة الرئيس بوش على ضمان تمتع الأكراد بكل مميزات مرحلة ما بعد الاحتلال في الفدرالية وتقاسم الثروة وضم كركوك وغيرها، بهدف تأكيد ولائهم للعملية السياسية المتعثرة في بغداد.
فضلا عن ضمان ابتعاد دول الجوار عن الانغماس بتفجير الوضع في العراق وزيادة الورطة الأميركية هناك، فمن الواضح أن لتركيا استحقاقات سياسية كبيرة في العراق ومخاوف ومآخذ واضحة على سوء إدارة الحرب هناك، وما زالت الإدارة الأميركية حسب الرؤية التركية تتجاهل كل تلك المخاوف وتتعامل مع تركيا بطريقة متعالية، بل ربما ثأرية تستحضر من خلالها الإحجام التركي عن المشاركة في حرب احتلال العراق عام 2003.
وعموما فمهما يكن حجم الحشود العسكرية وقوة التصريحات التي يطلقها الساسة والعسكريون الأتراك حيال أزمة حزب العمال فإننا نعتقد بأن وراءها مقاصد ورسائل سياسية بالدرجة الأولى تسعى أنقرة لإيصالها إلى أطراف الأزمة الآخرين.
وفي مقدمة هذه الأطراف القيادات الكردية العراقية، ومفادها بأن الحكومة التركية التي قبلت على مضض وتحت ضغوط أميركية واضحة بنمو واستمرار التجربة الكردية في شمال العراق، لن تسمح باستنساخ تلك التجربة في أراضيها، وهي مستعدة لتبني كل الخيارات اللازمة لمنع هذا الأمر.
ونعتقد من تطورات الأزمة الراهنة بأن رسائل التهدئة والدعوة إلى الحوار التي بدأت تطلقها القيادات الكردية ومن خلفها الحكومة العراقية، دليل مؤكد على فهم جلي لمضامين الرسالة التركية، ولكننا لا ندرك إن كانت العبرة بالفهم أم بالتطبيق.
_________________
كاتب عراقي
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.